من الآية 17 الى الآية 28
الآيــات
{إنّ المتّقين في جنّاتٍ ونعيم* فاكهينَ بما آتاهم ربّهم ووقاهم ربُّهُم عذاب الجحِيم* كُلُوا واشرَبوا هنيئاً بما كُنتُم تعملون* متّكئين على سُرُرٍ مصفوفةٍ وزوّجناهُم بحُورٍ عين* والذين آمنوا واتّبَعتهُم ذريّتُهُم بإيمانٍ ألحقْنا بهم ذريّتَهُم وما ألَتْنَاهُم من عمَلِهِم من شيءٍ كلّ امرىء بما كسَبَ رهين* وأمدَدْناهُم بفاكِهَةٍ ولَحْمٍ ممّا يشتهون* يتنازعون فيها كأساً لا لغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ* ويَطوفُ عليهم غِلْمانٌ لهم كأنّهُم لؤلؤٌ مكنون* وأقْبَلَ بعضُهُم على بعضٍ يتسآءلون* قالوا إنا كنّا قبلُ في أهلِنا مشفِقِين* فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السّموم* إنا كنّا من قبل ندعوه إنّه هو البرّ الرحيم} (17ـ28).
* * *
معاني المفردات
{جَنَّاتٍ}: جمع جنة، وهي البستان تجنّه الأشجار وتستره.
{فَاكِهِينَ}: متنعمين.
{مُّتَّكِئِينَ}؛ الاتكاء: الاعتماد على الوسادة ونحوها.
{سُرُرٍ}: جمع سرير.
{مَّصْفُوفَةٍ}: من الصف، أي مصطفة موصول بعضها ببعض.
{أَلَتْنَاهُمْ}: أنقصناهم.
{رَهَينٌ}: مرتهن.
{يَتَنَازَعُونَ}؛ التنازع في الكأس: تعاطيها والاجتماع على تناولها.
{كَأْساً}؛ الكأس: القَدَح، ولا يطلق الكأس إلاّ في ما كان فيها الشراب.
{مُشْفِقِينَ}؛ الإشفاق: عناية مختلطة بخوف.
{السَّمُومِ}: الحرّ الذي يدخل في مسامّ البدن يتألم به.
* * *
صور من حياة أهل الجنة
هذه هي صورة الفريق الآخر، فريق الإيمان والتقوى، الذي انفتح على الرسالة والتزم بها، وجاهد في سبيلها وتحمّل مسؤولية الدعوة إليها، وأقبل على الله بكل كيانه في إسلام العقل والقلب واليد واللسان، ليكون كله لله، فلا نصيب فيه للشيطان. لقد تعذبوا كثيراً، وتعبوا طويلاً وتحمّلوا قسوة الآلام وعذاب المشاكل، وصبروا على ما لا يصبر عليه الناس، وها هم يقفون بين يدي الله ليمنحهم رضوانه ومغفرته ورحمته ومحبته في نعيم خالد يقدّم إليهم في جنة الله، حيث لا خوف ولا حزن في ساحة رضوانه.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} في هذه الخضرة الممتدة في جمالها وإبداعها، وفي هذه الينابيع الصافية المتفجرة في كل مكان، {فَاكِهِينَ بِمَآ آتاهُمْ رَبُّهُمْ} فهم يتلذّذون ويستمتعون ويتفكهون بكل ما فيها من ثمار وفواكه ونعم ممتدّة أمامهم دون حدّ {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} فهم بعيدون عن الجحيم، لأن أعمالهم أبعدتهم عنه، ولأن قربهم من الله أبعدهم عن مواقع عذابه.
وينطلق النداء الحنون بكل محبةٍ ورضوان: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فليست الجنة منحةً دون مقابل، بل جزاء على العمل الصالح المنطلق من قاعدة الإيمان بالله. وتلك هي النتائج الطبيعية التي يصل إليها العاملون المؤمنون الذين عاشوا التقوى فكراً وإيماناً وحركةً ونهج حياة، بناءً على وعد الله الذي وعد به عباده المتقين. {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} في جوّ روحي يلقي بظلّه الوارف على الجميع، وينشر المشاعر الحميمة في علاقة الناس ببعضهم البعض في الداخل، بالمستوى الذي يربطهم بالله، فلا مجال للتباعد فيما بينهم، ما يجعل الأخ جالساً إلى جنب أخيه، ليكون الشكل في معنى الصورة متناسباً مع عمق المضمون الذي يضم الجميع إلى رحمة الله.
{وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} لتتكامل لهم اللذة الحسية، في ما يأكلون ويشربون ويستمتعون، فتتمازج مع اللذة الروحية التي يعيشون فيها في رحاب الله.
* * *
الذرّية الصالحة تلحق بآبائها الصالحين
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} فآمنت ذريتهم كما آمنوا، من موقع التربية والقدوة الصالحة، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} ليجتمع شمل المؤمنين العائلي، الذين أسسوا علاقاتهم العائلية على قاعدة الإيمان بالله لا على قاعدة العصبية، ما جعل الواحد منهم يدعو الآخر إلى الإسلام ويقوّي موقفه ويدعم موقعه. فالإيمان هو الذي يوحِّد بين الناس في الدنيا، ويجمعهم في مواقع رحمة الله في الآخرة، وقد ورد في حديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ما رواه في الكافي بإسناده عن ابن بكير عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم} "قال: فقال: قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقر بذلك أعينهم"[1].. وقد جاء في الدر المنثور عن ابن عباس رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إنّ الله يرفع ذرّية المؤمن إليه في درجته وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْء} قال: وما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين»[2].
وعلى ضوء ذلك، فإن التركيز في هذا التفسير على كلمة الإلحاق هو بلحاظ تساوي الدرجة، مع اختلاف العمل ووحدة المبدأ في الإيمان.
{وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْء} فلكلّ واحدٍ منهم عمله، لأن المسؤولية فردية يحددها ما يقوم به الفرد من عمل الخير وموقف الإيمان، {كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}، فلا يتحمل إنسانٌ مسؤولية عمل إنسانٍ آخر، ولا يكسب أحد نتائج عمل الآخر، فلكلَ عقابه ولكلَ ثوابه.
* * *
أفضال اللَّه ونعمه على أصحاب الجنة
{وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} من الغذاء الذي يبني للجسد قوّته وحيويته {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} منعشاً قد يكون الخمر أو ما يشبهه، ومعنى التنازع هو تعاطيها والاجتماع على تناولها بحيث يقدمها أحدهم إلى الآخر، {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} في ما قد يصدر من القول اللغو لمن يشرب الخمر، {وَلاَ تَأْثِيمٌ} وهو الإثم الذي يحدث له، فخمر الآخرة خالية من ذلك كله، فهي تعطي اللذة دون سلبيات أو مشاكل عقلية وعملية.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} في صفاء الرونق الجميل في صورته ونقائه، في خدمةٍ دائمةٍ متواصلةٍ.
* * *
إنا كنّا في أهلنا مشفقين.. فمنَّ الله علينا
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءلُونَ} عن المرحلة الدنيوية التي عاشوا فيها الاستقامة على خط التوحيد، ويتحدثون عن الأعمال التي أوصلتهم إلى هذه النهاية السعيدة: {قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} في قلق الإنسان المؤمن وإشفاقه على نفسه، وخوفه من التقصير في عمله أمام ربه، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بفضله وتوفيقه ورحمته، بالثبات على خط طاعته، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} الذي يحرق الجلود ويذيبها من شدة الحرارة اللاهبة، {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} ونلجأ إليه في المهمّات، ونبتهل إليه في الملمّات، ونتضرع إليه عند الخطيئة، ونخشع له عند الرهبة، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} الذي يمنح عباده المؤمنين برّه ورحمته في الدنيا والآخرة.
وهكذا نجد في هذه الآيات صورة مثيرة للمجتمع المؤمن في الجنة، حيث جلسات الاسترخاء اللذيذة التي يتناول فيها المؤمنون الكؤوس المنعشة، ويتحدثون فيها عن حياتهم الماضية، وينفتحون فيها على الله في برّه ورحمته.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكافي، ج:3، ص:249، رواية:5.
(2) الدر المنثور،ج:7، ص:632.
تفسير القرآن