تفسير القرآن
الأنعام / الآية 1

 الآية 1
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـــة

{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(1).

* * *

معاني المفردات

{يَعْدِلُونَ}: العدل: خلاف الجور، وعدّلت به غيره: سوّيته به، وعدلت عنه: أعرضت، وعدلت الشيء فاعتدل: قوّمته فاستقام.

* * *

من أساليب القرآن في التربية العقائدية

بدأت هذه السورة بكلمة {الْحَمْدُ للَّهِ} كما بدأت بها سورة الفاتحة، للإيحاء بروح التفاعل الإنساني بقضية الإيمان بالله، لأن للجانب التعبيري أثره الكبير في إطلاق الفكرة في النفس وامتدادها في الروح، لأن الكلمة المعبّرة عن المدح والثناء، لا بدّ لها من قاعدةٍ تنطلق منها في عالم التصوّر والشعور، ولا بدّ لها لأجل ذلك من ملاحقةِ ظاهرةٍ من ظواهر الكون لتكون مدعاةً للتأمل والفكر، ولتعود محمَّلةً بكل المعاني الحيّة التي تثير في الإنسان الإحساس بالعظمة والامتنان.. وهكذا تتحوّل هذه الكلمة التي يعبّر بها عن مشاعره إلى حديثٍ داخليٍّ متجدّدٍ، يذكّره بالآفاق الرحبة التي انطلقت منها، ما يجعل منها أداة تفجير دائمة لمنابع الإيمان في النفس..

وهذا ما أرادته التربية الإسلامية في تعاليم الشريعة، من استحباب النطق بكلمة «سبحان الله»، عندما نشاهد بعض مظاهر عظمة الله، وكلمة: «الشكر لله» عند إحساسنا ببعض نعمه علينا، وكلمة: «لا حول ولا قوة إلا بالله» عند التوقف أمام تهاويل الخوف التي تثير مواطن الضعف لدى الإنسان أو عند الإحساس بالقوة الذاتية بالطريقة التي قد تبعث فيه الغرور من خلال نسيان مصدر القوة، أو كلمة: «الله أكبر» عند مواجهة القوى الكبيرة في الكون، والشعور بعظمتها داخل الإنسان، لتتضاءل عظمتها أمام عظمة الله، بحيث تتحوّل تلك الكلمات إلى محرّك للمفاهيم الإيمانيّة في كل وقتٍ، لئلا تغيب تلك المفاهيم في غمار المشاكل اليوميّة التي تبعد الإنسان عن الله وتنسيه ذكره. وجاءت الكلمات التالية، لتؤكد القاعدة التي ينطلق منها الحمد لله في حياة الإنسان.

* * *

عظمة الخالق متجلّية في مخلوقاته

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ} ويتطلع الإنسان إلى السماوات بالنظرة المجرّدة الساذجة، فيرتدّ طرفه خاسئاً حسيراً عندما يشاهد الشمس والقمر والكواكب، وهي تتفجر بالنور اللاهب تارة، والدافىء أخرى، والهادىء البارد ثالثةً، والخفيف البعيد رابعة.. ويتطلع إلى هذه الأعداد الهائلة من النجوم التي لا تُعدُّ ولا تحصى، ويحار في طبيعتها وفي طبيعة القوانين التي تحكمها، ويدفعه الخيال إلى تصوّر الكثير من الصور والتهاويل والأفكار التي قد تلامس الحقيقة قليلاً، وتبتعد عنها كثيراً... ويتعمق فيها بالنظرة العلمية العميقة الواسعة، فيصيبه الذهول والشرود عندما يتطلع إلى هذه الأكوان السابحة في الفضاء، المرتكزة على قوانين كونيّة غامضة لم يصل الإنسان إلى اكتشاف أسرارها، بل كل ما هناك أنه وضع يديه على البعض القليل منها، وما يزال يبحث ويسعى للوصول إليها، بالرحلات الفضائية تارةً، وبالمناظير المكبّرة أخرى، وبالتحاليل العلمية التي تتأرجح بين الشك واليقين ثالثة.

وتمتلىء النفس بمشاعر الدهشة والعظمة والتضاؤل أمام هذه الأكوان الشاسعة المترامية.. ويعود الإنسان إلى الأرض التي سخرها الله ومهدها له، وجعلها في متناول يده بأنهارها، وبحارها، وجبالها، وسهولها، ومعادنها، وثرواتها، وأشجارها، وخضرتها الممتدة التي تحمل إليه من كل الأزواج المتنوعة من الخضر والفواكه وغيرها.. وحيواناتها السابحة في الماء، والطائرة في الفضاء، والمتحركة في كل صعيد، والسارحة في أعماق الأرض.. وإنسانها الذي يتميز بكل خصائص العقل والقدرة والإرادة والحركة المتغيّرة.. وغير ذلك مما أودعه الله في سطح الأرض وعمقها، مما يحار فيه الفكر ويشرد فيه الخيال، ويخشع له العلم أمام ما يكتشفه من قوانين وأسرار دقيقة أودعها الله في سننه الحتمية التي تحكم المادّة، وتتحكم في حركة الإنسان الفردية والاجتماعية..

ثم يكتشف هذا الإنسان أن هذه الأرض المترامية الأطراف التي لا يبلغ مداها، ليست إلاّ ذرّةً صغيرةً سابحةً في الفضاء، فيحسّ بالعظمة الكبيرة لذلك كله، وينطلق الفكر بعد ذلك مع القرآن ليتطلع إلى خالق السماوات والأرض، فلا يملك إلا أن يخشع ويخضع ويتضاءل ويشعر بالانسحاق أمام عظمة القدرة، ولا يجد إلا كلمات الحمد التي لا تنبغي إلا له وحده.

* * *

الله جاعل الظلمات والنور

{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} ويعيش الإنسان مع الظلمات التي تطبق على الكون في أعماق البحار، وفي أغوار الكهوف، وفي آفاق الفضاء، عندما يطبق الليل على الأرض، وتبتعد الشمس عن الأفق، فلا يكتفي بالمشاعر السلبيَّة القاتمة التي يعيشها عندما يفتقد بهجة النور في الكون، فيفقد فرح النور في نفسه، أو بالمشاعر الإيجابية من الجانب الآخر، التي تملأ نفسه بالهدوء والسكينة والطمأنينة والسلام أمام سكون الليل وهدوء الظلام، وانسياب المعاني الصوفية الشاعرية الحبيبة في روحية المناجاة مع الكون ومع الله في روحه، بكل وداعة وإبداع.. وينطلق الصباح في مثل الخيوط السحرية التي تتناثر في الفضاء رويداً، تماماً كما يتنفس الكون بأنفاس الضياء في تنهيدةٍ عميقة تشهق بالنور كما يشهق الصدر بالهواء.. ويتحرك خيط من هنا.. وخيط من هناك.. ويهدر ينبوع النور في إشراقة الشمس، ورديّ الملامح.. ذهبيّ الخيوط، ناصع البياض كمثل الشلاّل، وتنفتح العيون في الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، وفي كل شيء.. فإذا بكل شيء عينٌ تحدّق في الفضاء من جديد بعد أن أغلقها الظلام بسكونه وغفوته وغلّفها بغلافه الكثيف، وإذا بالبهجة تملأ الروح، والفرحة تغمر القلب، والحركة تدفع الخطى وتحرّك الحياة نحو يومٍ جديدٍ من أجل إنسانٍ جديدٍ، وحياةٍ جديدةٍ..

وتعود المشاعر لتعيش بين إيجابيّة النور الذي يوقظ الحيوية في الداخل، وبين سلبية الضجيج الذي يرهق السكينة في الأعماق، ولكن القرآن يوجّه الإنسان بعيداً عن كل خلجات المشاعر، ونبضات الأحاسيس، ليربطه بالفكر الذي يتأمّل ويحلّل ويناقش ويستنتج؛ كيف جاء الليل؟ وكيف أقبل النهار؟ وكيف تتحرك هذه الظاهرة الكونية في نظامٍ مستمرٍّ دقيقٍ لم ينحرف عن مساره بمقدار شعرة بالرغم من تقادم السنين، فيشعر بالرهبة أمام هذا التدبير المحكم، ويقوده ذلك إلى جاعل الظلمات والنور بالحكمة العميقة، والإبداع العظيم، وينطلق الإيمان بالله في فكره وقلبه وضميره، كمثل الشعاع الذي يتدفق به النهار، وكمثل السكينة الوادعة التي ينساب في روحانيتها هدوء الليل... وهذا هو شأن الذين يفكرون ويتدبرون وينفتحون على كل ظواهر الحياة من خلال التجربة المتحركة اليَقِظَةِ في كل ما يبصرون ويلمسون ويسمعون، بحيث يتحول ذلك إلى فكر وعلمٍ وإيمان.. وهم المؤمنون الذين لم ينطلق الإيمان في كيانهم من موقع التقليد الساذج الذي يحاكي فيه الأبناء الآباءَ، بل من موقع المعاناة والجهد والحركيّة الإنسانية في خطوات الحياة.

أمّا الذين يغلقون أبصارهم عن النور، وأسماعهم عن الهدى، وتجربتهم عن الانفتاح، فلا يمرّون بالأشياء التي من حولهم إلا كما يمرّ الأعمى الذي يحدّق في الظلام بعيونٍ مظلمةٍ باردة، لا توحي له إلا بالمزيد من الظلام في تهاويل الأشباح. أمّا هؤلاء، فإنهم لا يرون في حياتهم حتى أنفسهم.. لأنَّهم إذا أبصروا أنفسهم أبصروا ربّهم بعين بصيرتهم، بل كل ما يعرفونه من أنفسهم هو حاجاتهم الحسّية، لذا فإنهم لا يؤمنون بالله، بل بما يصنعونه من شركاء يغذّون فيهم جانب الحسّ، ويشغلونهم عن التفكير بما وراء الأشياء، بالاندفاع إلى اللذة التي تحملها ظواهرها.

وقد أثار البعض الحديث عن مسألة مخلوقيّة الظلمة، وهي عنوان عدمي، لأنها تعبر عن عدم النور، فكيف يكون العدم مخلوقاً. ولكن نرى أنه ليس لهذا الكلام موقع للإشكال، فإن المقصود ـ في التعبير البلاغي ـ أن النور والظلمة في تجاذبهما في الكون ومحو كل منهما في الآخر، يمثلان مظهرين من مظاهر قدرة الله في النظام الذي أودعه في الكون، فليست المسألة مسألة مصطلح الجعل بمعناه الإيجادي، بل بمعناه الواقعي الكوني على مستوى مظهر الظلمة والنور في تعاقبهما في الوجود.

ثمّ قد يقال بأن هناك فرقاً بين العدم الذي لا مظهر له والعدم الذي يمثل مظهراً في واقع الوجود، فإن عدمية الظلمة بالنسبة إلى النور لا تمنع من كونه وجوداً مؤثراً في صورة الوجود، بحيث إنها مع النور يمثلان صورتين متضادتين في صورة الوجود لا شيئين متناقضين كما هو الوجود والعدم الذي هو بمعنى الخلق، ولهذا صح الحديث عن جعلهما؛ والله العالم.

{ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وينحرفون إلى غيره، فيعبدونه من دون الله، من دون علمٍ، ومن دون أساسٍ، بل هو العناد والعصبيّة والضلال البعيد.