تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 4 إلى الآية 6

 من الآية 4 الى الآية 6
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَـاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاَْنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}(4ـ6).

* * *

معاني المفردات

{قَرْنٍ}: القرن: أهل كل عصر، مأخوذ من إقرانهم في العصر. ّقال الزجّاج: والقرن ثمانون سنة، وقيل: سبعون سنة، قال: والذي يقع عندي أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلَّت السنون أو كثرت، والدليل عليه قول النبي(ص): خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم[1]. وقال الراغب: القرن: المقترنون في زمن واحد[2] وقد غلب في الاستعمال ـ أخيراً ـ على المائة سنة.

{مَّكَّنَّاهُمْ}: التمكين: إعطاء ما به يصح الفعل كائناً ما كان من آلة وغيرها، والإقدار: إعطاء القدرة خاصة.

{مَّدْرَاراً}: غزيرة المطر، يقال: درّت السماء: إذا نزل منها المطر بكثرة وغزارة، فهي مدرار أي: كثيرة الدرّ. وأصل الدر هو اللبن، يقال: درّت الناقة إذا نزل من ضرعها اللبن غزيراً ويستعار ذلك للمطر ـ كما يقول الراغب[3] ـ استعارة أسماء البعير وأوصافه، فقيل: لله درّه، أي: عمله. وفي الذم: لا درَّ درّه، أي: لا كثر خيره.

* * *

سلبية الكافرين في مواجهة الرسالات

وتلك هي مشكلة الكافرين ـ كما يصوّرها القرآن دائماً ـ فهم يمارسون السلبيّة المطلقة أمام الفكر الحق الذي تقدمه الرسالات، وذلك بالإعراض عنه وعن براهينه ودلائله وآياته من دون أساسٍ، وبذلك لم تكن قضية التكذيب به قضية فكرٍ يناقشونه ويرفضونه، بل هي قضية عقدةٍ ذاتية ضد الأمور الجادّة في الحياة، فيعملون على أن لا يُلزموا أنفسهم بشيءٍ من ذلك، وذلك بأن لا يواجهوا الموقف بالجدية التي تفرض التأمّل والمحاكمة والاقتناع، فلا يفتحون عيونهم على ما يحتاج إلى بصر، ولا يوجهون أسماعهم إلى ما يحتاج إلى سمع، ولا يطلقون عقولهم في ما يحتاج إلى تفكير. وهذا ما نزال نلاحظه لدى كثير من شباب الجيل الذين ينحرفون عن الخط دون أن يحاولوا التعرف على ملامحه، وذلك بالاستجابة إلى القراءة والتأمل والحوار، بل هم يتخذون بدلاً من ذلك الموقف الذي يرفض بعض الأمور من دون دليل، ويتقبل البعض الآخر من دون حجّة أو برهان.

وهذا ما أوضحه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَـتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ}. ويتصاعد الأسلوب التهديدي الذي يواجههم بالحقيقة التي تنتظرهم في ما ينتظرهم من عذاب الله الذي كذبوا به: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} وذلك هو جزاء كل هؤلاء الناس الذين يواجهون الحقيقة بالسخرية والاستهزاء ليهزموا دعاتها نفسياً.. ولكن الله أمر رسله أن يثيروا في داخلهم الشعور بالحقيقة المرعبة التي سيلاقونها غداً عندما يلاقون وجه الله، ليوحوا إليهم بأن أساليبهم لا تجدي في ما يحاولونه من هزيمة المؤمنين، بل سترتد عليهم سخرية واقعية تتمثل في أوضاعهم السيئة في نار جهنم.

* * *

الهلاك للجاحدين والكافرين بنعم الله

وماذا ينتظر هؤلاء وغيرهم من المكذّبين؟ هل ينتظرون إلا الهلاك الذي حلّ بالقرون السالفة من قبلهم؟ {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} بما أعطاهم من وسائل القوة، وأسباب النعيم، {وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} فقد أرسل السماء عليهم بأمطارها الغزيرة {وَجَعَلْنَا الاَْنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} وتحولت الأرض من خلال ذلك إلى أنهار تجري من تحتهم.. ولكنهم لم يشكروا ولم يخضعوا لله، {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فأهلكهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قرناً آخرين، فأين ذهب هؤلاء كلهم؟ وماذا حدث للأرض وللسماء من بعدهم؟.. لم يحدث شيء.. بل استمرت الحياة كما أرادها الله في قوم آخرين، وهكذا تستمر الحياة مع غيرهم، فلا يتصور أحدٌ أن أيّاً من تصرفاته يمكن أن يغيّر من سنّة الله في الحياة، بل عليه أن يعرف بأن الأمر كله لله، وأن الذي أوجد الكون بإرادته قادر أن يزيله بتلك الإرادة الحكيمة القادرة التي لا يُعجزها شيء في الأرض ولا في السماء.

* * *

لماذا يثير القرآن فكرة الموت باستمرار؟

قد يتساءل قارىء القرآن عن السبب الكامن وراء إثارة القرآن لفكرة الموت بشكل دائم... لماذا يلحّ دائماً على أن يجعل الإنسان مهزوماً أمام فكرة الموت؟ هل يريد له أن يعيش تحت تأثير هذا الهاجس، كالشبح المرعب، الذي يوحي له بالخوف والهلع المستمر، ما قد يُفقده التركيز على مشاريع الحياة التي تحتاج إلى الشعور بالامتداد في خط العمل من أجل التخطيط المستمر لإكمال المسيرة؟

وفي ضوء هذا التساؤل، يحاول البعض من الناس اتهام الوعظ الديني الذي يعمل على تعميق إحساس الإنسان بالموت في كل لحظة، بأنه يمنع الإنسان من الشعور بالقوة، لأنه يجمِّد قوّة الحياة في داخل وعيه وتفكيره من خلال الإيحاء بأن من الممكن أن تنتهي الحياة في أيّ وقت.. فيتضاءل الإنسان ويضعف ويسترخي في تهاويل الحزن انتظاراً للموت.. وبهذا يتحول الناس إلى جماعات متناثرة تنتظر الموت بدلاً من أن تنطلق وحدة قويّة في بناء الحياة!

والجواب عن ذلك: إن لهذا الأسلوب هدفاً تربوياً يسعى إليه، وذلك لأن الشعور بالقوّة المطلقة له أثران: إيجابي وسلبي. أما الأثر الإيجابي، فهو حرية الحركة وحيويتها في جميع الأشياء التي يفكر بها أو يطلبها منه الآخرون؛ وأمّا الأثر السلبي فهو الشعور بالغرور الذي يجعله يتحرك في إحساسٍ بضخامة الشخصية بشكل غير معقول، فيؤدي به ذلك إلى التكبّر والتجبّر والدخول في متاهاتٍ من الأعمال التي لا يملك زمام القدرة فيها.. وهذا ما أراد الإسلام أن يخفّف منه، وذلك، من ضمن خطة تتحرك في عدّة أساليب، منها: الإيحاء الدائم بمواطن الضعف البشري في ما يصيب الإنسان من أمراض وعوارض وبلايا، دون أن يملك أمر مقاومتها أو دفعها عن نفسه. ومنها: هذا الحديث الدائم عن الموت، بالحديث عمن هلكوا وعمن أهلكهم الله من القرون السالفة التي كانت تملك من القوّة أكثر مما يملكها المخاطبون، للإيحاء للإنسان بأن القدرة التي يملكها هي قدرة محدودة مستمدة من الله وخاضعة في استمرارها لإرادته المطلقة، الأمر الذي يحثّ الإنسان على التواضع في نظرته إلى نفسه، وفي خضوعه لله من خلال الخضوع للقدرة العظيمة في سلطانه.

فليس هدف القرآن الإيحاء بالهزيمة والانسحاق تحت تأثير الشعور بالموت، بل تحقيق التوازن في شعوره بالحياة وارتباطه بحركتها الممتدّة في طاقاته، فلا يفقد الأمل بالامتداد لما أودعه الله فيه من طاقةٍ قابلةٍ للاستمرار، ولما أثاره في نفسه من الثقة به والرجوع إليه، ولا يسترخي أمام قوة الحياة في داخله ليستسلم لها استسلاماً مطلقاً، بل يشعر بأن الموت يمكن أن يأتي في أية لحظةٍ، ليظل الإنسان منطلقاً في خطّ العبرة الموحية التي تجعله يفكر بالموت حين يستحضر التاريخ، ويعيش الحاضر، ليقوده ذلك إلى التفكير في ما بعد الموت، فيتحول إلى حالةٍ من الانضباط في الحياة العملية تحت تأثير هذه الفكرة.

* * *

الإنسان وقانون القضاء والقدر

وهناك عدة إشارات في هذه الآيات:

1 ـ إن قانون السببية شامل للمواقف الإنسانية كما هو واقع في الظواهر الكونية، فقد جعل الله الواقع الإنساني خاضعاً للمواقف التي يتخذها الإنسان من خير أو شر، وهذا ما يجعل النتائج الإيجابية أو السلبية في حياته تابعةً لذلك. وهو ما يوحي إلينا بأن الله أوكل للإنسان أمر صياغة دنياه كما أوكل إليه صياغة مستقبله في آخرته، وذلك بقدر ما يتصل الأمر بإرادته واختياره، وهذا ما يصح لنا معه أن نقول: إن الإنسان يصنع قضاءه وقدره في الأمور المرتبطة بحركته الإرادية القادر من خلالها على تحريك الواقع، وليس القضاء والقدر شيئاً فوق إرادة الإنسان دائماً، بل هو كذلك في الأمور الكونية التي يتحرك بها النظام الكوني، أو في الأمور الحادثة التي يتعرض لها من دون اختياره.

وهذا ما توحي به الآية الكريمة: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} فهي أنباء السوء الناتجة عن أعمالهم الشريرة ومواقفهم من الحق الذي جاءهم، فاستهزأوا به وأنكروه، فخسروا إيجابيات الحق في الدنيا، وسيواجهون عقاب الله في الآخرة.

إنها الأنباء التي يتمخّض عنها الموقف السلبي، وهي ليست أنباءً سعيدة على كل حال.

وهذا هو منطق السنن الاجتماعية التاريخية في تقدير الله للكون والإنسان، وهو الذي تتحرك فيه التجارب الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن ذلك لا يخضع لحدّ زمني معين، بل هو خاضع للزمن كله ولحركة الحياة في عناصرها الحقيقية.

* * *

الإنسان وحركة القوة في كيانه

2 ـ إن حركة القوة في كيان الإنسان لا تمثل الضمانة له في الحصول على الفرص السعيدة في القضايا التي يخوض تجربته فيها ويحصل على نتائجها، بل إنها قد تدمّره إذا تحوّلت إلى حالة من الفوضى في الطغيان، أو اهتزاز في التوازن، أو امتدادٍ في الغرور الذي يوحي بانتفاخ الشخصية في نظرة الإنسان المَرَضية لنفسه وتعامله مع غيره؛ فإن مثل هذه الآثار السيئة في صورة الانحراف بما تمثله كلمة الذنوب في الأفكار والأعمال في الواقع الفكري والعملي، لا بد من أن تنتهي إلى نهايات سلبية، لأن القوة سوف ترتد عليه لتقتله عندما تصبح طاقةً مجنونة تتحرك بطريقةٍ جنونية لتطبق عليه، تماماً كمن يحمل الحجر ليكسر رأسه بدلاً من أن يكسر به رأس عدوّه.

وهذا هو الذي عبرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاَْنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} وليس من الضروري أن يكون الإهلاك بالذنوب بمعنى العقاب الإلهي الذي ينزله الله عليهم بسبب ذنوبهم، بل قد يكون بمعنى الاثار السيئة التي هي النتائج المتلازمة مع الأعمال على هدى قوله تعالى في آية أخرى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] ليذوق الإنسان وبال أمره.

وعلى ضوء هذا، لا بد للإنسان ـ فرداً أو مجتمعاً ـ من أن يدرس ـ بموضوعية ـ اتجاهاته الفكرية والعملية المنحرفة بشكل خاص في خصائصها وفي نتائجها الإيجابية والسلبية، ليعرف كيف يحرك قوته بوعي ويحصل على نتائجها بمسؤولية واتزان، ويدرس التاريخ دراسة الباحث في حركة التجربة ونتائجها.

* * *

الإنسان واحترام العقل

3 ـ إن الله أراد للإنسان أن يفكر في كل ما تعرضه عليه الرسالات ويقدمه إليه الرسل من آيات الله ودلائل قدرته ومواقع عظمته ونعمته، مما يمثل الحجة عليه في خط الشريعة، لأن الله يتعامل مع الإنسان من خلال عقله الذي أعدّه ليرشده إلى الحق، وليقوده إلى المعرفة الواعية المنفتحة على حقائق الحياة في دلالاتها ونتائجها، وهذا هو المنهج القرآني الذي أراده الله للإنسان عقلاً وإرادة وحركة مسؤولية في الحاضر والمستقبل.

إن الله يحترم في الإنسان عقله ويريد أن يأخذ بنتائجه القطعية الحاسمة من خلال التأمل والتفكير، فإذا لم يحترم الإنسان هذه الطاقة الإلهية المقدسة في وجوده، فعليه أن يواجه المسؤولية بكل سلبياتها على صعيد الدنيا والآخرة.

ـــــــــــــ

(1) الطبرسي، أبو علي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1412هـ ـ 1002م، ج:4، ص:345.

(2) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:417.

(3) مفردات الراغب، ص:168.