تفسير القرآن
الطور / من الآية 29 إلى الآية 44

 من الآية 29 الى الآية 44
 

الآيــات

{فذكِّر فما أنت بنعمةِ ربّك بكاهنٍ ولا مجنون* أم يقولون شاعرٌ نتربّصُ به ريْبَ المنون* قل تربّصوا فإنّي معكُم من المتربّصين* أم تأمُرُهُم أحلامهم بهذا أم هُم قومٌ طاغون* أم يقولون تقوَّلَه بل لا يؤمنون* فليأتوا بحديثٍ مثلِه إن كانوا صادقين* أم خُلِقُوا من غير شيءٍ أم هُمُ الخالقون* أم خلَقوا السموات والأرض بل لا يوقنون* أم عندهم خزائن ربّك أم هم المصيطرون* أم لهم سُلَّمٌ يستمعون فيه فليَأتِ مُستَمِعُهُم بسُلطانٍ مبين* أم لهُ البناتُ ولكُمُ البنون* أم تسألهُم أجراً فهُم من مغرَمٍ مُثْقَلون* أم عنْدَهُم الغَيْبُ فهم لا يكتُبُون* أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المَكيدون* أم لهم إلهٌ غير الله سبحان الله عما يُشركون* وإن يرَوا كِسْفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحَابٌ مركُومٌ} (29ـ44).

* * *

معاني المفردات

{بِكَاهِنٍ}؛ الكاهن: الذي يذكر أنه يخبر عن الحق على طريق العزائم.

{نَتَرَبَّصُ}؛ التربص: الانتظار.

{رَيْبَ الْمَنُونِ}: قلق الموت.

{أَحْلامُهُمْ}؛ الأحلام: جمع حلم، وهو الإمهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة.

{تَقَوَّلَهُ}؛ التقوّل: تكلّف القول، ولا يقال إلا في الكذب.

{الْمُسَيْطِرُونَ}؛ السيطرة: الغلبة والقهر.

{مَّغْرَمٍ}: ما يلزم أداؤه من المال.

{مُّثْقَلُونَ}؛ المثقل: المحمول عليه ما يشقّ حمله؛ وهو كناية عن المشقة.

{كَيْداً}؛ الكيد: المكر.

{كِسْفاً}؛ الكسف: القطعة من الغيم.

{مَّرْكُومٌ}؛ المركوم: المتراكم بعضه على بعض.

* * *

علام يستند المشركون باللَّه.. وماذا ينتظرون؟

{فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} فتابع سيرك في الدعوة إلى الله من أجل إخراج الناس من ظلام الغفلة الذي يطبق على عقولهم إلى إشراقة الذكرى التي تفتح لهم باب الإيمان بالله، ليتحركوا في خط الرسالة، ولا تلتفت إلى كل ما يثار حولك من تهاويل، وما يطلق عليك من أوصاف لا أساس واقعيّاً لها، فهم يلصقون بك الكهانة لإبطال قداسة الوحي في نفوس الناس، والجنون لإسقاط حركة الوعي في رسالتك، فلست، بما أنعم الله عليك من وحي صافٍ صفاء القدس الإلهي، ومن عقل واعٍ يمنح العالم عقلاً، ويحرك عقول الناس في اتجاه الفكر العميق المتزن الممتد في رحاب الحياة كلها، كما يقولون.

{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ليجعلوا القرآن، وهو وحي الله، شعراً ينسجه الخيال، ويتحرك في آفاق الوهم مما لا يلتقي بالصدق إلا قليلاً ولا ينفتح على الحق إلا بالصدفة، ولا يملك من الفكر المتوازن أي أساس، فلنترك لخياله الشاعري مجال التعبير، فلن يستطيع أن يغير شيئاً من أوضاعنا ويبعدنا عن أوثاننا المقدسة، وسينتهي الأمر به إلى الهلاك، فنرتاح من كل مشاكله المثيرة المزعجة. {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ} لأن الانتظار لن يوصلكم إلى ما تريدون، ذلك أن الرسالة ستفرض نفسها على الواقع وستؤكد مفاهيمها في حركة الإنسان والحياة، وستهزم الوثنية وكل خطط الشرك، وقد يموت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولكن الرسالة لن تموت، لأنها وحي الله الذي يرعى رسالاته، بما يرعى به الوجود كله، وهذا هو الفرق بين انتظار الرسول وانتظار خصومه، فهم ينتظرون موت الرسول لانتهاء الرسالة لأنهم يربطونها بحياته كشخص في تفكيرهم، أمّا الرسول، فينتظر انتصار رسالته، ويترقب انفتاح قلوبهم على الحق من حيث يريدون أو لا يريدون، كما ينتظر عذاب الله الذي يحل بهم في الدنيا والآخرة إذا أصرّوا على شركهم وانحرافهم.

ومن هنا كان الرسول هو الأقوى في التربص، بينما كانوا في موقف الضعف، {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَآ} المنطق العدواني المبني على الأوهام الضالة والأحلام، أم هي عقولهم الساذجة التي لا تقودهم إلا إلى الضلال، {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} فهم يعرفون الحقيقة الرسولية في شخص الرسول، ويملكون اليقين بالرسالة المنطلقة من وحي الله، ولكنهم يتمردون عليها طغياناً وكفراً وعناداً بسبب شخصياتهم المعقدة التي تعيش الاستكبار بعنوان تميز الذات أو الطبقة، {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} في ما ينسبونه إليك من الكذب على الله، ومن اختلاف الرسالة؟

{بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} فليست القضية عندهم قضية قناعة ذاتية بما يقولون عنك، بل هي قضية رفض معقد للإيمان، بعيداً عن حركة العقيدة الفكرية. فإنهم إذا كانوا جادّين في اعتبارهم القرآن كلام بشر يدّعيه الرسول وينسبه إلى الله، {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} في دعواهم هذه، لأن البشر يمكن أن يتحدَّى كلام بشر مثله، ولكنه لا يستطيع أن يتحدى كلام الله.

* * *

أين قدرتكم لتتحدّوا ربّ العالمين؟!

{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْء} وهذا هو بداية التساؤل الذي يطرح المسألة في نطاق قدرتهم ليطرح المسألة من جميع جوانبها، فهؤلاء الذين يقفون موقف التحدي لله ورسوله، وهم المخلوقون الذين كانوا عدماً، كيف وجدوا؟ هل كان وجودهم مجرد صدفةٍ أنتجتها حركة الوجود؟ وكيف يمكن لموجود لا يملك في ذاته ما يحتّم وجوده، أن يوجد بذاته؟ فكيف خلقوا من غير شيء؟ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الذين خلقوا أنفسهم، وكيف يخلق الإنسان نفسه من العدم؟! وإذا تجاوز التساؤل وطال إلى السّماوات والأرض التي يقفون عليها ويستظلون بها {أَمْ خَلَقُواْ السَّمَواتِ وَالأرْضَ} حتى يقفوا هذا الموقف المتحدي الذي يوحي باستعراض القوّة أمام الله، وكيف تُعقل مثل هذه الفرضية التي يعرفون عدم صدقها في واقعهم الحياتي؟ {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} لأنهم لا يأخذون بأسباب اليقين لما يعيشونه من أجواء اللاّمبالاة التي تمنعهم من تركيز أفكارهم في دائرة التوحيد، وتدفعهم إلى اتخاذ مواقف غوغائية وإطلاق كلمات لا معنى لها، كما أنهم لا يملكون قدرات أخرى تمكنهم من تأدية الدور الذي يريدون أن يلعبوه في حياة الناس، وليؤكدوا قوتهم من خلاله.

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ} المادية والمعنوية ليمنعوا من يشاءون، أو ليعطوا من يشاءون من النبوّة والمال والملك والقدرة ونحو ذلك، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} الذين يملكون السلطة القاهرة القادرة التي تستطيع سلب نعم الله عن العباد، أو تستطيع عزلك عن النبوّة، {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يصعدون عليه إلى السماء ليستمعوا إلى الوحي ليكون لهم العلم السماوي الذي يتفوقون به على الآخرين ويختصون به دونهم، انسجاماً مع تصوراتهم الخيالية التي يتوهمون من خلالها أن السماء مكان يمكن الصعود إليه بالوسائل التي يستعملونها في الوصول إلى الأماكن العالية في حياتهم الأرضية، فإذا كانت هذه الأوهام معقولةً لديهم {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} في ما قد يدعيه من نزول الوحي عليه.. فأين الحجة على ذلك، وأين البرهان؟

{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ} فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث ويعتبرونهم بنات الله، في الوقت الذي كانوا يرفضون فيه، نتيجة تقاليدهم ورغباتهم الذاتية، أن يكون لهم البنات في ما يُرزقونه من الذرية، وهكذا كانوا يتوهمون أن لله بناتاً، {وَلَكُمُ الْبَنُونَ} الذين يمنحونهم ميزةً على مستوى القيمة والمنفعة المادية. {أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً} كما يسألهم الكثيرون ممن يقدمون الخدمات المعنوية والمادية دفع العوض عنها، {فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} رازحون تحت الثقل المادي الذي يُلقى عليهم، فيهربون منك ليتخلصوا منه، ولكنك لا تفعل ذلك لأنك لم تسألهم أجراً على تبليغ الرسالة؟

{أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} الذي يطلّ بهم على خفايا الأمور وتطلعات المستقبل، {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ليثبتوه للناس ليتعلّقوا بهم على أساس هذه القدرة الغيبية الخفية التي يملكونها، فتكون لهم السيطرة عليهم؟

{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} يكيدون به للإيمان والمؤمنين بأساليب يلفّون فيها ويدورون ليهزموا مواقف الرسول وأتباعه، بالحرب النفسية تارةً، وبالخطط العدوانية أخرى، {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ} الذين يبطل الله كيدهم ويردّه إلى نحورهم، ويقودهم في نهاية المطاف إلى النار وبئس القرار؟

{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} لينطلقوا معه في محاربة الله ورسله، في ما يمكن أن يثيره التصور المنحرف الزائف، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} مما ينسبونه إليه من شركاء لا مكان لهم إلا في نفوسهم المريضة المنحرفة وعقولهم المتخلفة الغارقة في الأوهام.

{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَآء سَاقِطاً} مما يمكن أن ينزل عليهم من العذاب السماوي، فلا يتعظون به، {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} أي متراكم، فلا يرون فيه آيةً من العذاب.