تفسير القرآن
الذاريات / من الآية 15 إلى الآية 19

 من الآية 15 الى الآية 19
 

الآيــات

{إن المتقين في جناتٍ وعيون* آخِذين مآ آتاهم ربّهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين* كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون* وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم} (15ـ19).

* * *

معاني المفردات

{يَهْجَعُونَ}: الهجوع: النوم ليلاً.

* * *

المتّقون في جنات وعيون

وهذا نموذجٌ آخر يختلف عن نموذج المكذبين، فهؤلاء عاشوا تقوى الفكر، فآمنوا بالعقيدة من موقع اليقين القائم على العلم المنفتح على الحوار وعلى رحاب الحجة والبرهان، وعاشوا الإيمان من موقع الالتزام والانضباط على الخط الذي لا يهتز ولا ينحرف.

{إنّ المتقين في جناتٍ} تمتد فيها الخضرة امتداد البصر، وتتدلى فيها الفواكه والثمار المتنوعة من الأشجار الكثيرة المختلفة في خصائصها، {وَعُيُونٍ} تتفجر بالماء الصافي الزلال العذب، {آخِذِينَ مَآ آتاهُمْ رَبُّهُمْ} من النعيم الذي أعده الله لعباده المتقين الذين أحسنوا العمل. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} إحسان الطاعة في القول والعمل وفي بناء العلاقات والمنهج المتبع. ولم تكن الطاعة لديهم حالةً طارئةً، كما هي الحالات السريعة التي تأتي ثم تذهب، بل كانت قضية روحية يتحرك بها العقل والشعور لاتصالهما في عمق الكيان بالله الواحد الرحمن الرحيم.

* * *

المتقون طلّقوا هجوع الليل

{كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فهم في شغلٍ عن النوم، لاهتمامهم بعبادة الله في هذا الهدوء الساجي الممتد في قلب الظلام الذي تصفو فيه العبادة، ويحلّق فيه الفكر، ويرتاح فيه الشعور، حيث يبحثون في الليل عن الصفاء الروحي يجلسون فيه إلى أنفسهم بين يدي ربِّهم، ليكتشفوا، في هذه اليقظة الصافية التي يخيّم عليها الهدوء، نقاط الضعف والقوّة في داخلهم، ليعملوا على تجاوز نقاط الضعف وتأكيد نقاط القوة. وبذلك، فهم على استعدادٍ دائمٍ للتضحية بالراحة التي يجلبها النوم إلى أجسادهم لينفتحوا على آفاق روحية جديدة، بالبعد عن الضجيج النهاري الذي يُشغل الإنسان عن التأمل في نفسه كما يبعده عن معرفة عمق شعوره وفكره ووجوده.

وهم فوق ذلك {وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ليتخففوا من الإحساس بعقدة الذنب أمام الله، فيطلبون منه أن يغفر لهم خطاياهم التي لم يتعمّدوها أو التي تعمّدوها، غفلةً منهم عن تأثيراتها السلبية المؤثرة على علاقتهم بالله، وهم يشعرون بالحاجة إلى التراجع عن تلك الخطايا وتصحيحها في أوقات السحر، حيث يشيع الصفاء والهدوء، إحساساً بالخشوع يزحف إلى روح الإنسان المذنب ويوحي إليه أن المغفرة تطلّ عليه من أوسع آفاق الرحمة الإلهية.

وذلك هو شأن الاستغفار الذي ينطلق إلى الله في ابتهال الخاشع، كما ينطلق إلى أعماق الذات في عملية تصفية روحية تدفع الإنسان إلى مواقع الصفاء.

* * *

في أموال المتقين حق للسائل والمحروم

{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} فهم لا يعيشون أنانية الاستحواذ في ملكية المال، ولا يعتبرون المال شأناً خاصاً يملكون حرية التصرف فيه بطريقةٍ مختنقةٍ ضيقةٍ بخيلةٍ تتعقد من العطاء ولا ترى نفسها مسؤولة عن مشاركة الآخرين فيه، بل يعتبرون الملكية مسؤولية إنسانية، ويرون في المال أمانةً إلهيّةً تفرض عليهم إدارتها بالطريقة التي تحقق رضى الله الذي أعطى الإنسان المال، ووضع لإِنفاقه وتحصيله حدوداً، وأراد له مشاركة الآخرين فيه، بطريقةٍ أو بأخرى، وأعطاهم وأعطى هؤلاء الآخرين حقّ الحصول على بعضٍ منه، ولا سيّما من كان منهم صاحب حاجة إلى سؤال الناس، أو كان محروماً من فرص العيش الكريم، بحيث ينظرون إلى الملكية كوظيفةٍ اجتماعيةٍ متداخلةٍ مع الحالة الإيمانية، وإلى المال كأمانةٍ إلهيّةٍ، ويمارسون ذلك عملياً في الحياة، وهذا ما يجعل الإنفاق من أعمال الخير الذي ينطلق من علاقة المؤمن بالله ليحدد علاقته بالإنسان.