تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 27 إلى الآية 32

 من الآية 27 الى الآية 32

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِـآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(27ـ32).

* * *

معاني المفردات

{وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ}: جاء في مجمع البيان: يحتمل ثلاثة أوجه: جائز أن يكون المعنى: عاينوا النار وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم. قال الزجّاج: والأجود أن يكون معناه: أُدخلوها، فعرفوا مقدار عذابها، كما تقول في الكلام: قد وقفت على ما عند فلان، تريد قد فهمته وتبينته، وهذا وإن كان بلفظ الماضي فالمراد به الاستقبال، وإنما جاز ذلك، لأن كل ما هو كائن يوماً مما لم يكن بعد، فهو عند الله قد كان[1]. ويحتمل أن يكون المراد به: العرض، أي: عرضوا على النار.

{بَدَا}: ظهر، وفلان ذو بدوات: إذا بدا الرأي بعد الرأي، وبدا لي في هذا الأمر بداء، والبداء لا يجوز على الله سبحانه لأنه العالم بجميع الأمور لم يزل ولا يزال[2].

{السَّاعَةُ}: الزمن القصير، والمراد به ـ هنا ـ يوم القيامة لسرعة الحساب فيه.

{بَغْتَةً}: فجأة، وكل شيء أتى فجاءةً فقد بغت.

{يحَسْرَتَنَا}: يا ندامتنا، والحسرة: شدة الندم، حتى يحسر النادم كما يحسر الذي تقوم دابته في السفر البعيد.

{فَرَّطْنَا}: التفريط: التقصير، وأصله: التقديم، والإفراط: التقديم في مجاوزة الحد، والتفريط: التقديم في العجز والتقصير.

{أَوْزَارَهُمْ}: جمع: وزر، والوزر: الثقل في اللغة، واشتقاقه من الوزر، وهو الحبل الذي يعتصم به، ومنه قيل: وزير كأنه يعتصم الملك به، ومثله قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} [طه:29].

{يَزِرُونَ} يفعلون، من وزر يزر وزراً إذا أثم، وقيل: وُزر فهو موزور إذا فعل به ذلك، ومنه الحديث في النساء يتبعن جنازة قتيل لهن: ارجعن موزورات غير مأجورات، والعامة تقول: مأزورات.

{تَعْقِلُونَ}: العقل: الإمساك عن القبيح وقصر النفس وحبسها.

{لَعِبٌ}: جاء في مفردات الراغب: لعب فلان: إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً، يلعب لعباً[3].

{وَلَهْوٌ}: اللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه، ويعبّر عن كل ما به استمتاع باللهو.

* * *

الكافرون أمام النار

وتتلاحق مشاهد القيامة في القرآن في أساليب متنوّعةٍ، لتجسّد أمام الناس في الدنيا قضيّة المصير، عبر النماذج القلقة التي تواجه العقيدة في حياتها الفكرية والعملية مواجهة اللامبالاة، فتنكرها وفقاً لمزاج يقتضي ذلك، وتلفّ وتدور وتشاغب وتقف في وجه العاملين في سبيل الله، استجابةً لهوى النفس وطمعها.

إن الله يحدثنا عن هؤلاء في مواقف القيامة، كما حدثنا عن بعض مواقفهم في الدنيا، وقد انطلق حديث القرآن عن مواقف الناس يوم القيامة، من منهج تربوي عرضه لإثارة التفكير في القضايا من داخلها، في ما تختزنه طبيعتها الذاتية من خصائص ومقوّماتٍ، أوّلاً، وفي نتائجها السلبيّة والإيجابية، في ما تمثّله قضية المصير، ثانياً، لأن ذلك يدفع الإنسان إلى مواجهة القضايا بطريقةٍ موضوعيّةٍ من أجل الوصول إلى القناعة المحدّدة، ليؤمن أو لا يؤمن، وقد يواجهها بطريقةٍ شعوريّةٍ من أجل أن يصل إلى نتائجها العملية ليخاف أو ليأمن، وربما كانت الطريقة الثانية سبيلاً للاهتمام بالقضايا على خطّ الطريقة الأولى.

{ولو ترى إذ وُقِفُوا على النار} هؤلاء الذين كذبوا الرسول وأنكروا الرسالة، وكانوا ينهون أو ينأون عنه، ليأخذوا حريتهم في فعل ما يطيب لهم، إنك لن تجد أيَّ جُهدٍ في العثور عليهم، فهم بارزون أمام كل ناظرٍ، فيمكن لكل من يملك عينين مفتوحتين أن يراهم حين يوقفون على النار ليدخلوها، جزاء أعمالهم في الدنيا. وهنا تبرز صورتهم من الخارج ومن الداخل، فها هم يواجهون الموقف الصعب بالتراجع عن كل مواقفهم السابقة، من تكذيب الرسل، وإنكار الإيمان، وقد أراد الله إظهار ذلك، فترك لهم حريّة الكلمة الأخيرة المعبّرة عن حالة السقوط النفسي المهين بإطلاق التمنيات اليائسة الذليلة، بأن يردّوا إلى الدنيا، ليرفضوا عندها تكذيب آيات ربّهم، ويلتزموا خط الإيمان.. فقد اتضح الأمر لديهم وبان، ولم يبق لديهم أيّة شبهة حول الإيمان ونتائجه، وهكذا كان.

{فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِـَايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولكن هل هذا الموقف ناتج عن قناعة مرتكزة على أساس ثابت بعيداً عن الأجواء الطارئة الضاغطة على المشاعر، أم أنّ الموقف هو موقف الصدمة المفاجئة التي تهزّ المشاعر، حتى إذا أفاق الإنسان منها رجع إلى مواقعه السابقة كما لو لم يكن حصل أيّ شيء في حركة الموقف، وفي مستوى المسؤولية؟! َقد لا تستطيع الحالة السريعة أن تعطينا فكرةً عن هذا أو ذاك، ولكن ما يكمن في خلفية الشخصية وعمقها وامتدادها يمكن أن يكشف عن الحقيقة الكامنة في الداخل، فنكتشف ـ من خلالها ـ أنّ هؤلاء لا يعيشون الجدية في مواجهة المسؤولية، بل يقابلونها باللاّمبالاة الوجدانيّة، ولذلك جمّدوا فكرهم أمام كل مواقع الإثارة الفكرية والعملية، فلم يتوقفوا عند علامات الاستفهام العريضة التي كانت تخاطب فكرهم عندما كانوا في الدنيا، بالرغم من كل المؤثرات والدلائل التي كانت تفرض التوقف عندها، بل كل ما فعلوه أنهم خضعوا للأجواء المثيرة المنفعلة بالجوّ الطارىء فيما يوحيه ويثيره، حتى إذا ابتعد عنهم ـ من جديد ـ أو ابتعدوا عنه، عادوا إلى سيرتهم الأولى.

وهذا ما أوضحه القرآن الكريم في قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} فهم لم يكتشفوا في ما شاهدوه شيئاً جديداً، بل كانوا يتوهمون الحقائق قبل ذلك ويخفونها لئلا تقوم عليهم الحجة أمام الآخرين، فينكرونها من موقع القناعة بها، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} لأنهم لم ينحرفوا لشبهةٍ عرضت لهم، ولا لخطأ وقعوا فيه، بل كان ذلك لاستسلامهم أمام شهواتهم وأطماعهم بما كان يدفعهم إلى الإنكار في مواقع الحقيقة وإلى التمرّد في مقتضيات الطاعة، وإلى التسويف في مواقف التوبة، ولذلك فإن الصدمة أمام أهوال النار سوف تتضاءل عندما ينفصلون عن الجو تدريجياً، ويبتعدون عن تهاويله في الزمان والمكان، فيرجعون إلى ما كانوا عليه، لأن شخصيتهم لا تحتمل التأثر بالفكرة العميقة، بل تتحرك تبعاً لظروف الجو ومزاجية الرأي.

وقد يكون هذا اللون من أوضاع الشخصية الإنسانية، يمثل طبيعة الظاهرة في أكثر من مجتمع، سواءٌ في ذلك مجتمع الكافرين، أو المجتمع الذي يتبنّى الإيمان كعقيدة. فقد نلجأ في حالات المرض والخوف إلى الله ونتوب إليه مما أسلفنا من ذنوبنا، ونعزم على تصحيح الموقف أملاً في الشفاء من المرض والأمن من الخوف، فإذا كشف الله عنا ذلك كله، نسينا كل ما التزمنا به لله من موقف أو عمل، وعدنا إلى ما كنا فيه..

إن القضية التي تحكم هذه الظاهرة في الوجه السلبي أو الإيجابي منها، هي أن هناك فرقاً بين أن تكون خطوات الإنسان العملية منطلقةً من قاعدة أساسية في طريقة التفكير والانتماء والعمل، وبين أن تكون خاضعة للأجواء الطارئة التي يعيشها الإنسان. ففي الحالة الأولى، نجد الثبات والصلابة والتركيز في الفكر والموقف بالرغم من كل ما يهز الفكر أو يثير الشعور، حيث يزداد الموقف في هذا الحال قوّة في الأجواء الملائمة، ويزداد توتّراً في الأجواء غير الملائمة، فيشعرهم بالحاجة إلى مواجهة التحدي بقوة ضاغطة. وفي الحالة الثانية، نجد الاهتزاز والضعف والانسحاق أمام أيّة حالة جديدة، ما يوحي إليهم بالانتقال إلى مواقع جديدة مضادّةٍ لمواقعهم الحقيقية، في الفكر والانتماء والعمل.

وربما كان من الضروري للإنسان المؤمن أن يختبر نفسه ليعرف في أيّ اتجاهٍ يسير، ومن أيّة قاعدة ينطلق، ليحدّد لنفسه وللآخرين مسار تنمية القدرة الروحية والعملية في الخط الصحيح، فإنّ إهمال ذلك قد يجعل الرؤية غير واضحة وينتهي بالموقف إلى غير وجهته الطبيعية في الحياة. إن علينا أن ندخل هذا الجانب في حركة بناء الشخصية الإنسانية، فلا نتعلق بالسطح الظاهر، بل نحاول دائماً النفاذ إلى الأعماق، فإن الله يريد منا صناعة الشخصية التي تخلق الأجواء ولا تحاول الخضوع للأمر الواقع وتبريره مهما كان لونه.

ويختم الله الآية بالنتيجة الحاسمة لموقفهم الحقيقي: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في كل ما يثيرونه من جوٍّ يوحي بأنهم سيتراجعون عما كانوا فيه.

{وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} قالوا ـ وهم في الدنيا ـ إن الحياة ليست إلا صَدَفةً ضائعةً في الفراغ تماماً كالفقاقيع التي تنتفخ في نطاق الظروف التي توحي بالانتفاخ وتستمر باستمرارها ثم لا تلبث أن تنفجر وتتلاشى كما لو كانت شيئاً لم يكن من دون أن تخلّف وراءها أيّ شيء، أو تستقبل أمامها أيّ واقعٍ جديد.

هذه هي فكرة مادّية الحياة والإنسان، حيث الوجود يتحرك بين عدمين، فلا وجود بعدها، كما لا وجود قبلها.. وبذلك لم تعد الرسالات تمثل لديهم شيئاً في ما تفرضه المسؤولية على الإنسان من أعمال ومواقف، بل كل ما هناك، أن للحياة حاجاتٍ لا بد من استكمالها والحصول عليها بأيّ ثمن، بعيداً عن أيّة قيمةٍ روحيةٍ، أو أيّ تفكير غيبيّ، ولهذا لم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير بالغيب الذي حدّثهم الأنبياء عن آفاقه الرحبة، في ما يمثله اليوم الآخر، وتمثله الجنة والنار، وما يعيشه الإنسان من رضوان الله ورحمته وعفوه وغفرانه. فالحياة باعتقادهم لا تحمل أي معنى، وهي في كل مظاهرها وأوضاعها لا تجسد أو تعكس أية حقيقة أخرى، فهي تبدأ هنا وتنتهي هنا، وليس وراءها أي شيء إطلاقاً. واعتقادهم هذا يعبر عن أمنياتهم وليس عن الواقع كما هو في الحقيقة.

* * *

موقف الكافرين أمام الله

وينتقل القرآن بنا إلى جوٍّ آخر، نواجه فيه هؤلاء الأشخاص، وهم يعيشون الحوار مع الله، حيث يواجههم الله بالأسئلة الحاسمة التي تصدمهم بالحقيقة، ولا يملكون إلا أن يجيبوا عنها بالحق، إذ لا مجال لهم لغير ذلك أمام الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} في الموقع الذي يواجهون فيه الحساب بين يدي الله، ليقدموا حساب أعمالهم، وليكشف الله ـ من خلال ذلك ـ ما يختزنونه من أفكار، وما كانوا يثيرونه من أقاويل وأفكارٍ لا تعبّر عن قناعةٍ حقيقية.

{قَالَ أَلَيْسَ هَـذَا بِالْحَقِّ} فقد كنتم تنكرون هذا كله في الدنيا، ولكنكم تقفون الآن مع الحقيقة التي تفرض نفسها على أبصاركم وأفكاركم، فماذا أنتم قائلون؟ هل هناك ظلال شك تغشي عيونكم الان؟ {قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا} إنهم يعترفون بالحق اعترافهم بالله الذي يقسمون به لتأكيد قناعتهم بما يشاهدون.

{قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فقد قامت عليكم الحجة من خلال الرسالات التي جاء بها الرسل، ولكنكم تمردتم واستكبرتم وكفرتم، من دون عذرٍ، فماذا تنتظرون إلا العذاب الذي هو الجزاء الإلهي العادل لموقفكم المنكر؟ فقد أخبركم الرسل بذلك كله، في ما حدثوكم به عن مستقبل المسؤولية في جانب الثواب والعقاب.

ولا يطيل الله الحديث معهم، لأن القضية الواضحة لا تحتمل جدلاً وحواراً، بل تقف في مواجهة الحجة لتسجل الموقف الحق في اللحظة الحاسمة.. ليتحرك التنفيذ من خلال ذلك.. وتلك هي اللحظة التي ينبغي للإنسان أن يحسب حسابها في الموقف الصعب أمام الله، فهناك يشعر بأنه مكشوف بكل فكره وشعوره وعمله، فالله لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

* * *

خسران المكذبين بلقاء الله

ثم أراد الله أن يبيّن لهم الحقيقة على مستوى القاعدة، ليتأمل الإنسان ويعيد النظر في حسابات الربح والخسارة في عمله أمام الله.

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ} لأنهم لم يستعدّوا لذلك، انطلاقاً من إنكارهم له، فعاشوا الغفلة كل الغفلة لما ينتظرهم من حساب الله وعقابه.

{حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ} من دون انتظار، وهم سادرون في غيّهم ولهوهم وعبثهم وغفلتهم {قَالُواْ يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أخذوا يشعرون بالحسرة التي تثقل وجدانهم وتضغط على مشاعرهم، وتثير انفعالاتهم.. فقد فرّطوا في يوم القيامة، فلم يعملوا على ربح الموقف فيه، من خلال سلامة الموقف في الدنيا، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} فهم لم يكتفوا بترك العمل للجنة، بل أثقلوا ظهورهم بالأحمال الثقيلة بكفرهم وعصيانهم وانحرافهم وتمردهم، وذلك هو مغزى التعبير بالأوزار على الظهور، للإيحاء بأن الانحراف عن خط الله في العقيدة والعمل يثقل روح الإنسان وضميره وحياته ومصيره.. فاستعار الثقل المادي للثقل المعنويّ.

{أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} وأيّ سوءٍ أشدّ من العناء الذي يلاقيه الإنسان من أحمالٍ ثقيلةٍ ينوء بها، ثم تلقي به ـ بعد ذلك ـ في أعماق الهاوية، من دون أن يجني من تعبه إلاَّ الخسران والعذاب؟! وتلك هي الحسرة الكبرى التي يواجه فيها الإنسان ـ بعد العناء الطويل ـ الخسران الكبير.

* * *

الحياة الدنيا لعب ولهو

{وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إنها حقيقة الحياة العارية، بعيداً عن كل الزخارف التي تلونها، إذ ماذا يوجد خلف الصراعات والخلافات والشهوات والأطماع والحركات الخاصة والعامة، إذا جرد الإنسان نفسه من الأهداف التي تربطه بالدار الآخرة؟ ماذا يبقى منها؟ لا شيء سوى اللهو الذي يشغلكم ويملأ فراغ أنفسكم وأوقاتكم، ثم لا يبقى منه شيء بعد انقضاء الوقت والاستسلام للنوم، ولا شيء بعد ذلك، سوى اللعب الذي يمارس فيه الإنسان بعضاً من الحركات والأوضاع المثيرة المعجبة التي تحرّك الأعضاء والأفكار والمشاعر، ثم ينتهي كل شيء عندما تهدأ الساحة وينتهي اللاعبون.

إن الشيء الذي يجعل لحركة الإنسان معنى، إنما هو السعي باتجاه الهدف الذي يحكم حياته ويربط مصيره.. أمّا إذا فرّغها من ذلك كله كما يفعل الماديون ولم يلتق فيها بالله ولم يستهدف الدار الآخرة ـ كغايةٍ ـ فإنه لا يزيد عن أن يكون لاهياً لاعباً.. في ما يعنيه اللهو واللعب من البعد عن ربط العمل بقضية المصير.

{وَلَلدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فهي لا تمثل مكاناً يقضي فيه الإنسان عمره، ويستريح فيه من عناء التعب، بل تمثل القيمة الروحية التي تجعله يعيش السعادة المطلقة في رحاب الله. وبذلك كانت الآخرة خطاً للعمل في حركة المتّقين في الحياة الدنيا، يتحركون ـ من خلاله ـ إلى الله في كل أقوالهم وأفعالهم، فهو الهدف الذي يحكم كل توجهاتهم وتطلعاتهم، وهو النور الذي يشرق في قلوبهم، فيبعث الإشراق في حياتهم، فإذا فكروا في مواقفهم، فكروا في انسجامها مع محبّة الله، وإذا فكروا في الجنة رأوا فيها المظهر لرضئ الله، وإذا فكروا في النار رأوا فيها المظهر لسخط الله. وهكذا يلتقي الخط بالهدف، وترتبط التقوى بالدار الآخرة. وهكذا نفهم العمل الآخروي شيئاً يرتبط بالهدف الكبير للمؤمن، وهو الله، وعلى ضوء هذا كانت الصلاة التي يأتي بها المصلي رياءً عملاً دنيوياً، وكان العمل من أجل العيال عملاً أخرويّاً ـ تبعاً لابتعاد الأول عن الارتباط بالله وارتباط الآخر به.

إن الدار الآخرة حين يعيشها الإنسان في الدنيا من خلال غايات العمل، {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} لأنها تعطي لحياتهم معنًى وامتداداً في ما يحملونه من وعيٍ روحي عميق، وهي خير لهم عندما يتركون هذه الدنيا وينالون جزاء تقواهم، جنّةً عرضها السماء والأرض، ورضواناً من الله أكبر حيث السعادة المطلقة التي لا حدّ لها وخلوداً في النعيم الروحي والجسدي أمام الله.

إن الله يخاطب عقول الناس، لتتحرك في عملية موازنةٍ ومقارنةٍ بين الدنيا والآخرة، لتنطلق عملية الاختيار من موقع التفكير، لا من موقع التقليد والمحاكاة، بوصفه ـ أي التفكير ـ الأساس الذي ترتكز عليه قاعدة المعرفة الإيمانية، التي يريد القرآن أن يبنيها في الإنسان.

ـــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:362.

(2) م.ن.، ج:4، ص:362.

(3) مفردات الراغب، ص:471.