الآيات 52-55
الآيــات
{كذلك ما أتَى الذين من قبلِهِم من رسولٍ إلا قالوا ساحرٌ أو مجنون* أتَواصَوا به بل هم قومٌ طاغُون* فتولَّ عنهُم فما أنت بملومٍ* وذكِّر فإن الذكرى تنفعُ المؤمنين} (52ـ55).
* * *
معاني المفردات
{أَتَوَاصَوْاْ}؛ التواصي: إيصاء القوم بعضهم بعضاً بأمر.
* * *
سنّة تكذيب الرسل وصمود المرسلين
{كَذلِكَ} أي هذا الأسلوب الذي مارسه المشركون من قريش ومن غيرها في اتهام الرسول بالسحر أو الجنون، لم يكن أسلوباً جديداً، بل هو استمرارٌ للأساليب السابقة التي استعملت في مواجهة الأنبياء من قبله، فليست هناك خصوصيةٌ لهؤلاء، بل المسألة مسألة الكفر الذي يفقد الحجة على مضمونه الفكري، كما يفقد الرّد على مضمون الرسالة، وموقف الحق في شخصية الرسول، فيعمد أهله إلى توزيع الاتهامات بطريقةٍ غير مسؤولة.
وهكذا تمتدّ رحلة الكفر التاريخي في مواجهة الإيمان تاريخياً في رسالات الله {مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ليبطلوا تأثيره في النفوس، معتمدين في ذلك على تفكير الجماهير السطحي الذي يجعل قناعاتهم محكومة للشائعات دون تعمق في مناقشة الأمور ودراسة نقاط ضعفها وقوّتها، ما يسهل على الفئات المضادة الوصول إلى ما تريد دون أن تهتم بواقعية التهمة ومدى انسجامها مع حقيقة الشخص الذي توجّه إليه، لأن المهم لديها هو إشغال الناس بأيّة وسيلة عن التفكير بالرسالة والرسول، لإثارة الضوضاء التي تسلب الفكر الصفاء الذي يُطل به على الحقيقة المشرقة.
{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} على ترداد مقولة واحدة التقى بها الأولون بالآخرين، ما جعل كل جيل يوصي الجيل الآخر بالوقوف ضد الرسالات والرسل في كل عصرٍ ومصرٍ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} فليست المسألة مسألة إرث الوصية، بل هي طبيعة الطغيان التي تملي على كل طاغيةٍ في زمانه استخدام هذا المنطق الذي يعبّر عن رفض الحقيقة، والهروب منها، باللجوء إلى أسلوب الاتهام غير المسؤول الذي يراد به إشغال الناس عن الرسالة. ولكن منطقهم ذاك لن يصل إلى أيّة نتيجةٍ عمليةٍ، فلن يتراجع النبي عن موقفه في إبلاغ الرسالة، وعن إصراره عليها وثبات موقفه منها، كما لم يتراجع الأنبياء من قبله. هذا ما يريد الله أن يبلّغه للنبي ليتخذ الموقف الصامد الذي لا يخضع لنقاط الضعف، ولا يهتز أمام تهاويل الخوف {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} وأعرض عن كل أوضاعهم وأساليبهم ومواقفهم ومواقعهم.
{فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} في ما واجهوك به من تكذيب، وما أعلنوه من رفض للتوحيد وللإيمان، لأن دورك هو الإبلاغ والتذكير والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
{وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} الذين يتعمق إيمانهم ويزيد وينمو، كلما سمعوا وحياً جديداً وآية جديدةً، لأن قلوبهم مفتوحةٌ على المعرفة، يتأملون في كل ما يسمعونه من آيات الله، ما يجعلهم ينتفعون بها، في الوقت الذي يمتنع الآخرون عن الانفتاح عليها والانتفاع بها.
* * *
من وحي الآيـات
وقد نستوحي من ذلك، أن على الدعاة إلى الله، أن يثبتوا في مواقفهم وأن يستمروا في الخط الرسالي، دون اتخاذ ردود فعل سلبية أو إيجابية من حولهم، وعليهم متابعة الرسالة في خط الدعوة، لأن هناك قلوباً مستعدة للانفتاح عليها، وساحاتٍ جاهزة للحركة فيها، ففرص وصول الدعوة موزعة في أكثر من مكان، فإن المؤمنين في الحاضر يحتاجون إلى استمرار الدعوة لتنمية إيمانهم وتقويته، وتحريك التفاصيل، كما أن المستقبل يختزن في داخله آفاقاً جديدة قد تصلها الدعوة عبر الطلائع الفتية في الجيل الجديد التي لا تعيش ما يعيشه أصحاب المطامع والمصالح الذاتية من عقد نفسية تجاهها.
تفسير القرآن