تفسير القرآن
الذاريات / من الآية 47 إلى الآية 51

 من الآية 47 الى الآية 51
 

الآيــات

{والسماء بنيناها بأييدٍ وإنّا لموسعون* والأرض فرشناها فنِعْمَ الماهِدون* ومن كلِّ شيءٍ خلقْنا زوجَيْن لعلّكُم تذكّرون* فَفِرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذيرٌ مبين* ولا تجعلوا معَ الله إلهاً آخر إنّي لكم منه نذيرٌ مبين}         (47ـ51).

* * *

معاني المفردات

{بِأَيْدٍ}؛ الأيد: القوة.

{فَرَشْنَاهَا}: بسطناها.

{الْمَاهِدُونَ}: الموطئون والمهيئون.

* * *

جولة في آيات اللَّه في الكون

وتتابع السورة حديثها عن آيات الله في الكون، ليستلهم الإنسان منها عظمة الخالق، فيرتبط به، ويلتزم بهداه، ويتحرك مع رسله في خط رسالاته على أساس الوعي، في ما هي حركة الحسّ، وتحليل الوجدان، لأن الله لا يريد للإنسان أن يؤمن إيماناً أعمى، كما لا يريد أن يكفر على أساس التقليد والهوى الذاتي.

{وَالسَّمَآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي بقوّةٍ تملك سر الإبداع، ودقة الصنعة، وقوة الإمكانات، وروعة الصورة، وتناسق المواقع، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قيل: إن كلمة «لموسعون» من الوسع وهو الطاقة، ومعناها: لقادرون كما في تفسير الكشاف[1]، وقد يكون معناها القدرة على الإِنفاق من موقع السعة، وربما كانت تعني اتساع الرزق بالمطر، وقيل: إن المراد بها، جعلنا بينها وبين الأرض سعة، وهناك نظريةٌ حديثة تقول بإمكانية اتساع السماء بطريقةٍ ما.

ولعل الأقرب إلى الذهن، هو أنها تتحدث عن قدرة الله المتحركة في ساحة نعمته، ما يوحي بأن الله هو من يملك القدرة التي بنى بها السماء وأرادها مصدراً للنعمة على خلقه، وربط بينها وبين الأرض، في ما تحتاجه لاستمرار المخلوقات الحية والنامية والجامدة فيها من شمس ومطر وما إلى ذلك. فإذا كان الله قد أكد النعمة من ناحية المبدأ، فإنه قادر على توسيعها من ناحية التفاصيل.

{وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا} أي مهّدناها وسهّلنا سبل الحياة فيها بمستوى يوفر لكل المخلوقات الحية ـ وفي طليعتها الإنسان ـ راحة العيش واطمئنانه، لما أودعه الله فيها من عناصر تتوقف عليها الحياة في باطنها وظاهرها، وفي جميع مفرداتها الحية وغير الحية، ما يجعل كل شيءٍ يتغذى ويستعين بشيء آخر، وبذلك تكون كلمة التمهيد كنايةً عن تسهيل العيش براحة طبيعية، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} نحن، ما يفتح للإِنسان نافذةً للتفكير بعلاقة حياته بالله وارتباطها به، بحيث يشعر بعمق الحاجة إليه في كل أموره وأوضاعه، ليعيش حضور الله في كل مفردات الحياة في الأرض بطريقة مباشرةٍ أو غير مباشرة.

* * *

قانون الزوجية في الكون

{وَمِن كُلّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} مما تعلمونه، ومما لا تعلمونه من المخلوقات الحية والنامية وحتى الجامدة، فقد اكتشف الإنسان أن الذرة، التي قيل إن بناء الكون يرجع إليها، مؤلفةٌ من زوجٍ من الكهرباء موجبٍ وسالبٍ، وربما تكشف الأبحاث العلمية عن أشياء أخرى في هذا المجال، والقضية التي تفرض نفسها على التفكير في هذه المسألة، هي أن الله ـ في شمول عبارة «كل شيء» ـ يؤكد على وحدة الأساس الذي يرتكز عليه النظام الكوني، وهو قانون الزوجية الذي تتنوع مفرداته وأشكاله وأوضاعه وأساليب حركته، ما يفتح أمام الإنسان باب السعي لاكتشاف التفاصيل، ذلك أن الله أراد لكتابه أن يشير إلى العنوان، ليبحث الناس في المعنون الذي يختفي وراءه تارة، وأراد أن يشير إلى المنهج أخرى، لينطلق الفكر لاكتشاف مفرداته. فالقرآن لا يدخل في تفاصيل النظرية، بل يوحي بها، كمنطلقٍ للبحث وللتفكير.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} في ما يعنيه التذكر من انفتاح الفكر على كل المواقع التي توسّع آفاقه، وتبعد عنه الغفلة والغيبوبة في الضباب، {فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ} وتخلّصوا من كل القيود التي تثقلكم وتمنعكم من الانطلاق في رحابه وساحة قدسه ومواقع رضاه، ومن كل الأوضاع التي تحاصركم وتعطل حركتكم نحوه، ومن كل الأشخاص الذين يريدون وضع الحواجز التي تحول بينكم وبين الوصول إليه في خط رسله ورسالاته، ما يجعلكم بعيدين عن طاعته، ويعرضكم لعقابه وللبعد عن رحمته، {إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فليس الفرار إليه فراراً من مكانٍ إلى مكان، بل هو حركةٌ من موقف في خط المعصية أو الكفر أو الشرك، إلى موقف آخر في خط الإيمان والعمل الصالح، لأن الله أنذر الكافرين والمشركين والمتمردين بعقابه، فاعملوا على اجتناب مواقع عذابه.

{وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} بالشرك في العقيدة، أو في الطاعة والعبادة، فإن التوحيد الفكري والعملي هو القاعدة التي تكفل النجاة في المصير، {إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فلا قيمة لأيِّ عمل صالح إذا لم يكن مرتبطاً بالخط الإيماني من قريبٍ أو من بعيد.

ــــــــــــــــــــ

(1) انظر: تفسير الكشاف، ج:4، ص:20.