تفسير القرآن
الأنعام / الآية 19

 الآية 19
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْءَان لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}(19).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ في قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} الآية، قال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، ما نرى أحداً يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول كما تزعم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية[1].

ونلاحظ أن سياق الآية لا يوحي بذلك، فإن القضية المطروحة بين النبي والمشركين هي قضية التوحيد والشرك، وهذا ما أثاره النبي ـ في الأسلوب القرآني ـ في الشهادة بهذه القضية، وهي: أن مع الله آلهة أخرى فيرفض النبي(ص) ذلك بقوله ـ في إيحاء الله له ـ {قُل لاَّ أَشْهَدُ} ويؤكد التوحيد بقوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.

وقد انطلقت الآية لتقدم أكبر شهادة على التوحيد من خلال الدلائل الواضحة المتناثرة في آفاق الكون وفي أنفسهم، وهي الشهادة الأكبر، لأنها منطلقة من الله الذي يؤمنون به من حيث المبدأ، ولكنهم يشركون به غيره. ومن خلال هذه الشهادة الإلهية يتحدث النبي(ص) عن مسؤوليته في إنذارهم بالقرآن ليبتعدوا عن الشرك الذي يؤدي بهم إلى الهلاك ليكون ذلك وسيلةً من وسائل الضغط على تفكيرهم بما تثيره من الخوف على المصير، الأمر الذي يجعل القضية بعيدة عن الترف الفكري والجدل العقيم الذي يثيرونه أمام الدعوة بأساليبهم الخاصة.

ولا ينافي ما ذكرناه في الملاحظة ما جاء في الآية(20) من الحديث عن معرفة أهل الكتاب بالنبي، أو بالقرآن، لأنها متصلة بالحديث معهم لا مع المشركين، ليكون ـ كما يقول سبب النزول ـ أنه إثبات لما نفوه من عدم شهادتهم برسالة النبي(ص)، لأن معرفتهم التي لا تتحول إلى إقرار لا تصلح حجةً على المشركين الذين طلبوا الشهادة ـ حسب الرواية ـ والله العالم.

* * *

من أساليب القران في مواجهة المشركين

وهذا أسلوبٌ من أساليب القرآن في مواجهة المشركين من ناحيةٍ نفسية للتأثير على مشاعرهم، من خلال ما يؤمنون به من قضايا، ثم إعطاء المؤمن موقع الحسم في رفض كل الأفكار الإشراكيّة المضادّة.. فتبدأ هذه الآية في إثارة التساؤل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} لتستثير الإيمان بالله الكامن في أعماقهم في ما يعيشونه من تعظيمٍ لله، وذلك لأن إشراكهم في الغالب ليس شركاً عقيدياً، بل هو شركٌ عبادي، باعتبار قرب هذه الآلهة من الله ما يجعلها تمنحهم القرب منه، بحكم العلاقة الوثيقة بينها وبينه.. فإذا كانوا لا يريدون الوصول إلى القناعة من خلال الفكر، فإن هناك طريقةً أخرى لإثبات القناعة، وهي الشهادة في ما يمكن أن يكون للحس طريقٌ إليه، ممن يملك إمكانيّة الاطلاع على الموضوع بشكل دقيقٍ واسع.

ومن هو الشاهد الأكبر الذي يحيط بالأشياء كلها، ويعرف كل أسرارها ودقائقها؟ ولا تنتظر الآية جواباً من هؤلاء، بل تبادر إلى الجواب الذي يمثّل الحقيقة الكامنة في وعيهم: {قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو الذي يمثّل في قوله الحقيقة المشرقة الواضحة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهو الذي أنزل هذا القرآن لينذركم ويحمِّلكم المسؤولية في ما تعتقدون وما تعملون، ويحمّلها للناس الآخرين الذين يبلغهم هذا القرآن من الأجيال القادمة، فلا بد لهم من دراسة هذا القرآن فكراً وشريعةً وأسلوب حياة، ليعرف الإنسان منه معنى التوحيد وحركة النبوّة في الحياة. وهكذا يحاصرهم هذا الأسلوب، ليحيط بهم من بين أيديهم ومن خلفهم، لأنه يطرح أمامهم شهادة الله من خلال القرآن، ليفكروا في ذلك كله.

* * *

القرآن منذر الإنسان

{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْءَانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي من بلغه القرآن في حركة الدعوة الموجهة إلى الإنسان كله في كل زمان ومكان ممن تنطلق الرسالة لتصل إليه بالطريقة التي يفهمها، وبالوسائل التي تلتقي عند ظروفه، وباللسان الذي يتكلم به، كما جاء في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) ـ في رواية الحلبي عن أبيه عنه ـ قال: سئل عن قول الله عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْءَانُ لاُِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} قال: بكل لسان[2]. وهذا ما يفرضه القرآن على الدعاة إلى الله أن يبلّغوا رسالاته ويخشوه في حركتهم التبليغية بالوعي لما يبلغونه والصدق فيه من أجل أن تقوم الحجة به على الناس، لأن الذين لا تبلغهم الدعوة لا حجة لله عليهم وهذا ما جاءت به الرواية ـ في تفسير المنار ـ قال: أخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب قال: أتي رسول الله(ص) بأسارى، فقال لهم: هل دُعيتم إلى الإسلام قالوا: لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْءَانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} ثم قال: خلّوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم لأنهم لم يدعوا[3].

وقد انطلقت كلمة الإنذار انسجاماً مع موقف العناد الذي اتخذه المشركون من الرسول والرسالة أو الذي يمكن أن تتخذه القوى المضادة أمام الدعوة الإسلامية، وربما كان هذا ما أبعد كلمة «التبشير» إلى جانب الإنذار، وقد يكون ذلك من جهة أن الإنذار في الموقف الجاحد يوحي بالتبشير في الموقف الإيماني، ما جعل المسألة تتحرك لمعالجة الموقف الفعلي الذي يراد من خلاله الضغط على هؤلاء ليتراجعوا عن جحودهم وشركهم بما يتضمنه الإنذار من العذاب الآخروي كمحاولة لتحطيم حالة الجمود الفكري لديهم، ولكنهم لا يسمعون ولا يعقلون ويصرّون على عنادهم فيتركون شهادة الله، ليشهدوا شهادةً مضادة لها، لأن هذا النهج هو نهج الآباء والأجداد، بعيداً عن عالم الفكر والروح.

* * *

الرسول يشهد شهادة الحق في مواجهة المشركين

ويتساءل، لينكر عليهم هذا الأمر: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى} وكأنه يوحي لهم بأن ذلك أمرٌ لا يرتكز على أساس، ولذلك فإنه يقف في الموقع القوي الرافض في المجابهة بين شهادة الحق وشهادة الباطل: {قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فذلك هو الذي يفرضه العقل ويلتقي به الوجدان.. وتتأكد معه القناعات وينطلق من خلاله الرفض الحاسم للشهادة المضادة، والاعتراف الواضح بالحقيقة الثابتة بوحدانية الله والإعلان الصارخ للبراءة من كل هذه الأصنام التي تتجسّد فيها رموز الشرك وخطوطه ومناهجه.

وربما كان من الضروري للعاملين في سبيل الله، استيحاء هذا الأسلوب في المواقف التي قد لا تسمح بالكثير من الجدل الفكري، حيث ينتهي فيها الحوار إلى طريق مسدود، بالحواجز النفسية المتنوّعة التي تجرد الحديث المنطلق من القلب المفتوح من تأثيره، فقد يكون من المفيد الدخول في حالة اقتحامٍ نفسي على المواقف الحاشدة بالإشارة إلى الشهادات التي يلتقي فيها أهل الحوار من دون انتباه للنتائج التي تنتهي إليها، ليكون الحوار منطلقاً جيداً للوصول إلى تلك النتائج الحاسمة من أقرب طريق.

ـــــــــــــ

(1) أسباب النزول، ص:119.

(2) البحار، ج:25، ص:133، باب:4، رواية:5، طبعة طهران.

(3) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:7، ص:43ـ44.