تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 7 إلى الآية 11

 من الآية 7 الى الآية 11
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ* وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاكم مَلَكاً لَّجَعَلْنَاكم رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(7ـ11).

* * *

معاني المفردات

{قِرْطَاسٍ: ما يكتب فيه، من ورق ونحوه. وجمعه: قراطيس.

{لَّقُضِيَ}: قال الزجّاج ـ كما في مجمع البيان ـ: قضي في اللغة على ضروب كلها يرجع إلى انقطاع الشيء وتمامه[1].

{وَلَلَبَسْنَا}: لشبّهنا وعمّينا عليهم الأمر، كما يشبهون ويعمون على أنفسهم بتخيلهم الحق باطلاً والباطل حقاً، وعلى غيرهم من الذين يعيشون الجهل وعدم الوعي فيتبعونهم.

واللبس: التغطية على الحق، وأصله ـ كما يقول الراغب ـ : ستر الشيء[2]، ويقال ذلك في المعاني. قال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].

{فَحَاقَ}: الحيق: ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ:«قوله تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} قال الكلبي: إن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله فنزلت هذه الآية[3].

* * *

الكافرون يثيرون الشبهات أمام الرسول (ص)

ويستمر الوحي القرآني في استعراض ملامح الأسلوب السلبي الذي يتبعه الكافرون أمام الرسالات، مهما قدّمت لهم من بينات، ومهما استجابت لهم من مقترحات، فهم ينتقلون من اقتراحٍ إلى اقتراحٍ، فإذا استجيب لهم في بعضها كانت كلمة السحر هي التفسير الذي يواجهون به المعجزة.. وبدأوا يثيرون أمام الرسول اقتراحاً جديداً، لأنهم لا يجيدون التفكير بطريقة توصل إلى الإيمان، بل كل ما عندهم هو الشغب والشك وإثارة الشبهات ليشغلوا الساحة بذلك كله، فيبتعد المؤمنون عن القضايا الحيّة في الدعوة إلى الله والعمل في سبيله.

وبهذا جاءت هذه الآية، فقد كانوا أثاروا أمام النبي(ص) أن يُنزل عليهم كتاباً من السماء. وتنطلق كلمات الآية لتكشف ما في داخلهم من عدم الجدّية في هذا الطلب، لأنهم لا يعيشون مشكلة فقدان الحجة لتكون هذه الآية السماوية حجة عليهم، بل يعيشون حالة انعدام الإرادة في الإيمان..{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ولذلك فلو أن الله أنزل إليهم كتاباً فلمسوه بأيديهم{لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، فإن ردّ فعلهم لن يكون إلا أن يقولوا {إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}.

وأثاروا ـ في هذا الاتجاه ـ أن ينزل الله ملكاً لأن البشر لا يصلح للرسالة وللوساطة بين الله وبين خلقه، باعتبار أن الرسالة من الغيب الذي لا ينبغي أن يحمله إلا أهل الغيب، {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} ولكن الله يقول إن الاستجابة لهذا الاقتراح ينهي المهلة التي يمهل الله بها خلقه، فقد جرت سنة الله في الأمم التي تقدم بعض الاقتراحات للرسل، ويستجيب الله لها ذلك، أنها إذا رفضت الإيمان بالنبي وبالرسالة تواجه العذاب، ثم يعقب الله على ذلك، أنه إذا أرسل ملكاً فلا بد من أن يكون في صورة البشر وفي ثيابهم، لأن البشر لا يتحملون صورة الملك الحقيقيّة، أو لأنَّ صفة الملك قد تبعد عن الرسول دور القدوة، باعتبار أن قدرة الملك تفوق قدرة البشر:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}.

وإذا حصلت الاستجابة لطلبهم فأرسل الله ملكاً في صورة بشر، فسيختلط عليهم الأمر، لأنهم سوف يتصورونه إنساناً لا ملكاً، وسوف يكذبونه انطلاقاً من بشريته التي تتنافى مع رساليّته ـ في زعمهم ـ كما لو كان بشراً حقيقياً، وسوف يكذبون دعواه في ملائكيته لأنهم لا يتفاعلون مع فكرة تحوّل الملك إلى بشر ـ في الصورة ـ وبذلك يفقدون الوضوح لدى أنفسهم، كما حاولوا أن يلبسوا على الناس الآخرين سلامة الفكرة في شخصية الرسول، فأوقعوهم في الحيرة والتخليط عندما أثاروا أمامهم أن البشرية تنافي الرسولية. ونقل المجمع عن الزجاج قوله: كانوا هم يلبسون على ضَعَفَتِهم في أمر النبي(ص) فيقولون إنما هذا بشر مثلكم فقال: لو أنزلنا ملكاً فرأوا هم المَلَك رجلاً لكان يلحقهم من اللبس مثل ما لحق صفتهم منهم، أي: فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان، وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بياناً، بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحَيرة.

وذكر في تفسير هذه الفقرة وجه آخر، وهو أننا لو أنزلنا ملكاً لما عرفوه إلا بالتفكر، ولكنهم لا يفكرون فيبقون في اللبس، وقد نسب الله ذلك إلى نفسه لإنزاله الملائكة الذين هم السبب في إثارة اللبس، والله العالم.

وفي الآية إشارة إلى أن هؤلاء الناس يعيشون تحت تأثير اللبس لا الوضوح في مواجهة القضايا، فقد كانوا يلبسون على الناس البسطاء من حولهم باستغلال ضعفهم الفكريّ لإقناعهم بما يريدون من الباطل، وهذا ما نلاحظه في أسلوب فرعون في حديثه عن نفسه وعن موسى 5 من قوله: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـذِهِ الاَْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:51 ـ 54] وربما لبسوا على أنفسهم فخلطوا الأمر عليها، وذلك لتصورهم الأمور على غير حقيقتها، بإبراز الحق في صورة الباطل، أو الباطل في صورة الحق، فيبتعدون بالفطرة عن مسارها الصحيح، فيخضعون للأوهام والتخييلات التي تصنع حاجزاً بين الفطرة وبين حركة الإنسان في الوصول إلى النتائج الإيجابية الطيبة.

ويحسم القرآن في الآية الأخيرة الموقف، فليس الأسلوب الذي يواجه النبيّ به أساليب سخرية الكافرين جديداً في ساحة الرسالات، بل هو الأسلوب المتكرر مع كل رسالة، ومع كل رسول: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}.

وفي هذا السياق يندرج سؤال المعاندين للحقيقة ـ حسب الآية ـ النبي أن ينزل عليهم كتاباً في قرطاس ليلمسوه بأيديهم، حيث إن هذا الطلب لا معنى له، لأنهم لا يملكون معرفة الكتاب النازل من السماء أو الكتاب الذي يكتب في الأرض ليميزوا هذا عن ذاك.. ثم إن الآية تؤكد أن اقتراحهم ليس إلا من باب الاستهزاء والتسويق والمماطلة، ذلك أن النبي لو استجاب لهم وجاء بكتاب يملك المواصفات السماوية المميزة، لقالوا إنه سحر مبين، لأن الأسلوب الذي يتحركون فيه هو الأسلوب الذي يريد الانتقال من طلب إلى طلب دون الوقوف عند حدٍّ معين، إذ ينتقلون إلى إنزال الملك عليه، والسؤال هنا: هل يحل ذلك المشكلة، أو أنهم يميّعون المسائل بطروحات لن يقبلوا بها حتى لو استجاب الله لهم فيها؟

* * *

من وحي الآية

إن مشكلة هؤلاء هي أنهم يتهمون النبي(ص) بالسحر، فيهزأون منه وهم مطمئنون إلى أن النتائج سوف تكون في صالحهم لأنهم قادرون على هزيمة الموقف النبوي، ولكن الله يحدد له النتيجة بأن الله الذي أرسل النبي سوف ينزل بهم العذاب الذي يحول حياتهم إلى جحيم في نار جهنم، ويندمون حينها على ما سلف من أيامهم وعلى ما سخروا به من النبي والحقيقة والرسالة.

إن استيحاء هذا الأمر، يفرض على العاملين في خط الدعوة إلى الله أن يواجهوا أمر أمثال هؤلاء بوعي ويقظة، ليعرفوا كيف يسقطون سخريتهم ويتغلبون على كل أساليبهم غير المسؤولة، لأن القضية في حركة الدعوة هي قضية دراسة الخلفيات النفسية والحركية والواقعية التي تحكم سلوك هؤلاء الناس في تعاملهم مع حركة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله من منطلق الخلفيات الكامنة في العقل والروح والحياة.

ولكن، مهما امتدت أساليب السخرية وتنوّعت، فإن الله سينزل بكل هؤلاء العقوبة التي تحوّل سخريتهم إلى مصير أسود يلاقونه في الدنيا والآخرة وبئس المصير، ثم يوجه الخطاب إلى النبي أن يقول لهؤلاء الذين يريدون تكرار موقف الكافرين، أن يسيروا في الأرض ويدرسوا حال الأمم السابقة الكافرة لينظروا كيف كان مصيرها، وكيف كان عاقبة كفرها وتكذيبها للأنبياء.. وسيشاهدون العجائب من نقمة الله وعقابه.

ـــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:347.

(2) مفردات الراغب، ص:467.

(3) الواحدي، النيسابوري، أبو الحسن، علي بن أحمد، أسباب النزول، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1414هـ ـ 1994م، ص:118.