من الآية 56 الى الآية 60
الآيــات
{وما خلقتُ الجنّ والإنْسَ إلا ليعبُدُون* ما أُريدُ منهم من رزقٍ وما أريدُ أن يُطعِمون* إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين* فإنّ للذين ظلَموا ذنوباً مثْل ذنُوب أصحابهم فلا يستعجلون* فويلٌ للذين كفروا من يومِهِم الذي يوعَدون} (56ـ60).
* * *
معاني المفردات
{الْمَتِينُ}: الشديد القوة.
{ذَنُوباً}؛ أصل الذَّنوب: الدلو الممتلىء ماءً، وهنا بمعنى النصيب من العذاب.
{فَوَيْلٌ}: كلمة تقولها العرب لكل من وقع في الهلكة.
* * *
وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون
ما هو المضمون الروحي لوجود المخلوقات الحية العاقلة من جنّ وإنس في الأرض؟
وما هي غاية الخلق ودور تلك الغاية العملي في حياة المخلوقات؟
وما هو المدلول الفلسفي للغاية من الوجود انطلاقاً من مضمون التوحيد المرتبط بالله؟
هذه هي الأسئلة التي يتناولها مضمون الحديث في هذه الآيات، فالآية الأولى تحدد المضمون الروحي بالعبادة لله، فقد خلق الله الجن والإنس ليعبدوه، كما أن الآية الثانية تنفي حاجة الله إلى مخلوقاته، سواء في الرزق أو في الطعام، باعتبارهما الرمز المادي للحاجة، أما الآية الثالثة، فتؤكد حاجة العباد إليه كونه مصدر الرزق الوحيد والقوّة القاهرة.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فالعبادة هي الغاية من الخلق، ولكن كيف نتصور مدلول تلك الغاية؟ بادىء ذي بدء، قد يبدو لنا أن في ذات الخالق حاجة تحكم عملية الخلق، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نتصور حاجة كهذه في الله سبحانه الغني عن عباده وعن كل مخلوقاته، لا سيّما وأن مسألة العبادة لا معنى لها سوى إرضاء نزعة الكبرياء في النفس التي ترتاح لخضوع الآخرين لها، وهذا ما لا معنى له في الذات الإلهية التي لا تحتاج إلى وجود العابدين، فكيف تحتاج إلى عبادتهم، لأنهم لا يمثلون شيئاً في مسألة الوجود، كما أنه أمرُ مستحيل فيما هو الكمال الذاتي، والغنى المطلق في ذات الباري عز وجل؟
ولعلّ الجواب الأوفق بالخطّ التوحيدي والكمال المطلق لله الذي يوحي بالغنى المطلق في ذاته، أن يقال: إنَّ الغاية هنا، ليست معنى قائماً في ذات الخالق، بل هي أمر متصل بالدور الذي يُراد للمخلوق القيام به، بالمستوى الذي ترتفع به حياته عن العبثية، فلم يخلق الله الجن والإنس، ليعيشوا اللهو الذي يجعل الحياة فرصةً للعبث، بل لعبادته، وتأكيد إحساسهم بالعبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة التي تعطي لكل مسؤوليات الحياة معنًى يتحرك في وجودهم، وبذلك تكون الغاية فكرةً في تقدير الخالق، وليست حاجةً لديه، فإن الحاجة إلى خضوع الناس وإلى ما يقومون به من فروض العبادة تجاهه كإله، تمثل حاجة إلى إكمال نقص يحس به المعبود ويجد في العبادة لوناً من ألوان التعويض، وهذا مما لا يتصور في الله سبحانه الذي تعالى عن أيّ نقص وأيّة حاجةٍ مهما كان نوعها. هذا الجواب هو الذي يوفّق بين معنى الغاية وبين الخط التوحيدي، لتكون قضية العبادة قضية دور الإنسان في حركة النشاط العام.
* * *
مفهوم العبادة في القرآن
نتساءل بعد ذلك: ما هو مفهوم العبادة في القرآن؟
فهل هي الشعائر الخاصة التي اصطلح الناس على تسميتها بالعبادة كالصلاة والصوم والحج والدعاء ونحوها؟ أم هي مفهوم واسع يتسع لكل النشاطات التي يرضاها الله ويحبها، ويأتي بها العبد من موقع إحساسه بحضور الله الدائم في كل مفردات حياته الخاصة والعامة، بحيث يشعر بالذوبان في وجود الله والحاجة الدائمة إليه والارتباط به؟
الظاهر أن المراد بالعبادة المعنى الثاني الذي يتضمن المعنى الأول، لأن العبادة كشعائر لا تستغرق وجود الإنسان كله، بل تحتل مساحةً صغيرةً منه، بينما تطال العبادة بالمعنى الثاني حركة الحياة العامة والخاصة، وهذا ما جاء به الحديث المأثور الذي يؤكد أن العبادة تتجسد في العفاف وفي العمل طلباً لكسب عيش الإنسان وكل من يعوله، وفي طلب العلم، وفي التفكير، وفي قضاء حوائج الناس، وفي كل عملٍ يرفع مستواهم.
وبذلك كانت العبادة معنًى في النفس يتفاعل مع العقيدة التوحيدية، لتكون حالةً تعمِّق في الوعي الشعور بعبودية الله في كل شيء، وحركةً في الواقع العملي تؤكد الالتزام الانقيادي الخاضع له في كل أوامره ونواهيه، وما يحبه ويرضاه، بحيث يعيش الإنسان الحياة كلها خاشعاً أمام الله في الفكر والشعور والعاطفة، محصّناً من الانفتاح على أية فئة أو أي شخص يدّعي لنفسه امتيازاً ذاتياً في علاقة الناس به، بعيداً عن الله.
وهكذا، عندما تحمل العبادة كل نشاط الإنسان وحركته في كل مواقع الأرض في الداخل والخارج، يتحول الكون كله إلى عبد لله سبحانه.
* * *
غنى اللَّه عن عباده
{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} لأني الإله الذي خلق الرزق كله، فليس لأحدٍ من الخلق شيء منه إلا من خلال ما يرزقهم منه، ولا معنى للطعام في معنى الله، ولا معنى لأن يطعمه أحد من خلقه. وإذا كانوا يعتبرون الأمر الإلهي بالإنفاق على الآخرين يعني عطاءً لله، فعليهم أن يروا حقيقة ذلك، كأمر يعود إليهم باعتباره تجسيداً لإنسانيتهم مما ترجع فائدته إليهم وإلى الحياة من حولهم.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} الذي يعطي كل مخلوق رزقه من خزائنه التي لا تحصى ولا تنفد، ولا يحتاج إلى رزق منهم {ذُو الْقُوَّةِ} الذي يعطي القوّة لكل شخص يتحرك بالقوّة في حياته، فلا يحتاج إلى أخذ القوّة من أحد غيره، لأن الأقوياء لا يملكون القوّة الذاتية باستقلال، بل يملكون منها ما ملّكهم الله إياه، {الْمَتِينُ} الشديد القوّة التي لا ينفذ إليها الضعف من أيّ مكان.
* * *
ويلٌ للذين ظلموا وكفروا
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً} وهي الدلو الممتلىء ماءً في ما قيل، {مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابهمْ} وهو كنايةٌ عن الوعاء المعنوي الذي يشتمل على المعاصي التي تقودهم إلى نار جهنم، فلا فرق بين الجيل القديم والجيل الجديد من الكافرين والمشركين، ما يجعلهم متساوين في النتائج السلبية الحاصلة من ذلك، {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} لأن نصيبهم من العذاب حاصل لديهم إن عاجلاً أم آجلاً.
{فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وهو يوم القيامة الذي ينتظر الكافرين ليقودهم إلى النار، فهل يشعر هؤلاء بالويل الهائل الذي يواجههم في ذلك اليوم العظيم؟
تفسير القرآن