الآية 38
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(38).
* * *
معاني المفردات
{دَآبَّةٍ}: الدابة: كل ما يدبّ من الحيوان، وأصله: الصفة من دبّ خطوٍ والدبوب والديبوب النمام، وفي الحديث: لا يدخل الجنة ديبوب ولا قلاّع، فالديبوب النمام لأنه يدب بالنميمة، والقلاّع الواشي بالرجل ليقتلعه، قال الأزهري: تصغير الدابة: دويبة، الباء مخففة وفيها إشمام ـ بالكسر ـ وفي الحديث: أيّتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب، أراد الأدبّ، فأظهر التضعيف، وهو الكثير الوبر[1].
{طَائِرٍ}: الطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء.
{بِجَنَاحَيْهِ}: الجناح: إحدى ناحيتي الطير اللتين يتمكن بهما من الطيران في الهواء. وأصله: الميل إلى ناحية.
{أُمَمٌ}: واحدها أمة، وهي كل جماعة ذات خصائص واحدة كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، والأصل في معناها القصد، يقال: أمّ يؤمّ.
{فَرَّطْنَا}: قصّرنا. والتفريط: أن يقصر في الفَرَط، يقال: ما فرّطت في كذا، أي: ما قصّرت.
{يُحْشَرُونَ}: الحشر: إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.
* * *
الدواب والطيور أممٌ أمثالنا
وفي هذه الآية حديث عن نقطتين مهمّتين تتعلقان بالحيوان، وما يتميز به في مجتمعاته التي يتجمع فيها أفراده، وفي ما ينتهي إليه أمره من الحشر إلى الله. ففي النقطة الأولى، توجّهنا الآية إلى كل دابّة في الأرض من ذوات الأربع أو من الزواحف والحشرات، وربّما أيضاً الى حيوانات البحر، باعتبارها من الدوابّ في الماء، بطريقة السباحة، إذا صح التعبير، وإلى كل طائر يطير بجناحيه، وتدعونا إلى دراسة خصائصها الذاتية، وعلاقاتها ببعضها البعض وطريقتها في ممارسة حياتها، وتنظيم أمورها، وتوزيع أدوارها على أفرادها مما يجعل لها شخصية الأمّة التي تتمثل في نوعٍ معين من الترابط الاجتماعي، والتوازن الذاتي، المرتكزين على ما أودعه الله فيها من خصائص الغرائز الدقيقة التي تنظم لها حياتها بشكلٍ دقيقٍ متوازن، بما ألهم فيها كل نفسٍ هُداها.
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ} وقد تكون الغاية من هذه الإشارة إلى طبيعة شخصية الأمة في الحيوان، هي توجيه الإنسان إلى أن يدرس طبيعة المجتمعات الحيوانيّة، ليراقب طريقتها في النمو، وفي العلاقات، وفي ممارسة غرائزها وحاجاتها، وفي أسلوبها المتنوع في الدفاع عن نفسها في مواجهة الأوضاع الطبيعية، أو الحالات الطارئة التي تشهد وجودها، وذلك ليخرج الإنسان من خلال هذه الدراسة الشاملة بفهم كيفيّة التعامل مع الحيوان، وطريقة الاستفادة من خصائصه وأساليبه في العيش وبناء العلاقات، فإن الله يريد للإنسان أن يفهم كل ما حوله ليتعلم منه دروس الحياة، ولينطلق في هذه الرحلة الكونيّة الحيّة، ليعرف منها عظمة الخالق من خلال عظمة المخلوق، لتلتقي لدى الإنسان المعرفة الكونيّة بالمعرفة الإلهية.. وهذا هو الأسلوب القرآني المميّز الذي يوحي للإنسان باللاّهوت من خلال حركة الحياة من حوله، لا من خلال الطريقة التجريديّة في التفكير، فلا تنفصل العقيدة عن الحياة، بل تتعمَّق بها، وتنمو في حيويّتها وتطوّرها.
وقد يتساءل متسائلٌ عن طبيعة هذه المماثلة بيننا وبين الحيوانات التي تدبّ في الأرض أو تطير في الهواء، فهل لها تفكيرٌ وعقلٌ وإرادةٌ، كما لنا ذلك كله؟ وهل نستطيع اكتشاف ذلك من خلال التنظيم الدقيق الذي يحكم أفرادها ومجتمعاتها وينظم علاقاتها ببعضها البعض، أم أنَّ ذلك يتحرك في حياتها بطريقةٍ غريزيّة تلقائيّة لا أثر فيها للاختيار المتنوّع والإرادة المعقّدة؟ وقد نتصوّر المماثلة في هذا التكوين الاجتماعي الذي يجعل لكل فرد أو جماعة دوراً محدّداً في حركة الأفراد، ما يوحي بالدقّة في الخلق والتنظيم الإلهي للكون، وربما كان هذا الاحتمال أقرب إلى مدلول كلمة «أمم» التي تمثل المضمون الاجتماعي في معناها الدقيق.
وفي هذا الجوّ، قد ينبغي للعاملين في حقل التربية الإسلامي، أن يجعلوا من علم الحيوان مادّةً ثقافيّةً تربويّةً، تربط الإنسان بالله، من خلال انفتاحه على الكائنات الحيّة التي تعيش معه وتتحرك من حوله، وتوحي له بالاستفادة من خصائصها الذاتيّة في توجيهه إلى الدقّة في التنظيم، والدأب في العمل، كما نلاحظه في الحديث عن مجتمع النمل والنحل.
* * *
ما فرّطنا في الكتاب من شيء
{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} ونتساءل عن معنى هذه الفقرة والمراد بها في الكتاب، هل هو اللوح المحفوظ، أو هو القرآن، أو كتاب الأعمال، أو كتاب الوجود التكويني؟
ربما يخطر في البال المعنى الأوّل، فيما إذا ربطنا الفقرة بما قبلها من الحديث عن الدوابّ والطيور والنّاس، من خلال الإيحاء بإحاطة علم الله بكل شيءٍ، في ما أودعه في كتابه الذي يشمل كل شيءٍ. وقد يجد البعض في تعقيب الفقرة بالحديث عن الحشر ما يوحي بالمعنى الثالث، وذلك بملاحظة أن الله يحصي على المخلوقات كل أعمالهم، كما جاء في الآية الكريمة: {وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس:12].
ولكن بعض الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) توحي بالمعنى الثاني، وهو القرآن، الذي أبان الله فيه كل ما يحتاجه الناس ممّا يدخل في نطاق مسؤوليتهم، في ما أحلّه وحرّمه، وبذلك يتناسب مع الحديث عن الحشر، وما يمثّله من الموقف الذي يواجه فيه الناس نتائج المسؤولية... وربما كان هذا المعنى أقرب إلى جوّ الآية من المعاني الآخرى، لأنّ الحديث العام يتحرك في أجواء الرسالة والرسول وما يلتقي مع الحجة التي أقامها الله على العباد، في ما أنزله على رسوله من وحيٍ يملأ فراغ حياتهم بالمفاهيم والتشريعات التي تعمّق لهم روح الالتزام وتخطط لهم طريق السعادة في الدارين.
وقد حاول البعض أن يفهم من هذه الفقرة أن الله بيّن في القرآن كل شيء من أسرار الكون وقضايا الوجود وآفاق التشريع، وبذلك كان القرآن شاملاً لكل شيء في الوجود، فلا حقيقة كونيّةً ولا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، إلا وللقرآن فيها بيانٌ وبرهان.. فهو كتاب الوجود والتشريع وحركة الحياة.
ولكنّ مثل هذا الاتجاه في فهم هذه الفقرة، لا يلتقي بالواقع القرآني الذي يتميّز بالتأكيد على القضايا المتصلة بالجانب الروحي والفكري والعملي للإنسان، وبالانطلاق في الأمور الكونيّة، بالإيحاء بالمنهج الذي يغري الإنسان بالبحث والتأمّل والفكر، بعيداً عن الدخول في التفاصيل، وإذا كانت هناك بعض الأحاديث عن بعض الأمور العلميّة، فإنها لا تتعدى جانب التلميح، لا التفصيل، في ما تفرضه ضرورة العرض لبعض الظواهر الحياتية والإنسانيّة التي توحي بالاستنتاج. ولعلَّ ما ذكرناه، يلوح من التركيز على وصف القرآن بأنه نور وهدى يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، فهو كتاب التخطيط للمسؤوليّة الإنسانيّة أمام الله في حركة الحياة، لا كتاب التحليلات العلمية لأسرار الكون والحياة. وبهذا نستوحي من شمول الكتاب لكل شيء، الشمول في الجانب الفكري والروحي والعملي في ما يحتاجه الإنسان في قضايا الانتماء والعقيدة والسلوك والحركة في الحياة الفردية والجماعية. وهذا ما أشارت إليه بعض الأحاديث التي ألمحنا إليها آنفاً.
وقد جاء في الكافي بإسناد فيه رفع إلى الرضا(ع) قال: «إن الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه(ض) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس، فقال عز وجل: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[2].
* * *
من هم الذين يحشرون يوم القيامة؟
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} من هم هؤلاء؟ هل هي الحيوانات؟ ولماذا يحشرها الله يوم القيامة؟ وهل هي مسؤولةٌ عن أعمالها ليكون الحشر لها، تماماً كما هو الحشر لأفراد الإنسان من أجل مواجهة نتائج المسؤولية؟ وكيف تكون المسؤولية لمن لم يزوَّد بالإرادة من الفكر والعقل اللذين لا يتصف بهما الحيوان الذي يتحرك بالغريزة ـ في ما نعرف من مفهومنا عن الحيوان؟ هذه بعض علامات الاستفهام التي قد لا نملك عليها جواباً محدّداً في ما نملك من وسائل المعرفة، فقد لا يستبعد البعض من الباحثين أن يكون للحيوانات بعض العقل وبعض الإرادة في ما يلاحظونه من قابليتها للتعلم والتكيّف والتصرّف، ولو بطريقة التقليد والمحاكاة، مما يلتقي بإمكانيّة المسؤوليّة في بعض الأشياء، وقد يتأكّد ذلك بما ورد في بعض الأحاديث المأثورة، إن الله يقتص للشاة الجمّاء من الشاة القرناء يوم القيامة، كما يقتصّ لأيّ ظالم من أيّ مظلوم. وربّما تأيّد ذلك بالآية الكريمة: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5].
ولكن قد يلاحظ المتأمّل، أن الحشر قد يكون مظهراً من مظاهر التجميع للكائنات الحيّة في الأرض لعلاقتها ببعضها البعض في الأمور المتصلة بالإنسان، وبذلك لا يعبّر عن حالة أصليّة في مسؤولية الحيوان، بل يكون حالةً تبعيّة من حيث علاقته بمسؤوليّة الإنسان ودوره. وقد تكون هناك بعض الأسرار الخفيّة التي يعلمها الله، مما لم نحط بعلمه، فلنترك علم ذلك لله.
وقد يقول بعض المفسرين، إن الحشر للناس، وإن أسلوب الآية قد تحوّل بطريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، كما في الكثير من الآيات القرآنيّة، ويؤيّد ذلك بالأجواء المحيطة بالآية قبلها وبعدها من مسؤولية الناس عن كفرهم وضلالهم، وبالتفسير الوارد لكلمة الكتاب، بأن المراد به القرآن الذي بيّن فيه الله كل ما شرّعه للناس من الحلال والحرام، فإن ذلك مختصٌ بالإنسان لاختصاص الشريعة به، وبالجنّ، دون الحيوان، وقد يكون هذا الرأي قريباً إلى الاعتبار، ولكن لا سبيل إلى الجزم به، والله العالم بحقائق آياته.
هذا كله إذا فسّرنا الحشر بالجمع في يوم القيامة، أمّا إذا فسرناه بما فسّره بعض المفسرين من الإماتة، فمعنى يحشرهم، أي يجمعهم لديه ويميتهم بعد ذلك، فإن الآية تتجه اتجاهاً آخر لا يثير أيّة مشكلةٍ من المشاكل التي ألمحنا إليها، ولكننا لا نجد هذا التفسير قريباً إلى جوّ الآية وسياقها، ولعل هذا المفسّر ارتأى ذلك هرباً من الوقوع في المشاكل الفكرية التي يثيرها التفسير الأوّل في ما ألمحنا إليه من حديث.
ــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4ن ص:371 ـ 372.
(2) الكافي، ج:1، ص:198، رواية:1.
تفسير القرآن