من الآية 20 الى الآية 23
الآيــات
{وفي الأرض آياتٌ للموقنين* وفي أنفسكم أفلا تُبصِرون* وفي السماء رزقكم وما توعدون* فوربِّ السماء والأرض إنه لحقٌ مثل ما أنّكم تنطِقون} (20ـ23).
* * *
في الأرض والأنفس آيات للموقنين
{وَفي الأرْضِ آياتٌ لّلْمُوقِنِينَ} في ما أودع الله من أسرار الوجود مثل إبداعه مخلوقات حيّة متنوعة بأجهزتها وأدوارها وخصائصها وأشكالها، في ما يسكن في سطحها، أو يسبح في فضائها، أو يمخر في مائها، أو يختبىء في مغاورها وكهوفها، أو يختفي في مساربها وأجوافها، ولكلّ مخلوق من تلك المخلوقات غذاءٌ يتناسب مع خصائصه، وظروفٌ تنسجم مع طبيعة حياته.. وإبداع مخلوقات نامية من النباتات تتغذى من العناصر المبثوثة في التراب، أو السابحة في الأجواء، وتتشكل بأشكال مختلفةٍ، وتشتمل على خصائص متنوعة تتناسب مع حاجة الأحياء والحياة، ومخلوقات جامدة تتكشف عن أسرار الإبداع في طبيعة الخصائص الغريبة... وقوانين طبيعية أودعها الله في عمق حركة الأرض الكونية السائرة ضمن نظام بديعٍ متقنٍ لا ينحرف عن مساره الطبيعي قيد شعرة.
مع هذا التنوع في مشاهد الأرض وأوضاعها، من وهاد وبطاح، ووديان وجبال، وبحار وبحيرات، وأنهار وغدران، وقطع متجاورات، واختلاف طبائع هذه الأشياء في جمالها وأوضاعها، وحاجة الحياة إليها في تكامل الوجود إلى خصائص الموجودات، فإنها مهما اختلفت، إلاّ أن في داخل كلَ منها سراً يوحي بوجود حكمةٍ في مواقعها، ما يؤكد لأصحاب الذهنية الواعية أن هناك خطّة مبدعة دقيقة، متصلة الأجزاء، موصولة الحلقات، متعددة المواقع، بحيث لا مجال للصدفة في كل ظواهرها ومظاهرها وأعماقها، فلا بد من أن يكون هناك قوّةٌ خالقةٌ حكيمةٌ بديعةٌ وراء ذلك كله، وهي قوة الله الذي أبدع كل شيء وأعطى كل موجود خلقه، وأودع فيه سرّ الحكمة والتدبير، الذي يستلهمه أهل اليقين في صفاء الفكر والروح والوجدان، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} كل هذا النظام العجائبي المتقن في هذا الجسد المحدود الذي يشتمل على أجهزة معقّدة يمثل كل واحد منها نظاماً مستقلاً يتكامل مع أنظمة أجهزة الجسد الأخرى، سواء ما كان متعلقاً بالجانب المادي منها أو بالجانب الروحي؛ فكيف تتم عملية الهضم والامتصاص، وعملية التنفس، ودورة الدم في القلب والعروق، والجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم، والغدد وإفرازها وعلاقتها بنموّ الجسم ونشاطه وانتظامه، وتناسق هذه الأجهزة وتعاونها، وانسجامها الكامل الدقيق، وعملية التفكير واختزان المعلومات وتحريكها وتنسيقها وإدارتها والخروج منها بنتيجةٍ جديدةٍ وبعلم جديدٍ، وانطباع الصور في الذاكرة، وبروزها عند الحاجة، والمساحة التي يأخذها كل هذا العالم الفكري الواسع، المتنوع المفردات والأوضاع والأسرار من هذا الجسد؟؟
ثم عملية التناسل والتوالد وقانون توارث خصائص الآباء والأجداد، ضمن خليةٍ واحدةٍ تحمل أسرار ذلك كله، فكيف حدث هذا، ومن الذي أبدع السرّ في داخله؟
ثم تنوّع خصائص البشر ألواناً وأشكالاً وطاقات عقلية وجسدية، واستقلال كل مخلوق منهم في خصائصه بحيث لا يلتقي فردٌ مع فرد آخر فيها، كما نلاحظه في اختلاف الأصوات وفي بصمات الأصابع التي لا يماثل واحد منها إِصبعاً آخر في جميع العصور؟
وهكذا إذا ما غاص الإنسان في عالم نفسه المملوء بالأسرار، وجد نفسه في متاهاتٍ من العوالم المتنوعة، لا يخرج من عالمٍ إلا ليدخل في عالمٍ آخر مستقل عنه، دون أن يصل إلى نهايته، بل يبقى هناك مجال الوصول إلى اكتشاف جديدٍ ومعرفةٍ جديدةٍ في كل العوارض والطوارىء التي تتصل بحركة الوجود في داخله وخارجه، ما يدل دلالة واضحة بالرؤية العقلية والحسية على القدرة الخالقة الحكيمة التي تدبر ذلك كله، وتخطط له.
* * *
الرزق في السماء
{وَفِي السَّمَآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} ما معنى وجود الرزق في السماء؟ قد يكون المراد به أسبابه كالمطر النازل من السماء، فإن الماء المنهمر من السماء هو الذي يمنح الإنسان الرزق في ما يحيي به الأرض، أو يروي به المخلوقات الحيّة، وما يهيىء له من وسائل حياته من خلال ذلك كله من غذاءٍ ولباسٍ وانتفاعاتٍ عامّة.
وقد يكون المراد بالكلمة المعنى الإيحائي الذي يلتقي بالتقدير الإلهي لأرزاق العباد، ما يجعلهم مشدودين إلى الله في كل تطلعاتهم وفي كل تمنياتهم وحاجاتهم، باعتبار أنه المصدر الحقيقي للرزق، ليعيش الإنسان الإيمان بالله والاعتراف بالحاجة إليه في كل أموره بالمستوى الذي يربط كل مفردات حاجاته اليومية به، وهذا ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر: 21).
أمّا المراد بقوله: {وَمَا تُوعَدُونَ}، فقد ذكر أنه الجنة التي وعد الله عباده بالغيب.. وقيل: إن المراد به أسباب الرزق وهو غير ظاهر. {فَوَرَبّ السَّمَآء وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} الظاهر أن الضمير راجعٌ إلى الوعد الإلهي في ما يعد الله به عباده، ليتأكدوا من ذلك ويستعدوا له، وليؤمنوا به كحقيقةٍ حاسمة، تماماً كما هو إيمانكم بالنطق الذي يصدر منكم وإحساسكم القوي به.
تفسير القرآن