من الآية 33 الى الآية 37
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِـَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ*وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِـَآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(33ـ37).
* * *
معاني المفردات
{قَدْ}: حرف بمعنى ربما، الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته.
{لَيَحْزُنُكَ}: الحزن: ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه.
{يَجْحَدُونَ}: ينكرون، والجحود: إنكار ما ثبت في القلب، أو إثبات ما نفي فيه.
{نَّبَإِ}: النبأ: هو الخبر ذو الشأن العظيم.
{نَفَقاً}: النفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر، وأصله الخروج، ومنه: المنافق لخروجه من الإيمان إلى الكفر، ومنه: النفقة لخروجها من اليد.
{سُلَّماً}: السلّم: الدرج، وهو مأخوذ من السلامة. قال الزجاج: لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك[1].
{يَسْتَجِيبُ}: من الجوب وهو القطع، وهل عندك جائبة خبر، أي تجوب البلاد. والفرق بين يستجيب ويجيب أن يستجيب فيه قبول لما دعي إليه، وليس كذلك يجيب، لأنه يجوز أن يجيب بالمخالفة، كما أن السائل يقول: أتوافق في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب: أخالف، عن علي بن عيسى، وقيل: إن أجاب واستجاب بمعنى. كذا في مجمع البيان[2].
* * *
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} قال السدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قطّ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية[3].
وروى الترمذي والحاكم عن علي قال: قال أبو جهل للنبي(ص): إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِـَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[4].
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب كان يكذب النبي(ص) في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقاً، فأنزل الله الآية[5].
ونلاحظ على هذه الروايات، أنها أكدت على محاولة الفصل في التكذيب بين النبي وما جاء به، كما في الرواية الثانية، بينما الرواية الأولى تؤكد صدق النبي بما جاء به مطلقاً، ولكن التكذيب الظاهري كان من أجل أن لا تكون النبوة في بني قصيّ بالإضافة إلى ما لديهم من السقاية والحجابة والندوة، فليس هناك جحود بآيات الله ولا تكذيب للنبي في الواقع بل في الظاهر، وهذا ما تدل عليه الرواية الثالثة التي نسبت الكلام إلى الحارث بن عامر لا إلى أبي جهل.
وهذا كله لا يتناسب مع سياق الآية التي تثير القضية على أساس الحديث مع النبي(ص) الذي كان يعيش الحزن على رفض قومه لرسالته وتكذيبهم له، بادّعائهم أن هذا التكذيب ليس موجهاً ضد النبي شخصياً ليعيش الحزن، بل هي موجهة إلى الله في جحودهم بآياته، ما يجعل الجحود لوحيه وليس له بالذات، فإذا كانت المسألة بهذا المستوى فلا ضرورة للحزن، لأن الله الذي جحدوا وحيه سوف يتكفل بهم بما ينزل عليهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وتلك هي قضية الرسل الذين لا يمثلون أنفسهم في رسالتهم بل يمثلون الله في دعوته فيتركون الأمر إليه، فهو الذي يملك الأمر كله وهو الذي يواجه عباده بما يستحقّون ولن يضرّه ذلك في شيء.
ولذلك فإننا لا نلتقي مع سبب النزول لأنه لا ينسجم مع السياق العام للاية، بل هو ـ على الظاهر ـ اجتهاد من الرواة في تفسير السبب في مقارنتهم بين فهمهم للاية وبعض الأحداث الحاصلة في بداية الدعوة في الواقع التاريخي للسيرة.
إن هذه الروايات توحي بأن هناك من الناس من يؤمن بالدعوة سرّاً وينكرها علناً لاعتبارات ذاتية أو عائلية أو غير ذلك، خاصة إذا كان اعتناقها يفترض الإيمان بأفكارها ومفاهيمها وصفائها على حساب ما عندهم على هدى قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} [النمل:14].
وقد جاء عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حدّث أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله(ص) وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً.
ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجلٌ منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة. ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألاّ نعود. فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا..
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك في ما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك في ما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدّقه! قال: فقام عنه الأخنس وتركه[6].
إن هذه الرواية بالإضافة إلى الروايات السابقة، توحي بأن هناك عقدةً مستعصيةً كانت تعيش في ذهنيات هؤلاء وتمنعهم من الإيمان برسول الله، فلم تكن قضيتهم قضية كفر ينطلق من فكرة مسيطرة عليهم، بل من واقع منحرف يفرض نفسه على مواقعهم.
وهناك ـ في نهاية المطاف ـ نقطة مهمة، وهي أن هذه الآية مكية والسورة مكية، أما الروايات فموقعها ـ على الظاهر ـ المدينة في معركة بدر.
* * *
القرآن يوجّه النبي إلى واقع التحدّيات
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِـآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} هل كان الرسول يشعر بالحزن الروحي على ما يواجهه به قومه من تكذيب؟ وهل كانت المسألة تمثل بالنسبة إليه حالَةً ذاتيّةً ترهقه ليحتاج إلى التسلية التي تبعد الموضوع عن التحدي الذاتي، وتجعله بمنأى عن النتائج السلبيّة المؤثرة على المشاعر الخاصة وذلك بالإيحاء له بأن التكذيب ليس موجّهاً إليه، بل هو موجّهٌ إلى الله من خلال ما يكذب به الظالمون من آيات الله؟
وهل أنّ مثل هذا الأسلوب يريح النبي محمداً(ص)؟ وإذا كان الأمر على هذا الشكل، فهل يمكننا أن نفهم أنَّ انفعاله الشخصي يتجاوز انفعاله لله؟ وأخيراً، هل ينسجم ذلك مع شخصية النبيّ في ما نعرفه عن إخلاصه لرسالته لربّه؟
هذه هي علامات الاستفهام التي قد ترتسم أمام القارىء لهذه الآيات عندما يواجه معانيها من خلال الفهم الحرفي لألفاظها.
ولكننا نفهم منها أسلوباً قرآنياً يتحدّث عن تحليل الموقف الرسالي للرسول ولكل الرساليين الذين يتبعون خطاه، في ما يمكن أن يخضع له البشر من نوازع ذاتية أمام التحديات، فهو يوحي بوجود شيءٍ من هذا القبيل، كفرضيّة قابلةٍ للحدوث، ولكن ليس من الضروري أن تكون قد حدثت بالفعل، لينتقل، من خلال ذلك، إلى الإيحاء بأن الموضوع لا يتحمل أيّة صدمةٍ انفعاليةٍ صعبةٍ تثقل حركة الذات في الدعوة. فإذا كانت صفة الرسالة هي التي تطبع شخصية الرسول فإن كل ردّة فعلٍ سلبيّةٍ أو إيجابيةٍ ترتبط بتلك الشخصية يجب أن تكون بعيدة عن الذات والذاتيات. وبهذا تكون القضية متعلقةً بالله الذي لا يضيره شيءٌ من تكذيبهم وجحودهم، كما لا ينفعه شيء من إيمانهم وتصديقهم، لأنه الغنيّ عن ذلك كله، فلا مجال لأي انفعالٍ، لأن الذات لا علاقة لها بالموضوع، والرسالة المنزلة من الله لا تتأثر بذلك، إن الله فوق الانفعال، فماذا يبقى في الساحة؟
إن المسألة ـ بكل بساطة ـ هي أن يواجه الرسول الموقف بعقليّةٍ واقعيّةٍ، وذهنيّةٍ عمليّةٍ مرنة، بعيداً عن كل الحالات الشعورية الذاتية. وبذلك تستمر القافلة الرسالية في سيرها الطبيعيّ، لتصل إلى أهدافها الكبيرة في نهاية المطاف.
وفي ضوء ذلك، تتحوّل هذه الآيات إلى خطةٍ تربويّةٍ للعمل الرسالي، يواصل من خلالها ذاك العمل طريقه بكل موضوعيّةٍ وهدوءٍ، تماماً كأيّ عمل يرتبط بمسؤوليته ولا يرتبط بذاته، حيث يتحرك الداعية على أساس المعطيات الواقعية، ومدى انسجامها مع خط المسؤولية في عمله.. فيعيش التجرد من كل ما لا يرتبط بالعمل، ما يجعل للحركة فاعليّةً قويّة، ويقود الموقف إلى خطوات الواقع.
وهكذا تخرج القضية من النطاق الذاتي الشخصي، لتتّصل بالنطاق العام للرسالة وللرسول، فلا تعود شيئاً شخصياً للنبيّ، بل تتحوّل إلى قاعدةٍ عامّة لكل الرسل والرسالات؛ ومن هنا، تتساقط كل علامات الاستفهام أمام شموليَّة القاعدة وثباتها.
إن القرآن يريد أن يؤكد الفكرة ـ الخط، في ضمير النبي ـ الداعية، ليفرّغ ذاته من الانفعال، فهناك حالةٌ بشرية تحبّ التمرّد والمواجهة والهروب من المسؤوليّة. فلا بد من مواجهتها من منطق الواقع الذي يبحث في الأرض عن الإمكانيات الحاضرة والمستقبلة لانتصار الدعوة في حركتها الفاعلة، ما يفرض المزيد من الهدوء النفسي والاتّزان العاطفي والثبات العقلي، فالدعوة تمثل رسالة الله، والتكذيب يواجه هذه الرسالة.. فهو يواجه الله في النهاية، وليس هذا الأمر بدعاً في التجربة الجديدة للرسول ـ الداعية، فهي حلقة من حلقات السلسلة التاريخيّة لمسيرة النبوّات في التاريخ، فقد كان هناك في المدى البعيد في الزمن الغابر أكثر من نبيّ جاء بالرسالة، فواجهه الآخرون بالتكذيب، فقد كان من سنّة الله أن ينطلق الرسل ضد التيار السائد فكريّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً واقتصادياً، ما يفرض مواجهة التيار لهم بقوّة، ليضعفهم وليصرعهم، فلا بدَّ للذين يريدون أن يصارعوا التيّار ويصرعوه أن يملكوا الأعصاب القويّة الرساليّة التي لا تضعف ولا تثور، بل تمارس القوّة بهدوء وصمود، لتخفّف من اندفاع التيار في البداية، ثم تقهر اندفاعه في النهاية، ليبدأ ـ بعد ذلك ـ خلق التيّار الجديد، وهكذا يكون الصبر الذي يمثِّل القيمة الأخلاقية المثلى في حركة التاريخ، شرطاً حاسماً في عملية الثبات والانتصار الكبير.. وهذا ما عبّرت عنه الآية التي تحمل تجربة الماضي إلى الحاضر ليحملها الحاضر إلى المستقبل.
* * *
صبر الرسل على التكذيب والأذى
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ} بكل أنواع الأذى، فلم يتأففوا ولم يحزنوا، بل صمدوا في وجه القوى المضادّة، لأنهم وعوا الحقيقة العملية التي تقول: إن قضية صنع القوّة تبدأ بثبات الإنسان أمام تحديات القوّة، لأنه بذلك يحصل على قوّةٍ سلبيّة سوف تتحول إلى قوّة إيجابيّةٍ فاعلةٍ في الساحة الرسالية الكبرى، لأنه ـ بذلك ـ يفسح المجال للعوامل التي تُضعف القوى الآخرى أن تعمل عملها، كما يعطي الفرصة للعوامل الجديدة التي تقوّي الأفكار القادمة لكي تخطو خطواتها الأولى في حركة الزمن، لأن انطلاقة التطور في عملية الهدم والبناء قد تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ يحمل الكثير من الآلام والمتاعب والدموع في طريق الهدف الواعد الكبير {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} لأن الله لا يحقق للنصر حركته إلا من خلال سننه الحتمية في الحياة، التي تواجه عاديات الزمن، وتلك هي كلمات الله التكوينيّة التي تتحول إلى سننٍ وقوانين في وعي الطبيعة {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ}.
{وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فليكن ذلك هو الهدى الذي تستهدي به في خطواتك الجديدة المتحركة أبداً نحو التغيير في كل شيء، فإن الله قد أراد لكل رسول أن لا يبدأ من حيث يبدأ الآخرون، بل أن يواصل المسيرة من حيث ينتهي الآخرون في مسيرتهم، ما يجعل من الساحة ساحة تجارب تغييرية حقيقية.. وماذا بعد ذلك؟
إن الواقع لا يسمح إلا بالصبر والتقدم من مواقع الصبر، فذلك هو المنطلق الوحيد للانطلاق، لأن ذلك هو طبيعة الأسلوب الواقعي في الوصول إلى النتائج الحاسمة، فإذا لم يقتنع العاملون، أو لم يصبر الرسل والدعاة، فلينسحبوا من الساحة، أو ليقوموا بحركاتٍ واستعراضاتٍ تشنجيّة، أو ليدخلوا في تجارب غير معقولة، ليحققوا للمتمردين الجاحدين طلباتهم التعجيزيّة.
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} عنك، فلم تقدّر الظروف الموضوعية المحيطة بك من خلال الأشخاص والأوضاع، ولم تحاول أن تصبر على ذلك في انتظار نضوج التجربة، وانطلاقة المستقبل في خطّ الدعوة، وعشت الشعور بالسقوط الداخلي تحت تأثير حالة المرارة واليأس، أمام ما يقترحون من طلبات، ويطالبون به من معجزات، مما لم يرد الله أن يخضع مسيرة الدعوة له، أو يشغل حركة الأنبياء به، {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ} تلتقطها من أعماق الأرض، أو تتلقفها من آفاق السماء، بعد أن فقدت القدرة على الإتيان بها من سطح الأرض.. فافعل، ولكنك لن تجد شيئاً هناك لو استطعت بلوغ ذلك لأن الله لم يشأ للناس أن يؤمنوا به، إلا من حيث أراد وقدّر، في ما أوحى به إلى الأنبياء، وفي ما أنزله من معجزات، بعيداً عن اقتراحات المقترحين وعن طلبات المعجّزين.
* * *
عدم إكراه الناس على الإيمان
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} بطريقةٍ إلهيّةٍ تكوينيّة كما ألهم الأشياء الكونية قوانينها وسننها الطبيعيّة.. وكما خلق الناس على أشكال معيّنة في اللون والحجم والشكل، ولكنه شاء للإرادة الإنسانية أن تتحرك من موقع الاختيار لينطلق الإنسان بالإيمان من موقع الحريّة في حركة العقيدة في الحياة، فسر في طريقك على هدى الله، ولا تصغ إليهم، وأعرض عنهم، فذلك هو الخط الأصيل في فكرة العمل الرسالي وأسلوبه.. {فلاتَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الذين يفكرون في ردّ التحديات انطلاقاً من اللحظة الحاضرة والانفعالات السريعة، بدلاً من التخطيط للمستقبل الذي يرصد نهايات الأمور عندما يفكرون في بداياتها، لأن القضية ليست في أن تربح هتافات الإعجاب في حماس المتحمّسين، بل القضية هي في أن تثير النتائج العميقة البعيدة المدى في تفكير المفكّرين وجهاد المجاهدين.
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} من موقع الوعي للفكرة، فهم الذي يعرفون مداها في الحياة، وهم الذين يعون عمقها في الزمن، وامتدادها في النفس والعقل والضمير، وهؤلاء هم الأحياء الذين تتفجر الحياة فيهم فكراً وشعوراً وحركة.
{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} وهم الذين لا يعيشون مسؤولية السمع والبصر والإحساس، فلا يستفيدون منها في ما يعرفون أو ينكرون.. {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ليواجهوا نتائج المسؤولية من خلال الحجة التي أقامها الله عليهم في أنفسهم وفي الكون وفي وحي الرسالات.
ونستوحي من ذلك كله أن على العاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن لا ينطلقوا من حالةٍ ذاتية في مشاعرهم السلبية أمام التحديات الموجهة إليهم بالتكذيب لدعوتهم ليشعروا بالحزن والإحباط والسقوط النفسي، بل إن عليهم التفكير الدائم بأنهم يتحركون من خلال دين الله الذي يريدون للناس أن يرتبطوا به ليتقربوا إلى الله بذلك انطلاقاً من الروح الرسالية التي تدفعهم إلى ذلك، ولذا فإن عليهم أن يتابعوا الطريق في مواصلة التجربة من دون انفعال ذاتي، لأنّ التحدي ليس موجهاً إليهم بل إلى الله الذي يعلم كل شيء ويسيطر على كل شيء فلا يضرونه شيئاً، إن يضرون إلا أنفسهم ولا يشعرون.
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً}. وهذا هو الطلب الملحّ الذي يحاول تسجيل نقطة على النبوّة والنبيّ، فقد جاء الرسول ليخاطب العقل فيهم، وكانت آيته ـ القرآن ـ منسجمةً مع ذلك الخطّ، ولكن الناس يريدون الآيات المثيرة التي تهزّ المشاعر والأفكار، وتسحر العيون، وكان الجواب أن القضية متعلقة بالله، وهو القادر على أن ينزل أيّة آية يشاء، لأنه قادر على كل شيء، ولكنه يُخضع كل شيء لحكمته في نطاق الحاجة الرسالية والإنسانية إليها، ولا يجعل ذلك كله خاضعاً لمزاج إنسان معقّد، مهما اختلفت الكلمات، واهتزت التحديات.. فإذا لم ينزل على رسوله شيئاً مما يريدون أو يقترحون، فليس ذلك لنقصٍ في مكانة الرسول أو ضعفٍ في موقفه، أو عجزٍ في قدرة الله، ولكن لحكمةٍ في تقديره الأشياء {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يفكرون تفكيراً عميقاً يعرّفهم بدايات الأمور ونهاياتها وعمقها وامتدادها.
ــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:370.
(2) م.ن.، ج:4، ص:370.
(3) أسباب النزول، ص:120.
(4) السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م ـ 1414هـ، ج:3، ص:263.
(5) أسباب النزول، ص:120.
(6) ابن هشام، السيرة النبوية، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ـ لبنان، 1413هـ ـ 1993م، ص:315 ـ 316.
تفسير القرآن