تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 20 إلى الآية 24

 من الآية 20 الى الآية 24
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمُ الَّذِينَ خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون* ومن أظلمُ ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته إنه لا يفلح الظالمون* ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون* ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين* انظر كيف كذبوا علىأنفسهم وضلّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(20ـ24).

* * *

معاني المفـردات

{فِتْنَتُهُمْ}: جاء في مجمع البيان: «قال الأزهري: جماع الفتنة في كلام العرب الامتحان، مأخوذ من قولك: فتنت الذهب والفضة: إذا أذبتهما بالنار وأحرقتهما، وقد فتن الرجل بالمرأة، وافتتن، وقد فتنته المرأة وأفتنته»[1].

* * *

الكافرون خسروا أنفسهم

هل كان أهل الكتاب يجهلون النبي محمداً(ص) ليحتاجوا في معرفة نبوته إلى برهان، وليثيروا حوله جدلاً عقيماً يتناوله كإنسان، ويتناول صفته كرسول وموقعه كداعية إلى الله؟ إن القرآن ينفي ذلك، لأن التوراة تحدثت عن صفاته، والتاريخ الذي يتداولونه كان يؤكد لهم ظهوره أو خروجه للأجيال اللاحقة، ولهذا كانوا يستفتحون به على الكافرين قبل ظهور أمره. ويثير القرآن القضية على أساس وضوحها الكامل الذي يجعل من الاقتناع بها أمراً غير قابل للجدل، فأهل الكتاب يعرفون النبي(ص) كما يعرفون أبناءهم من حيث الذات والصفة، فلذلك لا يمكن لمن يحترم نفسه منهم إلا أن يعرفه كما يعرف أولاده: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

ولكنهم لم يلتقوا مع أنفسهم في خطّ هذا الوضوح المشرق للحقيقة، بل ركنوا الى العُقد النفسية المظلمة التي تحكّمت في داخلهم على أساس الأطماع والشهوات، وبذلك خسروا أنفسهم، لأن قضية الربح والخسارة في الحياة لا تخضع لمقاييس الامتيازات الذاتية الطارئة التي تذوب وتزول في ما يذهب من أوضاع الحياة الفانية، لأنها لا تمثّل هدفاً للحياة بقدر ما تمثل حاجاتٍ عاديةً لها، ولهذا، فإنها لا تصل إلى مستوى القيمة التي يضع الإنسان نفسه في موازينها، بل إن قضية الربح والخسارة تحددها المبادىء الأساسية التي تحكم مسيرة الحياة في جوانبها المادية والمعنوية، وتمثل ـ في طبيعتها ـ حركة الرسالة، فتفتح للإنسان، نافذةً على الدنيا المسؤولة من جهة، ونافذةً على الآخرة المطمئنة من جهةٍ أخرئ، وهذا ما عبّر عنه القرآن في دعوته الحاسمة في قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

ولن يحصل الإنسان على ذلك كله إلا بالإيمان بالله، الذي هو بداية كل خير، ومنطلق كل صلاح وإصلاح، والمنهج الذي يجمع له الدنيا والآخرة في ميزانٍ واحد، من دون أن يطغئ جانب منه على جانب، لأن ذلك هو معنى التوازن في إنسانية الإنسان وواقعية الحياة. ولهذا فرّع القرآن عدم الإيمان على الخسارة، أو اعتبره مظهراً لها، فإذا فقد الإيمان فقد النور الذي يشرق في فكره وقلبه، والهدى الذي يفتح عيونه على الصراط المستقيم، والنهج الصالح الذي يخطط له الحاضر والمستقبل. وهكذا كان الموقف المتعنّت لهؤلاء في ما رفضوه من حقيقة المعرفة للرسول خسارةً لهم في داخل حياتهم وخارجها، لما تمثله خسارة الإيمان من ضلال وضياع في ظلمات التيه.

* * *

خسارة النفس أفظع أشكال الظلم

وليست قضية الخسارة هنا مجرد خسارةٍ ذاتية، ولكنها أفظع أشكال الظلم، وأيّ ظلم أعظم من أن يظلم الإنسان ربّه؟ لا ظلمَ القوّة،لأن الإنسان يمثّل الضعف كله أمام الله، ولكنه ظلم الافتراء والكذب، والإساءة إلى مقام الله الذي خلقه ورزقه وتعهّده في كل حياته، بالرحمة والرعاية التامّة، في ما ينسبه إليه من الباطل، وفي ما يكذِّبه من آياته.. ثم هو الظلم الكبير للحياة وللإنسان، في ما يشوّهه من الحقائق، ويهدّمه من القضايا، ويضلّله من الخطوات، فليست الأكاذيب التي يفتريها هؤلاء مجرد كلماتٍ تتحرك في الهواء، وليست المواقف التي يقفونها ضد شريعة الله مجرّد مواقف تتجمد في حياة أصحابها، ولكنها تتحول إلى شريعةٍ من شرائع الباطل التي يدين بها الناس باسم الحق، أو سنّةٍ يقتدي بها الناس في ما يقتدون به من سنن الأولين، لأن أصحابها يمثّلون انتماءً دينياً له قداسة الدين في ما يعتقده الناس، ويملكون موقعاً كبيراً له احترامه العميق في ما يعيشه الناس من احترام المقامات الكبيرة، ولهذا كانت القضية تشكل خطراً مستقبلياً على مستوى الفكر والعمل، ما جعل من ممارستها ممارسةً لأكبر أنواع الظلم، لأنّ أيَّ ظلم، غير هذا اللون من الظلم، يأخذ لنفسه حجماً محدوداً، ولا يستوعب الحياة التي تتحرك في مسيرتها صعوداً وهبوطاً من خلال مفاهيم الحق والباطل، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِـَايَاتِهِ}.

* * *

الظالمون المفترون الكاذبون لا فلاح لهم

ولكن هل يتصور هؤلاء أنهم قد ربحوا الجولة الأولى، وربحوا معها أنفسهم، وأفلحوا في الوصول إلى السعادة؟ إن الله يواجههم بالحقيقة المرّة الصارخة: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فسيواجهون نتائج أعمالهم السيّئة في الدنيا والآخرة، وسيتبخر في الهواء كل ما بنوه من أحلام، وكل ما حصلوا عليه من امتيازات.. وسيقفون غداً بين يدي الله، في وقفة حساب وحوار: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله، أو تعبدونها معه؟ ففي يوم القيامة فقط تتكشّف المواقف الحقيقية دون لفّ أو دوران، لأن كل إنسان ينزع عن نفسه أو يُنزع عنه القناع الذي كان يلبسه لإخفاء شخصيته، على أساس ما يملك من مالٍ أو جاه أو امتيازٍ خاصٍّ أو عامٍّ، ويقف عارياً لا يملك إلاّ صفاته وأعماله.

ويتحداهم السؤال في ضغط الموقف عندما يواجهون عذاب الله، فلا يجدون منفذاً للخلاص، ولا مجالاً للهرب إلا بالإنكار، {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} إنه الموقف الصعب، الذي يمثل فتنةً واختباراً لصلابة القاعدة التي يُخضِع لها الإنسان مواقفه، فتبدو مجرّد رمادٍ اشتدّت به الريح في يوم عاصف، فانهارت أمام ذلك كل القناعات التي كانوا يلتزمون بها في أوضاعهم الاستعراضية، فبينما كانوا يتبجّحون بالشرك في دنياهم، إذا بهم يهربون من مجرد نسبته إليهم في أخراهم، وذلك بتأكيد النفي بالحلف بالله ربّهم، كمظهر من مظاهر الضعف النفسي للمشركين أمام مواقف المواجهة الحاسمة.

{انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ويوجّه الله الخطاب إلى النبي محمد(ص) أو إلى كل ناظر، ليستعرض بوعيه ما يمثله الشرك من ضعف أمام الحق، فيضطر أصحابه إلى الكذب ومحاولة الهروب، فقد {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وعاشوا حالة هروب من أنفسهم، وهروب من أفكارهم، وتلك هي الخسارة الكبرى، أن يفقد الإنسان نفسه وفكره، ليصبح مجرد شبح ضائعٍ تتلاقفه ظلمات التيه من كل جانب، من دون أن يصل إلى أية نتيجة إيجابية على مستوى المصير.

* * *

من وحي الآيات

ونستوحي من ذلك أن على الناس الذين يستسلمون للرموز الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي قد تملك بعض مظاهر القوة أو بعض أوضاعها، فيطيعونهم في معصية الله، ويستغرقون في ذلك كله تماماً كاستغراق العبيد بالآلهة، ثم تتبدل الأمور وتتغير ويتحول هؤلاء «الطواغيت» أو الأقوياء إلى أناس عاديين لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، ويقف الناس الذين سقطوا أمامهم في عملية استسلام وانبطاح ليواجهوا الموقف الجديد في حالة الإحباط النفسي والاجتماعي، ليدخلوا في دائرة الاعتذار والتبرير، لأنهم لا يريدون أن يتحملوا المسؤولية بما عملوه وما تحركوا فيه. إن مثل هذا الاختلاف بين البداية والنهاية في الآخرة كما في الدنيا، يفرض على الإنسان الوعي لمواقفه على أساس حسابات العواقب، حتى لا يقف في نهاية المطاف الموقف الصعب الذي يواجه فيه دمار كل شيء بناه في ماضيه ليجد نتيجة ذلك في مستقبله.

إن البدايات لا تمثل معنى حركة الإنسان في الحياة، لأنها قد تتحوّل إلى نهايات مأساوية، لذلك لا بد للإنسان من أن يدرس طبيعة النهاية إذا أراد أن يبدأ طريقه في نقطة البداية.

ــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:356.