من الآية 2 الى الآية 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتــان
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَـواتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}(2ـ3).
* * *
معاني المفردات
{أَجَلاً}: الأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد، فأجل الإنسان وقت انقضاء عمره، وأجل الدين محله وهو وقت انقضاء التأخير، وأصله: التأخير، يقال: أجّله تأجيلاً وعجّله تعجيلاً، والآجل: نقيض العاجل.
{تَمْتَرُونَ}: تشكّون. والامتراء: الشك، وأصله من مرأت الناقة: إذا مسحت ضرعها لاستخراج اللبن، ومنه: ماراه يماريه مراءً ومماراةً: إذا استخرج ما عنده بالمناظرة، فالامتراء: استخراج الشبهة المشكلة بغير حلّ.
* * *
هو الذي خلقكم من طين
من الذي خلقكم أيها الناس؟ وكيف خلقكم؟ ومن أيّ شيء كان الخلق؟ وكيف تنتهي بكم الحياة؟ ليس هناك غير الله، حاولوا أن تلتفتوا يميناً وشمالاً، ومن بين أيديكم ومن خلفكم، فلا ترون إلا مخلوقاتٍ مثلكم، لم تكن ثم كانت كما لم تكونوا، ثم صرتم بشراً سويّاً. ثم استنزفوا كل طاقتكم في التفكير، فهل ترون غير الله؟ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ}.
وهذه قدرة الخالق الذي خلق البشر على أحسن صورة، ونفخ فيه من روحه كما قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 ـ 29] وتلك هي قصة الإنسان في إبداع الخلق، فهو قطعةٌ من التراب ونفخة من روح الله وقدرته، وتلك هي قصة آدم وحوّاء.. أما أولادهما فقد خلقهم الله من نطفة من ماء مهين.. ولكنه الماء الذي تأتّى من الغذاء.
ويحثّ القرآن الإنسان على التفكير في ذلك كله.. كيف تدبّ الروح في التراب؟ وكيف تتحرك الحياة في الجماد الميّت؟ وكيف تحمل النطفة سرّ الحياة، بكل تفاصيلها وألوانها ومشاعرها وطاقاتها؟! ويتعمق الفكر في كل اتجاه من حركة المادّة، فلا يجد إلا الجدران الباردة تضرب رأسه بالحيرة، ولكنه يستفيق على الحقيقة التي تشير إليه نحو الأفق البعيد عن المادّة والحدود والسدود، ليجد الله في قدرته، يبعث الروح في الجماد، وسرّ الحياة في النطفة.
* * *
الأجل المحتوم والأجل المخروم
{ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} لهذا الإنسان، فليس هناك خلودٌ في الدنيا، لأن طبيعة المادة لا تحمل سرّ الخلود، فلكل نفس أجلٌ لا بد من أن تنتهي إليه ولا يمكن أن تتعداه في النظام الكوني الذي أودع الله في حناياه عمر كل شيءٍ من مخلوقاته: الإنسان والحيوان والنبات والجماد.
{وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} قد يتفق مع الأجل الذي تقف عنده آجال الأشياء، وقد يسبقه قليلاً أو كثيراً لأسباب طارئة تحول دون امتداد الحياة الطبيعية في الزمن، كما يحدث للإنسان من الأمراض والحوادث والحروب التي تنهي حياته قبل أوانها، أو لغير الإنسان من ذلك أو من غيره.
وقد حار المفسرون في تحديد هذين الأجلين، فقال بعضهم، إن الأجل الذي قضاه الله هو الموت، وأما الأجل الذي عنده فهو يوم البعث الذي لا يعلمه إلا هو، فلم يجعل الله علمه حتى لرسوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا *فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا *إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ *إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا *كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42ـ46] وقال بعضهم: إن الأجل المسمى عند الله، هو الأجل المحدد في علمه الموجود في اللوح المحفوظ، أمَّا الأجل الذي قضاه الله فهو العمر الطبيعي المحدّد الممتد بالشروط الموضوعية المحيطة بالإنسان من حيث الزمان والمكان والطوارىء.. فإذا تحققت له امتد به العمر إلى النهاية الطبيعية التي يمكن أن يعيشها الجسد في الحالة الطبيعية، وإذا لم تتحقق له انقطع به العمر بانتفاء شروط الحياة.
وهذا ما يطلق عليه الأجل المحتوم، وهو العمر الطبيعي الذي تتوفر له كل الشروط الموضوعية للامتداد، سواءٌ من الجانب الصحي أو الأمني أو غير ذلك، والأجل المخروم وهو العمر الذي يقف بالإنسان عند حدود الطوارىء، كمرضٍ عضالٍ يعرض له، أو رصاصةٍ تصيبه أو حشرةٍ تلدغه، أو حيوانٍ يفترسه، أو زلزالٍ يصرعه، أو فيضانٍ يغرقه، أو نارٍ تحرقه، أو ضربةٍ تقتله ونحو ذلك، فينخرم أجله بعد أن كان قابلاً للامتداد في ذاته. وبهذا نعرف أنَّ هذا التقسيم للأجل لا يعني أن للإنسان أجلين في علم الله، لأن ذلك غير معقول، إذ ينتهي إلى نسبة الجهل إلى الله أو التغيير في إرادته التكوينية، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل يعني أن أجل الإنسان يخضع لعاملين، أحدهما: ذاتي، وهو الغاية التي يبلغها الجسد في إمكانيات البقاء من خلال الأجهزة الطبيعية المودعة فيه. وثانيهما: طارىء، وهو الأسباب التي تعطل بعض هذه الأجهزة في منتصف الطريق فلا يتمكن معها من الاستمرار في البقاء، ولكن الله يعرف واقع الأشياء قبل أن يخلقها، فإنه يعلم ماذا يحدث لها بعد أن تخلق، ولهذا كان الأجل المسمى عنده هو الحالة التي يكون عليها الإنسان عند موته، سواء كانت ذاتية أو طارئة.
وقد أكدت أحاديث أهل البيت(ع) على المعنى الثاني، وهو الأقرب إلى الذهن عند قراءة الآية.. لأنه لو كان المعنى الأول هو المراد، لم يكن منسجماً مع الحقيقة الإيمانية القرآنية التي تقرر أن عمر الإنسان مما اختص الله بعلمه، فلا يعلمه الناس إلا من طريقه.. وهذا هو ما جاءت به الآية الكريمة: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] فلا يبقى هناك فرق بين الساعة التي يموت فيها الإنسان في الدنيا، وبين الساعة التي يبعث فيها في الآخرة، والله العالم بحقائق آياته.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} أي تشكّون وترتابون مع دراستكم لهذا التنظيم الدقيق الذي يحكم حياتكم في بداية خلقكم وفي نهاية حياتكم.. فكيف ترتابون وأنتم تفكرون؟!
* * *
السيطرة المطلقة لله
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَـواتِ وَفِي الأرْضِ} لم تنطلق هذه الآية من مواجهة الفكرة الشركيّة التي تتحدث عنها الأساطير اليونانية والقصص الإغريقية، من أنّ لكل ظاهرة كونيّةٍ أو حياتية إلهاً خاصاً، فللحرب إله، وللسلم إله، وللشجر إله، وللماء إله، وللحبّ إله، وللسماء إله، وللأرض إله.. بل انطلقت ـ والله العالم ـ لتقرير المعنى الذي يوحي بالسيطرة المطلقة لله على كل شيء، من خلال المعنى الذي تتضمّنه الألوهية من سلطةٍ ممتدّة إلى كل شيء، في السماوات والأرض، كما في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضَ} [البقرة: 255]. وبهذا تتحرك الفقرة الثانية: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} في هذا الاتجاه، لتؤكد الإحاطة بالإنسان في سرّه وعلانيته وجميع أعماله، فيشعر الإنسان بالسيطرة الإلهية عليه من موقع سعة علمه لكل بواطنه وظواهره ومكتسباته..
أمَّا إيحاءات الآية، فإن الفقرة الأولى توحي بالشعور بالعظمة المطلقة التي يحس الإنسان معها بالانسحاق أمام الله، فيدفعه ذلك إلى الخضوع له في كل شيء. أمَّا الفقرة الثانية، فإنها توحي بالإحساس بالمراقبة الكلية المحيطة به من جميع الجوانب من قِبَل الله الذي يملك أمر حسابه وعقابه وثوابه، فيدفعه ذلك إلى الانضباط في كل خطواته العمليّة في ما يأمره الله به أو ينهاه عنه.
تفسير القرآن