تفسير القرآن
الذاريات / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 14

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 14
 

سـورة الذاريـات
ـ مكية ـ وآياتها ستون

في أجواء السورة

هذه السورة التي سميت باسم أوّل كلمةٍ فيها، هي من سور العقيدة التي كان القرآن المكي يستهدف تعميقها في وجدان الإنسان الإيماني، ليبعد الذهنية العامة في تلك المرحلة وفي كل مرحلة، عن الشرك العقيدي أو العبادي الذي يتحول إلى ما يشبه الفوضى الروحية، حيث يعيش الإنسان الحيرة والتخبط بين أصناف الآلهة المتعددة بتعدد القبائل والبلدان والأشخاص، مما لا يستقر معه على قاعدةٍ ثابتةٍ توجّه حياته في اتجاه صحيح.

ومن هنا، كان تأكيد السورة على التوحيد الذي يرى الإنسان به الله وحده؛ في الرزق الذي هو في السماء في ما يقدره الله للإنسان في الأرض، وما يمنحه من الطمأنينة في تقديره الذي يغطي للإنسان حاجاته، فلا يحس بالضياع معه، وفي تخطيطه التشريعي، فلا يشعر معه بالأنانية، بل يطل من خلاله على السائل والمحروم، ليكون ذلك عنواناً من عناوين التقوى.

ثم يثير الحديث عن العبادة ليجعل منها غاية خلق الجنّ والإنس، بمعناها الذي يطال كل شؤون الحياة، ليلتقي الإنسان بها من وحي الوحدة في التصور والتوجه والانقياد والتخطيط لكل ما حوله مما يتصل بعلاقة الإنسان بالله ودوره في الحياة، في ما تفرضه هذه العلاقة من شروط وأوضاع.

وفي هذا الجو كلّه، تنفتح السورة على خلق الأرض التي مهّدها، وبنيان السماء التي تتسع وتتسع في علم الله بقوّته التي لا يعجزها شيء، وحركة الزوجية في الكون.

ويتصل ذلك كله بالمعاد، باعتبار أنه المضمون الروحي للمسؤولية، والغاية التي تخرج الحياة من العبثية، ليكون الإيمان بالتوحيد في خط الرسالة حركةً إيمانيةً عملية تتعلق بالمعاد كنتيجة نهائيةٍ لوعي المسؤولية في حركة الحياة والإنسان.

وتتحرك السورة مع إبراهيم ولوط وموسى ونوح وصالح وهود (عليهم السلام)، ومع الأمم التي عاشوا معها، في حركةٍ سريعةٍ أثارت بعض القضايا وأشارت إلى مواقع الإنذار، فربطت تاريخ الرسالة الأخيرة بتاريخها القديم، ليتصل الحاضر بالماضي في الأسس العامة للرسالة في فاعليتها وجهادها وصبرها وحركتها وكل مواقعها في ساحة الصراع.

ــــــــــــــــــــــ

الآيــات

{والذاريات ذرواً* فالحاملات وِقراً* فالجاريات يُسراً* فالمقسماتِ أمراً* إنّما توعَدون لصادقٌ* وإنّ الدّين لواقعٌ* والسمآء ذات الحُبُك* إنكم لفي قولٍ مختَلِفٍ* يؤفَكُ عنه مَن أُفِكَ* قُتِل الخرّاصون* الذين هم في غمرةٍ ساهون* يسألون أيّان يوم الدين* يوم هم على النار يُفتنون* ذوقوا فتنتَكُم هذا الذي كنتم به تستعجِلون} (1ـ14).

* * *

معاني المفردات

{وَالذارِيَاتِ}: جمع ذارية، من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً إذا طيّرته.

{فَالْحَامِلاتِ}: السحاب.

{فَالْجَارِيَاتِ}: السفن.

{الْحُبُكِ}: الطرائق الحسنة.

{مُّخْتَلِفٍ}: متناقض.

{يُؤْفَكُ}: يصرف.

{الْخَراصُونَ}: الكذابون.

{غَمْرَةٍ} هنا: بمعنى شبهة وغفلة، أي: غمرهم الجهل.

{يُفْتَنُونَ}: يعذّبون.

* * *

والذاريات ذرواً

{وَالذارِيَاتِ ذَرْواً} الواو للقسم، المراد بالكلمة الرياح الذي تذرو التراب، وربما يمتد المعنى ليشمل ما تذروه من حبوب لقاحٍ وسحابٍ وغيرهما مما يمكن أن تتسع له الكلمة في المعنى الشموليّ الذي يطلّ على ما كان الإنسان يجهله من مواقعها في الذهنية العامة المألوفة.

{فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} أي السحب الحاملات الماء الذي يثقلها، يسوقها الله إلى حيث يريد من مواقع نزول المطر، {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} وهي السفن التي تخضع في سيرها في البحار والأنهار لقوانين إلهية تتصل بحركة الماء والريح، تجعل من ذاك السير يسيراً وسهلاً على سطح الماء بقدرة الله سبحانه.

{فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً} والمرويّ، أن المراد بها الملائكة التي تحمل أوامر الله في أرزاق العباد وأوضاعهم وأعمارهم، مما جعله الله من مهمّاتهم في دائرة أدوارهم الواقعية العملية.

ولعلّ القسم بما مرّ، يوحي بالتدبير الإلهي الذي يطّلع عليه الإنسان بإحساسه الخارجي أو الداخلي، من أجل أن يتعمّق وعيه بأنه لا يعيش في كونٍ ضائعٍ في حركته وفي أوضاعه، بل يعيش في كونٍ منفتحٍ على الله في رعايته وعنايته، خاضعٍ لتدبيره في ما خلقه الله من الوسائل التي تحرك النظام الكوني والإنساني بحكمته، وقد جاء في تفسير الميزان أن: «الآيات الأربع ـ كما ترى ـ تشير إلى عامّة التدبير، حيث ذكرت أنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البرّ وهو الذاريات ذرواً، وأنموذجاً مما يدبّر به الأمر في البحر وهو الجاريات يُسراً، وأنموذجاً مما يدبّر به الأمر في الجوّ وهو الحاملات وقراً، وتمّم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير وهم المقسّمات أمراً»[1].

وهو التفاتٌ لا يخلو من طرافة.

وقد جاء في البحار أن ابن أبي الكوّاء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «ما {وَالذارِيَاتِ ذَرْواً}؟ فقال: الرياح، فقال: وما {فَالْحَامِلاتِ وِقْراً}؟ قال: السحاب، قال: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً}؟ قال: الفُلك، قال: {فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً}؟ قال: الملائكة»[2]، وقد ورد الحديث عن ذلك في تفسير ابن كثير[3].

وعن الفخر الرازي في التفسير الكبير، أن الأقرب حمل الآيات الأربع جميعاً على الريح، فإنها كما تذرو التراب ذرواً، تحمل السحاب الثقال، وتجري في الجو بيسر، وتقسم السحب على الأقطار من الأرض[4]. ولكن لا شاهد له، بالإضافة إلى أنه قد لا ينسجم، بحسب التعبير البلاغي، مع بعض الكلمات؛ والله العالم.

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} هذا هو جواب القسم الذي أراد الله فيه أن يؤكد لهؤلاء الذين يقفون ضد الرسالة، صدق الحديث عن المعاد الذي يواجهون فيه الموقف أمام الله، {وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ} وهو الجزاء بالإحسان لمن عمل إحساناً وبالسوء لمن عاش حياة السوء.

وفي ضوء ذلك، لا بد لهم من الالتفات إلى ذلك، والاستعداد له، ليبتعدوا عن مواقع الهلاك في المصير.

* * *

قُتلَ الخرّاصون

{وَالسَّمَآء ذَاتِ الْحُبُكِ} التي بناها الله بتناسق محكمٍ في نظامه، تماماً كما هو الزرد المنسّق المتشابك المتداخل الحلقات، كما قيل، ويذكر سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» أن هذه «قد تكون إحدى هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعّدةً تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح، وقد يكون هذا وضعاً دائماً لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة»[5].

{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} وهذا هو جواب القسم بالسماء، الذي يريد أن يؤكد واقع القول المختلف في مضمونه وأبعاده، فلا يرجع إلى قاعدة واحدةٍ، لأن الرأي عندهم يخضع للظن والتخمين، دون اعتماد الأسس العلمية التي تؤدي إلى اليقين في مواقع الحوار مما يمكن أن يلتقي عليه الجميع. ولعل مكمن التناسب بين السماء ذات الحبك والتأكيد على القول المختلف، هو أن التناسق في السماء ينبغي أن يوحي لهم باتخاذ موقف متناسق يقوم على قاعدة ثابتةٍ، خلافاً لما هم عليه من اختلاف في مواقفهم ومواقعهم، {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي.

{قُتِلَ الْخَراصُونَ} الذين يبنون أحكامهم وقناعاتهم على الظنّ والحدس، فيسيئون إلى الحقيقة، عندما يبعدونها عن العناصر اليقينية التي تؤكدها وتفتح عليها أكثر من نافذةٍ. والدعاء عليهم بالقتل والهلاك أسلوب كنائيٌّ للدعوة إلى سقوط مثل هذا الأسلوب في تكوين القناعات.

{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} أي في غفلة واستغراق في الأضاليل والأوهام التي يحركونها في خيالاتهم، فيقودهم ذلك إلى السهو عن الله وعن حقائق العقيدة، فيتساءلون فيما بينهم، تساؤل الحائر الذي لا يجد أمامه ما يخلّصه من حيرته، تماماً كما لو كان بعيداً عن مواقع المعرفة وهي مطروحةٌ بين يديه، ولكن غفلته هي التي تبعده عنها {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ}كما لو كانوا لا يعرفونه، فهم ينكرونه من قاعدة العناد والاستكبار، لأنهم لا يريدون الاعتراف بالحقيقة الإيمانية الصارخة.

وتأتي الآية لتصدمهم بما سيواجهونه من حرارة نار جهنم ولهيبها، كأنها تقول: هل هم جاهلون بهذا اليوم؟ {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يختبر بالنار جوهرهم الحقيقي كما تختبر جودة المعدن في النار، وهو واردٌ على سبيل الكناية للتعبير عن الإحراق والتعذيب، {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أي ما يخصكم من العذاب، {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في ما كنتم تتحدثون عنه بطريقة السخرية والاستهزاء.

ــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:18، ص:369.

(2) البحار، م:13، ج:40، باب:93، ص:328، رواية:54.

(3) قال شعبة بن الحجاج عن سماك، عن خالد بن عرعرة، أنه سمع علياً رضي الله عنه، وشعبة أيضاً عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، أنه سمع علياً رضي الله عنه، وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه صعد منبر الكوفة، فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى، ولا عن سنّة عن رسول الله(ص) إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله تعالى: {والذاريات ذرواً}؟ قال علي رضي الله عنه: الريح، قال: {فالحاملات وِقراً}؟ قال رضي الله عنه: السحاب، قال: {فالجاريات يسراً}؟ قال رضي الله عنه: السفن، قال: {فالمقسمات أمراً}؟ قال رضي الله عنه: الملائكة.

[ابن كثير، أبو الفداء، إسماعيل بن كثير القرشي، تفسير القرآن العظيم، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ج:4، ص:375].

(4) انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:3، م:14، ج:28، ص:195.

(5) قطب، سيد، في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:5، 1386هـ ـ 1967م، م:7، ج:27، ص:573.