تفسير القرآن
الأنعام / المقدمة

 المقدمة

ســورة الأنعـام

مائة وخمس وستون آية وهي مكيّة

سورة الأنعام مكية

لقد جاءت أحاديث كثيرة تؤكد أن هذه السورة من السور المكية التي نزلت على رسول الله(ص) في مكة، ويقول المفسرون: إنها نزلت جملة واحدة، ولم تنزل متفرقة في آياتها، كأغلب السور في القرآن.. واستثنوا من ذلك بعض آياتها، التي اختلفوا في تحديدها بين قائل إنها آيتان، وقائل إنها ستّة، وقائل غير ذلك.

وقد جاء في أحاديث أئمة أهل البيت(ع) أنها نزلت جملة واحدة، فقد روى العياشي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) قال: إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة. وروى ذلك علي ابن إبراهيم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا(ع)، وهذا ما جاءت به الرواية عن النبي محمد(ص) بما رواه أُبيّ بن كعب وعكرمة وقتادة[1].

* * *

سورة الأنعام

خصائص السور المكية والمدنية

ذكر الباحثون في علوم القرآن، أن الطابع الذي تتميز به السور المكية، هو الحديث عن أصول العقيدة والإيمان بالله، بكل ما يستتبع ذلك من تفـاصيل الصفات، وآفـاق العظمة الإلهية المتجلّيـة فـي عظمة خلقه.. وعن الإيمان والرسل والرسالات، وما كان يواجههم من تحديات، وما كانوا يستخدمونه من أساليب معجزة وغير معجزة.. وعن الإيمان باليوم الآخر وما يثيره من مشاعر وأفكار، وما يتطلّبه من مواقف عملية في حياة الناس.. وما يثار حوله من شبهاتٍ وإشكالات..

وهكذا يتنوع الحديث في آفاق الفكر والعقيدة، ليحدد للإنسان الضائع في متاهات الكفر والشرك والضلال، المنهج الذي يقوده إلى التفكير المتّزن، ويطوف به في آفاق الحق والخير والاستقامة، ليكتشف من خلال ذلك الصراط المستقيم في الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، لأن ذلك يمثل التحدي الأهم الذي يواجه الإسلام في مرحلته الأولى. فكل الأسئلة التي أثيرت أمام الدين الجديد، هي أسئلة حول مدلول التوحيد الفكري والعملي، وحول صفات النبي التي كانت صورته التقليدية الراسخة في الأذهان صورة أسطورية خارقة القدرات، وحول شخصية الملائكة وإمكانية المعاد الذي كان التفكير الجاهلي يستبعد فيه فكرة إعادة الناس إلى الحياة بعد موتهم.

أمَّا السور المدنية، فيقولون إن طابعها هو الحديث عن بعض تفاصيل العقيدة التي كان يثير أهل الكتاب حولها علامات الاستفهام، وعن الشريعة بكل مفاهيمها وأحكامها، وعن قصص الأنبياء السابقين والأمم السالفة.. وذلك ما كان يريده القرآن من تثبيتٍ للنبي(ص) وللمسلمين معه أمام ما يواجهونه من صعوبات المرحلة العنيفة في صراعهم مع الكفر والضلال..

وهذا ما نجده في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، فهي سورٌ تتحدث عن الجوانب التفصيلية للتشريع الإسلامي وللمفاهيم الواقعية للإسلام.. وقد نلاحظ في بعضها حديثاً عن الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، ولكنه يحمل في طبيعته وأسلوبه طابع الرد على التحديات الفكرية التي كانت تواجه الإسلام في تلك المرحلة، ما يفرض عليه أن يعالجها بالطريقة الحاسمة التي تعطي القوّة للموقف في حركة الصراع.

* * *

بين أسلوب القرآن وأسلوب الفلسفة

وفي ضوء هذا التمييز بين السور المكية والسور المدنية، يمكننا الدخول إلى أجواء هذه السورة، فنلخّص مواضيعها العامة في إطار ما تمثله السور المدنية من مجالات، بالإضافة إلى موضوع الإيمان بالله والرسالات والرسل واليوم الآخر، ولكن الأسلوب هنا، لا يغرق في التحليلات والتأويلات العقلية الفلسفية، بل هو الأسلوب القرآنيّ الذي يسعى إلى تحقيق ميزة الإيمان، لتتحرك العقيدة في عقل الإنسان وضميره، فينفتح لها قلبه، وتنبض بها مشاعره، ويتعمق فيها عقله، وذلك من خلال النظر إلى حركة الكون والإنسان، باعتبارها محطةً للفكر، ومنطلقاً للروح، فهي التي توحي للإنسان بعظمة الله، وهي التي تعرّفه مظاهر نعمه في وجوده، وتعمِّق له تجربته من خلال ما تثيره أمامه من أسرار.

وهكذا تتحول الفكرة عنده إلى حقيقةٍ حيّة تنساب في أفكاره ومشاعره وجوانب حياته، فيتلمّسها في كل شيء يعيش معه، بحيث لا يشعر بأن الإيمان مختبىء في فكره ومنفصلٌ عن حياته، بل يشعر بأنه مرتبطٌ بالحياة، كما أن الحياة منطلقةٌ معه، ولعل ذلك هو سرّ حيوية الأسلوب القرآني مقارناً بالأسلوب الفلسفي، وذلك لتزاوج الجانب الفكري والجانب الشعوري والجانب العملي فيه، بينما يقف الأسلوب الفلسفي عند الجانب العقلي المجرّد. وربما كان هدف ذلك هو أن تدخل العقيدة مشاعر الإنسان بالقوة نفسها التي تدخل بها عقله..

ونلاحظ ذلك في طريقة القرآن في الاستدلال على اليوم الآخر، في مواجهة الذين استبعدوه وأنكروه، حيث نلتقي بالأسلوب العقلي الذي يعتمد على قياس الأشياء على أمثالها في عملية القدرة، وذلك في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاَْخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} [يس:78 ـ 80] فقد استدل على إمكان البعث، بعملية الخلق التي يؤمن بها المنكرون للمعاد ودعاهم إلى المقارنة بين حالة الإيجاد وحالة الإعادة، ليجدوا أنها الأصعب، لأنها تنطلق من غير مثال أو تجربةٍ سابقة.. بينما تكون حالة الإعادة خاضعة للنموذج الموجود في الحياة، ومن البديهيِّ أن يكون القادر على الأصعب قادراً على الأسهل.

ونلتقي بالأسلوب العاطفي في قوله تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج: 5].

فقد أرادت الآية تقريب صورة إعادة الحياة إلى الأموات بالصورة المألوفة للإنسان مع مجيء الربيع في اهتزاز الأرض بالخضرة بعد نزول الماء عليها، وانفتاحها بكل زوج بهيج من النباتات المتنوعة في الصورة والخصائص، ليعيش الفكرة في شعوره العضوي الذي يلتقي بالخط الفكري للبعث من خلال النبضات الحسية والشعورية في روحه وفي قلبه، فيرتاح للفكرة، كما يرتاح للصورة التي يتحرك فيها الربيع.. وهكذا سنجد في سورة الأنعام ـ كما وجدنا في ما قرأناه من سورٍ سابقةٍ ـ أننا نسير في رحلة البحث عن الإيمان، فنشعر أن حياتنا كلها تسير معنا، بحيث نجد في كل مفردةٍ من مفردات هذه الحياة حجةً ودليلاً وبرهاناً على قضية الإيمان.

وربما كان من مهمة الموجّهين الداعين إلى الله، أن يعمّقوا هذا الأسلوب في ذهنية الناس حتى تكون العقيدة شأناً حياتياً للإنسان، لا مجرد حالةٍ فكرية مجرّدة. وقد تكون هذه من خصوصيات القرآن الذي لا تجد فيه فاصلاً بين خط الإيمان وحركة الكون والحياة.. فكما هي الحياة تمد الفكر والإيمان بكل جديدٍ، فكذلك الإيمان يمتزج بالحياة امتزاج الروح بالجسد.

* * *

دروس سورة الأنعام

وفي هذه السورة حديث مفصلٌ عن الألوهية في ذات الله والعبودية في ذات الإنسان وما حوله ومن حوله، فالله هو القادر والقاهر، العليم بالغيوب والأسرار، وهو مقلب القلوب والأبصار، كما هو مقلّب الليل والنهار... أما الإنسان، فهو الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرّاً إلا بالله، فهو عبد الله الذي انطلقت عبوديته من خلقه الذي لا بد من أن يربطه بتوحيد الله وبعلاقته به في موقف الفقر العبودي والحاجة المطلقة، فلا معنى للشرك في العقيدة والطاعة وحركة الواقع، لأن هؤلاء الشركاء لا يمثّلون شيئاً في معنى القوة والقيمة حتى في وجودهم، فكيف يمتدون في خارجه أمام الله الذي يملك الوجود كلّه بما فيه الوجود الإنساني، ويحرك نظامهما معاً في الاتجاه الذي يريده لهذا أو ذاك، الأمر الذي يجعل قضية الشرك قضية لا معنى لها في حساب الفكر والوجدان والحياة.

وتتحرك السورة لتعرض لهؤلاء الغافلين في وعيهم الفكري وفي حسّهم الإنساني كيف أنكروا من دون أساس، وكذبوا من دون حجة، فإذا بهم مجرد فرق متناثرة لا تملك ثباتاً وامتداداً في الوجود والحركة، فهذه هي أجيالهم المتتابعة تتساقط أمام الموت الذي يملكه الله وحده كما يملك الحياة، فلا يملكون له دفعاً عنهم.. فإذا تحدثوا عن النبوة في تصوراتهم فإنهم ينطلقون من تصورات لا حساب لها في الفكر، فهم يريدون لها أن تتمثل في مخلوقات خارج نطاق الطبيعة الإنسانية في عالم الغيب، من دون وعي أن الغيب والشهود في خلق الله يتساويان أمام الله الذي يعطي القدرة والدور لمن شاء من دون أن يكون للمخلوق، ملكاً أو بشراً، يدٌ في ذلك من ناحية الإمكانات الذاتية، لأن ذاتيتهم هي من الله.

وهكذا كانوا يسخرون، فكانت عاقبة سخريتهم مزيداً من العواقب السيئة التي تلتقي نتائجها بمقدماتها في سلوكهم المنحرف.

وتتنوع السورة في جولة فكرية توحيدية في سعة ملك الله في الكون السماوي والأرضي وما في داخله من قوىً وظواهر ومخلوقات حيّة ونامية وجامدة، وفي تدبيره بالرزق، فهو الرازق الذي لا رازق غيره والوليّ الذي لا وليّ غيره الذي يملك ولاية الدنيا والآخرة، فله الأمر في ذلك كله، حياةً وثواباً وعقاباً من خلال القدرة كلها. وهكذا يتجسّد الحدّ الفاصل بين الرسول الداعية في كل مواقع الدعوة، والمشركين في حركة التكذيب والتحدّي.

وتطوف السورة بالتاريخ الرسالي في معرفة أهل الكتاب بكل ملامح هذا الدين الجديد في كتابه الذي تحدّث عنه كتابهم، ورسوله الذي بشر به موسى وعيسى(ع)، ولكن المشركين ليسوا من الناس الذين يبحثون عن الحقيقة في مصادر المعرفة وفي تأملاتهم الفكرية والروحية، لأنهم ليسوا في الاتجاه الذي يفتح أبواب الاقتناع بالرأي الآخر، فقد أغلقوا أسماعهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير.

ويستمرّون في تعسفهم العملي في مواقفهم من الرسول(ص) وفي منطقهم المتعنّت، ولكن لا بد من أن يتحملوا مسؤولياتهم في ذلك ويحملون أوزارهم على ظهورهم. ويبقى النداء الإلهي الموجه إليهم، أن الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ، وأن الآخرة هي الخير كله الذي يحصل عليه الأتقياء والعقلاء.

وتنفتح السورة على قلب رسول الله لتملأه بالفرح الروحي من خلال قيامه بالرسالة الإلهية التي لا بد له من أن يصطدم في حركتها الصاعدة بالقوى المضادّة من الكافرين والمشركين والمنافقين، فلا يتعقّد من كلمة سيئة أو من إنكار أو تعسف، أو من حصارٍ مطبق، أو من مشاكل متراكمة، لأن الوصول إلى النهايات السعيدة في حركة الرسالات تفرض على الرساليّ المزيد من الصبر والصمود، ثقةً بالله، وانسجاماً مع الواقع الذي يجعل للأشياء حدّاً محدوداً وعمراً معيناً للتكامل والنموّ. وهكذا كانت السورة تتحرك في مؤانسة النبي وتثبيته بما يثبته الله به من القوة والانفتاح على آفاق الغيب التي تحمل الكثير من الأمل بالمستقبل، فعليه أن يستمر لأنه لا يملك بديلاً عن ذلك.

وتدخل السورة إلى تفاصيل التشريع في التحليل والتحريم في أكثر من موضوع، فإذا أرادوا الطعام، فعليهم أن لا يأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، ليقفوا عند ما ذكر اسم الله عليه فلا يتجاوزوه إلى غيره، ولذلك فلا حرية لهم في الذبح كيفما شاؤوا، بل هي مسألة متصلة بقضية التوحيد الذي يجعل الطعام باسم الله الذي خلقه ورزقه، لا سيما من خلال إنهاء حياة الحيوان الذي يملكه الله وحده، وقضية الشرك الذي يجعل مسألة الذبح مربوطة بالأصنام، وهذا ما توحي به حركة التشريع في الخط التوحيدي بارتباط كل شيء بالله، فكما هو ـ كذلك ـ في التكوين الذي يخضع فيه الوجود لله، فهو كذلك في التشريع الذي لا بد من أن يتحرك فيه الإنسان في خط الله، ولهذا فلا مجال لهؤلاء الناس في أن يحلّلوا أو يحرّموا هذا الحيوان أو ذاك، أو يقتلوا أولادهم بفعل بعض العادات والتقاليد السيئة البعيدة عن أي معنى إنساني، مما كانوا يفعلونه بدون وعي للنتائج المدمّرة في ذلك.

وتطوف السورة بقصة إبراهيم(ع) في تأملاته الفكرية الرسالية التي تمثّل المنهج الإيماني في الوصول إلى النتائج التوحيدية، وتتنوع مشاهد الحياة في كل آفاق الوجود، ليجد الإنسان أمامه كل الحركة النابضة في الكون في الإصباح والإمساء، والكواكب التي تمثل نقاط الضوء المنتشرة في الفضاء التي تشق الظلام، والماء الذي ينزل من السماء لتختزنه الأرض وليتفجر ينابيع وأنهاراً، وليملأ الأرض بكل شيء حيّ، والزرع الذي تتنوع أشكاله وألوانه وثماره وجمالاته وإيحاءاته، كما هي إيحاءات كل الموجودات في الدلالة على الله في مواقع عظمته ونعمته. ويقف الإنسان في نهاية المطاف، كالوجود الذي يسبّح الله في كل مظاهره، لتكون لكل واحد لغته الخاصة في التعبير عن ذلك، ليبتهل إلى الله وليشهده على قلبه، أنه الإنسان التوحيدي الذي يقدِّم صلاته ونسكه وحياته وموته لله، لتكون جميعاً في خط الله المستقيم على أساس دينه القويم الذي هو عنوان الهداية التي تحدد للإنسان مسؤولياته في عمله مقارناً بعمل الآخرين، وفي علاقته في حركة الطاقات المتنوعة عند الإنسان الآخر في حاجاته المتشابكة التي لا يستغني فيها إنسان عن إنسان، لتكون الدرجات المختلفة منطلقة من الحاجات المتنوعة لا من ذاتيات الإنسان.

وتبقى السورة في حركة دائمة تنبض بالحياة، فتحرّك العقل، وتنفتح على الوجدان، وتوحي للمشاعر بكل جديد، لتتكامل مع السور القرآنية الآخرى في البرنامج المنهجي الفكري والعملي، من أجل أن يبقى الإنسان مع الله في نفسه وعلاقته بالإنسان الآخر وبالكون والحياة.