من الآية 8 الى الآية 12
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَـواتِ وَالأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ* وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}(12ـ18).
* * *
معاني المفردات
{كَتَبَ}: أي: أوجب عليها إيجاباً.
{فَاطِرِ}: الفاطر: المبدع على غير مثال سابق. الفطرة: ابتداء الخلقة، قال ابن عباس ـ كما في مجمع البيان ـ: ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إليّ أعرابيان في بئر، قال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأت حفرها، وأصل الفطر: الشق، ومنه: {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، أي: انشقت، قال الزجاج: فإن قال قائل: كيف يكون الفطر في معنى الخلق، والانفطار في معنى الانشقاق؟ قيل: إنهما يرجعان إلى شيء واحد لأن معنى فطرهما خلقهما خلقاً قاطعاً[1]. وقد يكون من الممكن التركيز على معنى الشقّ من خلال النظريات الحديثة التي تؤكد أن الكون والمنظومة الشمسية كانت لها كتلة واحدة انشطرت إثر الانفجارات المتتالية وتكونت المجرات والمنظومات والكرات، وربما كان قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] دليلاً علئ هذا المعنى، ولكن المعنى الأول قد يكون أقرب.
{يُصْرَفْ}: يصرف الله عنه العذاب. والصرف ـ كما يقول الراغب ـ: «ردّ الشيء من حالةٍ إلى حالةٍ أو إبداله بغيره»[2] والتعبير فيه إشارة إلى أن العذاب مشرف على الجميع، ولا خلاص منه إلا برحمته تعالى.
{الْقَاهِرُ}: الغالب المتسلّط المسيطر الذي يقهر غيره بالتفوّق والإحاطة على الإطلاق ولا يقهره أحد، فهو تعالى قاهر على عباده ولكنه فوقهم، وكلمة «فوق» توحي بالهيمنة والسيطرة.. وهذا ما لا تعطيه كلمة القاهر عباده، وقال صاحب الميزان: إن كلمة القهر تستعمل حيث يكون المقهور كائناً عاقلاً، ولكن الغلبة أوسع منها، وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضاً[3].
* * *
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ في قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } قال الكلبي عن ابن عباس: إن كفار مكة أتوا رسول الله(ص) فقالوا: يا محمد إنا علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعو إليه الحاجة، فنحن نجعل لك نصيباً في أموالنا حتى تكون أغنانا رجلاً وترجع عما أنت عليه فنزلت هذه الآية[4].
ونلاحظ على ذلك أن سياق الآية ـ قبلها وبعدها ـ لا يوحي بهذا الجو، فإن الظاهر منها ورودها في مقام الاحتجاج على التوحيد في مقابل الشرك، للتأكيد على عظمة الله في خلقه ومسؤولية الإنسان في عبادته وطاعته بعيداً عن الدوافع الذاتية للرسول في دعوته مما يتوهمونه من حاجاته أو مما ينطلق به ـ في نفسه ـ من إخلاصه للرسالة، الأمر الذي يوحي أن ذلك اجتهاد من ابن عباس في مناسبة الآية لما ذكره، هذا بالإضافة إلى أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة لا على سبيل التفريق بين الآيات ليكون لكل آية سبب مستقل للنزول.
وعلى أيّ حال، فإن الرواية ـ لو صحت ـ أو كانت القضية في حديث المشركين مع النبي(ص) في تفسيرهم لدعوته وحركته في مواجهة عقيدة الشرك، فإن هذا يدل على أن هؤلاء القوم لا يفكرون بإمكانية انطلاق الإنسان الداعية من قاعدة الإيمان بما يدعو إليه، والإخلاص لله في إقباله عليه، بل يتصورون أن أية دعوة مضادة لعقائد الواقع الاجتماعي تمثل وسيلة من وسائل الحصول على نتائج مادية لحساب الذات عبر إثارة الاهتمام حولها، أو الوصول إلى مواقع متقدمة للقوة ولتحصيل المكاسب المادية، ولذلك كان عرضهم مادياً في مقابل تنازل النبي(ص) عن الدعوة، وهذا ما رفضه النبي محمد(ص) في أكثر من مرّة معلناً لهم أن حركة رسالته تنطلق من إيمانه بالله وإخلاصه لدوره الرسالي في الدعوة في مواجهة كل حالات القهر والاضطهاد والتشويه والتهويل، وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يفهموه ويقتدوا به ويعيشوه في وعيهم للموقف والدور والتحدي الكبير.
ونستوحي من ذلك المنهج القرآني الاستقرائي الذي يوجّه الإنسان إلى متابعة الواقع في مظاهره السلبية من أجل الوصول إلى استنتاج صحيح في المسألة التاريخية الإنسانية في حساب المقدمات والنتائج، ما يعني أن الإسلام يركز على الاستقراء الواقعي كوسيلة من وسائل المعرفة في كل القضايا التي يمكن للواقع الخارجي أن يكشف عنها، وهذا ما يجعلنا نتبع ذلك في دراسة الظواهر المتحركة في المعرفة الاجتماعية والنفسية والتاريخية لنخرج بالقواعد الحاكمة للسلوك الإنساني كله، فلا تبقى المعرفة أسيرة التأمّل العقلي المجرّد، بل تتحرك في عملية التزاوج بين العقل والتجربة، لأن ذلك هو الوسيلة الواقعية السليمة لحركة المعرفة لدى الإنسان.
* * *
السؤال أسلوب قرآني في إثارة الفكر
ويتابع القرآن في هذه السورة الحديث عن قصة الإيمان بالله، فيبدأ حديثه بإثارة حالة التأمّل الذاتي التي تدفع الإنسان إلى اكتشاف ما في داخل أعماقه من أفكارٍ وقناعاتٍ حول الإيمان، ليستعيد بذلك جزءاً من نفسه ضاع بين الأجواء اللاهية، والأوضاع المنحرفة، والضجيج الذي يشغله عن حياته، فيستسلم لما يوحيه إليه الآخرون من دون وعيٍ أو انتباهٍ.. وذلك بأسلوبٍ فريدٍ من نوعه.. مما كان القرآن يثيره في الداخل من أساليب متنوّعةٍ، فيطرح سؤالاً، ليثير في النفس تساؤلاً، ويحرك التفكير في هذا الاتجاه أو ذاك لأن المشكلة عند كثير من الناس أنهم لا يفكرون، لأنهم لا يتساءلون، وإذا تساءلوا كان السؤال مجرّد صيحةٍ ضائعةٍ في النفس، فلا يبحثون عن جوابٍ له من داخل الذات أو من خارجها، لأنهم يواجهون كثيراً من القضايا مواجهة اللامبالاة.
إن الإنسان يبدأ دائماً بالتفكير من خلال إثارة علامات الاستفهام من حوله، ولهذا نلاحظ أن الطفل يبدأ عملية التفكير عندما يبدأ في التطلع إلى الأشياء من حوله بنظرة استفهامٍ وتساؤلٍ.. فيبدأ بطرح الأسئلة حول هذا وذاك، ما يوحي بأنه قد بدأ يفكر بجدّيةٍ.. وهذا ما أشار إليه القرآن في أكثر من مرة، في التأكيد على أن المشكلة الأساس في قضية الكافرين، هي أنهم يواجهون قضايا العقيدة بموقف اللامبالاة، فلا يفكرون في تفاصيلها ليتخذوا موقف السلب والإيجاب على أساس ذلك.
وهكذا طرح القرآن في الآية الأولى السؤال: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَـواتِ وَالأرْضِ}؟ وتولّى هو الجواب للإيحاء بأنه يمثل بديهة من بديهيات التفكير الذي يبعث السائل على أن يجيب دون أن ينتظر جواب المسؤول:{قُل للَّهِ}. ثم يفيض في الحديث عن الله من جديد من خلال ارتباط الإيمان به والالتزام بعبوديته وبقضية المصير، ليجتمع إليه الفكر في نطاق الحقيقة الموضوعية، بالفكر في نطاق علاقته بمصير الإنسان، وهذا من أساليب القرآن في تربية الدوافع الفكرية لدى الإنسان.
فقد تكون بعض الأشياء من حقائق الحياة التي لا علاقة لها بالمصير الإنساني في حركة المسؤولية، كما في المعادلات الرياضية التي تتصل بالحقائق الموضوعية لمواردها، وقد تكون بعض الأشياء مرتبطةً بالحياة من جهةٍ وبالمصير من جهةٍ أخرى. ففي الحالة الأولى، لا مشكلة كبيرة أمام الإنسان في قضية عدم الاعتراف بتلك الأشياء الفكرية المجرّدة، لأنها لا تتصل بحركة الحياة إلا من خلال علاقتها بالمعرفة العامة، أو ببعض جوانب الحياة المادية المحدودة، أما في الحالة الثانية، فإن القضية تتخذ أهميّة كبرى في شخصية الإنسان وفي علاقة الفكر بالمصير والحياة، فتتحول السلبيّة فيها إلى عملية ابتعاد عن المنهج السليم الذي يقود الإنسان نحو السلامة العامة والخاصة، كما هي الحال في قضية الإيمان لارتباطها بالنظرة العامة إلى الكون والحياة، وبالقيادات المتحركة في الكون، والدور الذي يمثله ارتباط الإنسان بها من قريب أو من بعيد، الأمر الذي يجعل منها حقيقة عملية، بالإضافة إلى ما تمثله من حقيقةٍ موضوعية.
والله سبحانه وتعالى، من سنخ هذه الحقائق التي لا بد من أن يفكر فيها الإنسان من الجهتين، أي بوصفها حقيقة موضوعية وحقيقة عملية تؤثر تأثيراً عميقاً على مصير الإنسان، بل كان المصير الإنساني يتوقف عليها. من هنا، فإن الله إذا كان حقيقةً موضوعيةً في الكون ـ كما هو معنى الإيمان ـ فإن ذلك يتدخل في طبيعة الفكر والسلوك والهدف، بينما يختلف واقع الإنسان كله إذا ما انتفى ذاك الوجود، وهكذا جاءت الآيات القرآنية التي عالجت موضوع الإيمان بالله لربط الفكر بالمصير، وربط الإيمان بحركة الحياة بين يدي الله، وذلك لإعطاء الفكر نوعاً من الحيوية والحركية بشكل مميز.. وهذا ما نستوحيه من هذه الآية التي دفعت الجواب إلى الواجهة لتثبت وجود الله موضوعياً لجهة ارتباط خلق الكون به باعتباره المبرّر لوجوده.
* * *
الرحمة الإلهية مصلحة للإنسان
وترق الصورة، وتنساب بالحنان ليعيش معها الإنسان إحساساً بالجو الحميم الآمن المطمئن، فقد {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، لأن الخلق لم ينطلق من شعور، بل من موقع الحكمة التي تحرك الوجود في اتجاه غايةٍ عظيمةٍ تفيض بالرحمة على الأشياء لتصل بها إلى غايتها، ولذلك كانت الرحمة في حركة الوجود، وفي حيويّة الحياة، وما فيها من نعمٍ وألطافٍ، وكانت أيضاً في تنظيم حياة الإنسان على أساس المسؤولية ليحميه من نفسه ويحمي غيره منه.. وبذلك كان البعث للحساب لوناً من ألوان الرحمة التي لا تعني العاطفة، بل تعني مصلحة الإنسان في وجوده، وذلك لجزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولذلك أتبع الرحمة التي كتبها على نفسه بقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، فذلك يحقق للوجود غايته في مواجهة نتائج العمل في الدنيا، وهو الذي يحقق للإيمان قوّته، عندما يتحول إلى حركةٍ مستقيمة تربط النتائج بمقدماتها، وتشير إلى النهاية من خلال انطلاقة البداية.
وهناك يقف الناس جميعاً يوم القيامة بين يدي الله، ليواجهوا حساب المسؤولية بدقةٍ، وليأملوا الحصول على رحمته الواسعة، إلا فريقاً من هؤلاء الذي لا يتعلّقون برحمته بشيء، وهم الذين لا يؤمنون به ولا يعترفون بتوحيده، فهؤلاء {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وأيّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان نفسه، وذلك بخسرانه الأساس الوحيد لخلاصه، وهو رحمة ربّه المرتبطة بخط الإيمان في الحياة؟! وهكذا يربط القرآن بين عدم الإيمان بالله وبين خسارة الإنسان نفسه.. وقد يفهم الإنسان منها أن القضية لا تعيش في النطاق الآخروي فقط، بل تمتد إلى النطاق الدنيويّ لما يفرضه ذلك من ظلمةٍ في التصوّر والرؤية والعمل، في مقابل ما يحصل عليه المؤمن من إشراق الروح في ذلك كله.
* * *
لله ما سكن في الليل والنهار
وتقترب الصورة من حياة الإنسان لجهة ما يحيط به من موجودات {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الليْلِ وَالنَّهَارِ} فإذا بنا نلتقي بالليل والنهار كما لو كانا كونين للأحياء وللأشياء، وما يهبط أو يصعد، وما يغفو أو يستيقظ، وما يتحرك أو يسكن، وما يختزن الأفكار والمشاعر أو يبدعها ويحركها ويفجّرها ينابيع فكرٍ وعاطفةٍ وحياةٍ، وما يسترخي استرخاء الجمود الصامت أمام كل عوامل الحركة والحياة، فلا يحركه شيء من هذا أو ذاك.. ولكنها تلتقي جميعاً في خضوعها الإرادي والتكويني لله الذي يملكها ويملك منها ما لا تملكه من أنفسها، ولذلك فهي تتعبّد له بوجودها إن لم تتعبّد له بإحساسها وتعبيرها، فهو الذي خلقها وأودع فيها السنن الحكيمة المبدعة التي تحفظ لها سر وجودها، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع كل همساتها وتجاوبها، ونبضات قلوبها، وخفقات مشاعرها، وخطرات وجدانها، وحركات كيانها، ويحيط بها بعلمه، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.
* * *
ولاية الله واقع حيّ وهاجس شعوري
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} وهل يصلح غيره للولاية، وهل يمكن أن يتولى الولاية من لا يملك من أمره شيئاً، وهو المخلوق الذي يحتاج في وجوده إلى الخالق، وفي استمرار حياته إلى من يغذيه ويطعمه وينميه ويرعاه، وكيف يمكن أن يتولّى رعاية المحتاج الضعيف محتاج ضعيف مثله؟
إن الولاية تمثل الإشراف والرعاية والاحتواء في كل ما يحتاجه الإنسان من شؤون القوة والحركة والحياة، ما يفرض القدرة التي تتحرك في أكثر من اتجاه، وتلتقي بأكثر من مجال، وتواجه كل المواقف بما يناسبها أمام كل التحديات المباشرة وغير المباشرة.. وهل هناك غير الله {فَاطِرِ السَّمَـواتِ وَالأَرْضِ} الذي أبدعها بكل ما فيها من مخلوقاتٍ حيّةٍ وجامدة، فهو الغني عن كل شيء فيها، إذ لا شيء في الوجود إلا خلقه؟! {وَهُوَ يُطْعِمُ} فمنه كل غذاء الإنسان والحياة والنبات والجماد، {وَلاَ يُطْعَمُ} لأنه ليس جسماً يحتاج إلى التغذية والتنمية، بل هو الذي خلق الغذاء والنموّ في داخل حركة الجسم.
وهكذا تتمثل الولاية من الله واقعاً حيّاً يعيشه الإنسان كهاجسٍ في الشعور الداخلي، وكطاعة في ممارسته لحركة الإيمان. وها هو يواجه الكون كله بالطاعة للأمر الإلهي بالإسلام لله بأن يكون أول من أسلم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وذلك هو مظهر العبودية الحقة؛ أن لا يكون لك موقف أو كلام أو انتماء خارج نطاق أمر الله ونهيه، بل أن يكون كيانك كله لله في استسلامٍ خاضعٍ خاشعٍ حتى الانسحاق أمامه، وإذا كان الحديث في الآية للرسول(ص) في ما يناجي به نفسه، فإنه يمتد إلى كل موجودٍ حيٍّ عاقلٍ بأن يتمثل الموقف في إسلام الأمر لله في الفكر والشعور والحياة، فلا ينتظر من الآخرين أن يسبقوه، بل يحاول أن يكون هو الذي يتسلم زمام المبادرة لتسليمه بالحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها عليه.
وينتقل الحديث من أسلوب الغيبة في الحديث عن الله إلى الخطاب، ليتمثل الله بكل حضوره العظيم الضاغط على الكون، وهو يحذّر الإنسان من الشرك الذي يرهق حسّ الصفاء الروحي للوحدانية في الفكر والشعور: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ}.
* * *
الفوز المبين للطائعين المنيبين
ويتحرك خط الإيمان الوجل الخائف من موقع الإحساس بالعظمة الموحية، إلى الشعور بالمسؤوليّة، فلا بد من أن يُسلم الإنسان أمره إلى الله في كل شيءٍ ويطيعه في كل ما أمر وشرع، لأن الانحراف عن ذلك يعرّض الإنسان إلى العذاب العظيم الذي ينتظره في اليوم العظيم، يوم القيامة، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وفي هذا الجو المسؤول، يتجسّم الأمل الكبير في نفس المؤمن في أن يصرف عنه عذاب الله برحمته، لأن من علامات الرحمة، أن يبتعد به عن آلام العذاب {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}. وأيُّ فوزٍ أعظم من فوز الإِنسان برحمة الله ورضوانه والبعد عن عذابه؟!
* * *
الله وحده كاشف الضرّ
ويتصاعد الإيحاء القرآني للإنسان بالحاجة إلى الله، ليحس بذلك في حياته اليومية، في ما يصادفه من مشاكل وآلام وأضرار، وليرجع إليه ويستعين به في إيمان عميق مستغرق في عظمته، صادقٍ في مشاعره، واثقٍ بأن الله هو الذي يكشف عنه الضر الذي يصيبه من خلال طوارىء الحياة المسيّرة بقدرته، المتحركة بحكمته، فلا كاشف له إلا هو.
ثم يتطلع إلى كل مواقع الخير في الحياة، في داخل ذاته وخارجها، ويتلفّت إلى كل من يقومون بأعمال الخير في ما يعطون، وفي ما يمنعون، وفي ما يقومون به من أعمالٍ وخدمات، ثم يحدّق في الآفاق الرحبة للروح، فيجد أنهم لا يمثّلون أيّة استقلاليةٍ في حياتهم وفي نشاطهم، بل كل ما هناك، أنهم أدوات بيد الله يسخرها كيف يشاء، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلا بإرادته. وبذلك كانت أجواء الخير بيد الله، فلا يملكها إلا هو كما لا يكشف الضر إلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ}.
وما يجدر ملاحظته هنا، هو أن الله تحدّث في مواقع الضرّ عن أنه الوحيد القادر على كشفه، بينما تحدّث في مواقع الخير عن قدرته المطلقة، وربما كان السبب في ذلك أن تطلعات الإنسان في حالات الضرّ تتجه نحو الخلاص، وذلك بقصد من يملك بيده سبيل الخلاص. أمّا في حالات الخير فإنه يتطلع إلى الزيادة والاستمرار في ما يعيشه من هناء وراحة، فيناسب ذلك الحديث عن القدرة التي تملأ نفسه بالثقة بالمستقبل الخيّر في ظلال القدرة التي تملك أمر ذلك كله.
* * *
ضعف الإنسان المطلق أمام قوة الله المطلقة
ويخشع الوجود بكل قواه، وبكل مظاهره، وينطلق في رحاب الله، فلا يجد إلا الضعف المطلق أمام القوة المطلقة، المهيمنة عليه، القاهرة له، فكل ما في الوجود مملوك له، محتاج إليه، فلا يملك مع الله شيئاً في قليلٍ أو في كثير. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ويلاحظ استعمال كلمة {فَوْقَ} للإيحاء بالهيمنة والسيطرة تماماً ككل شيء فوق أيّ شيء آخر، وذلك بدلاً من كلمة «القاهر لعباده» لأنها لا تعطي مثل هذا الإيحاء الذي تفرضه طبيعة الحاجة إلى حشد الجو النفسي بالسيطرة المطلقة لله، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فلا يتصرف في قدرته القاهرة من موقع السيطرة، بل من موقع الحكمة التي يحيط بمواقعها ومصادرها في الحياة وفي الإنسان، لأنه الخبير بما خلق ومن خلق، تعالى شأنه عن كل المخلوقين.
ومن الطريف أن البعض ممن لا يفهمون أساليب البلاغة في التعبير حاولوا أن يستفيدوا من هذه الفقرة: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الفوقية المكانية التي توحي بالتجسد لله، باعتبار أنه يجلس في المكان الأعلى الفوقي بالنسبة إلى عباده.
ولكن التأمل الفنّي البلاغي يدل دلالة واضحة على أن الآية واردة في مقام تأكيد السلطة المطلقة لله على العباد من خلال هذه الفوقية المعنوية السلطوية التي تمثل القاهرية الشاملة، تماماً كما هي قاهرية «الفوق» على «التحت» من خلال إشرافه وتسلّطه عليه بما يملكه من قدرة الإطباق، وهو ظاهر.
ــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:350.
(2) مفردات الراغب، ص:287.
(3) انظر: تفسير الميزان، ج:7، ص:38.
(4) أسباب النزول، ص:119.
تفسير القرآن