من الآية 40 الى الآية 45
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ*بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ* وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ* فَلَوْلا إِذْ جَآءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(40ـ45).
* * *
معاني المفردات
{بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ}: البأساء من البأس، والضرّاء: من الضرّ، وقد يكون البأساء من البؤس.
قال صاحب الميزان: لعلّ المقصود من الجمع بين البأساء والضرّاء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج، كالجدب والسيل والزلزلة وما يعود إلى الناس من قِبَلها من سوء الحال كالخوف والفقر ورثاثة الحال[1].
{يَتَضَرَّعُونَ}: يخضعون ويتذلّلون إلى الله سبحانه، فيرجعون إلى واقعهم، ويتطامنون من كبريائهم. والضراعة: الخضوع والذلّ والاستكانة، والتضرع هو إظهار الضراعة، قيل: إن أصله من تناول ضرع الأمّ، ومثل الضرع الحَمَل الضعيف والصغير من كل شيء.
{مُّبْلِسُونَ}: متحيّرون يائسون من كل أمل في النجاة، فاقدون لكل معنى في الحياة، يعيشون الحيرة والحسرة وانقطاع الحجة.
يقال: أبلس إذا سكت تحيّراً ويأساً وانقطاعاً. قال الراغب: الإبلاس: الحزن المعترض من شدة البأس. يقال: أبلس، ومنه اشتق إبليس في ما قيل، قال عزّ وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ }[2] [الروم:12].
{دَابِرُ}: الدابر يقال للمتأخر وللتابع، إما باعتبار المكان أو باعتبار الزمان، أو باعتبار المرتبة. والمعنى: إن الهلاك استأصلهم وأبادهم جميعاً فلم ينج منهم أحد، ولم يبق لهم عقب ولا نسل.
* * *
دعوة للتفكير واليقظة
وهذه دعوةٌ قرآنيةٌ للتفكير في الاتجاه السليم الذي يقود الناس إلى الإيمان، وخلاصتها أن مشكلة الكافرين والمشركين، هي أنهم يواجهون قضية العقيدة مواجهة اللاّمبالاة، فلا يجدون ضرورةً للتأمّل، فيمتدون في حالة الاسترخاء الفكري طلباً للراحة من عناء التغيير الفكري، ويمعنون في الضلال في ما يسوّل لهم الشيطان من الإخلاص لعقيدة الآباء والأجداد، فيعبدون الأصنام ويقدّسونها ما شاءت لهم الأهواء ذلك...
وفجأةً يتغير كل شيءٍ من حولهم، عندما يحيط بهم عذاب الله في ما ينزله من بلاء، وفي ما يهدّدهم من أسباب الهلاك، وعندما تقترب منهم ساعة الموت، فماذا يحدث؟ هل يلجأون إلى الأصنام التي يعبدونها لتدفع ذلك عنهم؟! إن القرآن ينفي ذلك، لأن هذا التقديس لا يعيش في الأغوار العميقة للإنسان، بل يطفو على الطبقة السطحيّة من تفكيره، فإذا اهتزت تلك الطبقة اهتزَّت معها كل القناعات الطارئة، وبدأ التفكير العميق يتحرك في مستوى الحقيقة الصارخة... فهذه الأصنام لا تملك الحياة لنفسها فكيف تملكها للآخرين، ولا تدفع الضُّرَّ عن وجودها، فكيف تدفعه عن الآخرين؟!
ويتساءل الإنسان بفطرته التي تنزع إلى الالتجاء نحو القوّة المطلقة التي هي الملجأ والملاذ في مطلق الاحوال ولكل شيء: إلى أين؟ وينفتح في قلبه النور الإلهي في إشراقة الإيمان العميق.. فهذا هو الله خالق كل شيء، ومرجع كل شيء. وتنطلق الدعوات في جوّ اليقظة، ابتهالاً وخشوعاً وخضوعاً إليه، وتغيب الأصنام الحجرية والخشبية والبشرية في ضباب النسيان. وهنا يأتي الدور الإلهيّ من خلال ما تقتضيه حكمته العالمة بأسرار الأشياء والأشخاص، فيكشف البلاء، ويستجيب الدعاء إن شاءَ أو يهمل كل ذلك؛ لأن الموقف الإشراكيّ والعصيانيّ قد وصل إلى الحدّ الذي لا مجال معه للرحمة الإلهيّة.
والآن.. لماذا يثير القرآن أمامهم هذه الرؤية؟ إننا نحسب أن القضية تتجه إلى الإيحاء للمشركين والكافرين بإعادة النظر بقناعاتهم، وذلك بدراسة الأسس الأوليّة التي استندوا إليها في حركتهم الفكرية والعمليّة قبل أن يواجهوا الحقيقة الصعبة في موقف لا يملكون معه أيّة فرصة للتراجع والتخلّص.
وتنطلق الآيات الآخرى لتوضّح الأُسلوب الإلهيّ الذي يمثل سنّة بارزة في طريقة هداية الله للناس، فهذه هي أحداث التاريخ، وما عاشته الأمم الماضية التي مرّت عليها البأساء والضرّاء وفي ما واجهته من مشاكل وآلام، فقد أراد الله لهم أن يثير شعورهم العميق بالحاجة إليه، ويبعدهم عن جوّ الغفلة واللامبالاة الذي تستدعيه حالة الأمن والطمأنينة والاسترخاء الذاتي للنعيم وللراحة اللاهية، فإذا هزّتهم المصائب والفواجع، شعروا بمسألة اللجوء إلى الله، كحاجةٍ عميقة، تهزّ أعماقهم بالتضرّع، بوحي من حاجتهم حالة الفطرية الطبيعية، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك، لأنهم كانوا خاضعين للعقدة الشيطانية المستحكمة، التي حوَّلت قلوبهم إلى حجارةٍ صماء لا تتفاعل بالمؤثرات الروحيّة التي تهز المشاعر وتوقظ الإحساس، وزيّنت لهم أعمالهم فتبدلت الصورة عندهم إلى غير حقيقتها..
وهكذا امتدّت بهم الحياة في نطاق الأجواء اللاهية المنفتحة على الرخاء، فعاشوا معها في ما يشبه النشوة التي أنستهم كل شيء، وفجأة تبدّل كل شيء، واهتزّت الساحة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فإذا هم يجرّون الحسرة تلو الحسرة، واليأس كل اليأس.. {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ}. ولم يبق منهم أحد {وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، الذي يفتح لعباده كل أبواب الخير والنجاة.. ولكنهم لا يستجيبون له، فيظلمون أنفسهم، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وقد نتساءل عن هذه البأساء والضراء التي يأخذ الله بها عباده، هل هي بعيدة عن أسبابها الطبيعية الكامنة في حركة الكون والحياة؟ أم أنها منطلقة منها؟ وإذا كانت كذلك فما علاقة الموضوع بالتذكير والموعظة ونحو ذلك؟
ونجيب عن ذلك، بأنّ الله أجرى الأمور على السنن الحتمية في الوجود.. ولكنه أراد لها أن تخلق ـ بحسب طبيعتها ـ حالةً وجدانيةً في داخل الإنسان، فتذكِّره بالحاجة إلى الارتباط به، على أساس أنه مصدر القوة، ومرجع كل شيء، لأن الله جعل منابع الوعي الإنساني لقضايا الإيمان خاضعةً في وجودها ونموّها واستمرارها لما أبدعه الله في الكون من دلائل عظمته، ومن أسرار خلقه ومواقع رحمته وحكمته.. فإذا أخذ الإنسان بإيحاءاتها أمكنه أن يلتقي بالله من أوسع الأبواب، أما إذا أغفلها وتناساها وابتعد عن خطّها الأصيل، فإنه سيلتقي بالعذاب والهلاك في الدنيا والآخرة.
وربما يطرح سؤال كيف تحدّث الله في الآيتين السابقتين عن رجوع هؤلاء الكافرين إليه، ودعائهم له بما عداه، ونسيانهم لما يحرك مشيئته ـ تبعاً لحكمته ـ في كشف العذاب عنهم، بينما يتحدث في الآيات الأخيرة عن رفضهم التضرع له والعودة إليه، بفعل قسوة قلوبهم، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم؟
هل هذا إلا تناقض في المضمون؟ وهل الحلّ هو في التفريق بين الناس الذي عاشوا مع الرسول ـ (عليه الصلاة والسلام) ـ والناس الذين عاشوا قبل ذلك؟ إننا نستبعد ذلك، لأن الظاهر من أجواء الآيات، أن الحديث عن الخط الشركي هو في نماذجه السابقة واللاحقة، باعتبار أنهم فريق واحد في المنطلقات والممارسات. وقد يجيب البعض بأن الآيتين السابقتين تتحدثان عن الحالة الفطرية العفوية التي يتحرك فيها الإنسان بطريقة لا شعورية تماماً كما هي اليقظة السريعة التي تندفع بعيداً عن الغفلة لتلتقي بالله بشكل عابر من دون أن ينعكس ذلك على الخط العملي الطويل، بينما تتحدث الآيات الأخيرة عن الموقف الحاسم المستمر الذي يمثل الابتعاد عن خط الضلال واختيار السير في خط الهدى، مما يريد الله لهم الأخذ به فلا يستجيبون له. ولكن هذا غير ظاهر، فإن الآية واردة في رفض هؤلاء للمبدأ، وهو الإقبال على الله بالدعاء والتضرع إليه ليكشف عنهم ما حلّ بهم.
وربما كان الأولى بالجواب، أن الآية الأولى واردةٌ في الحديث عن أن الله هو وحده الذي يمكن أن يدفع عنهم العذاب في مقام تأكيد الوحدانية الفطرية التي تفرض عليهم التحرك في هذا الاتجاه إذا التفتوا إلى حركيّتها في داخل النفس، لأنها تعيش في العمق من الذات، حتى إذا ما أذهلتها الصدمات استيقظت وخرقت كل الحواجز الموضوعة فوقها كمثل القشرة السطحية، فإذا بالله ـ وحده ـ هو الذي يهزّ كل كيان الإنسان ليفزع إليه، وهذا ما يوحي به قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فقد يكون المراد من الصدق وعي الحقيقة الفطرية التوحيدية التي تختزنها عقولهم وقلوبهم.
أمَّا الآيات الأخيرة فإنها تتحدث عن الواقع الذي عاشه هؤلاء في التمرد على الفطرة والبعد عن إيحاءاتها انطلاقاً من الحواجز التي توجب قسوة القلب وتزيين العمل.
وهناك ملاحظةٌ أخرى، وهي أن الله يتحدث في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ما يعني أن الله يمنحهم الخير الكبير الواسع بعد نسيانهم له.
فكيف نفسر ذلك؟
ربما كانت القضية ابتلاءً آخر يختبرهم الله به ليرى هل يشكرون فيرجعون إليه أو يكفرون فيستمرون في ضلالهم. وربما كانت استدراجاً لامتحانهم في التجربة الجديدة التي يواجهونها بالرخاء بعد أن عاشوا وسقطوا أمام التجربة السابقة بالبلاء.
وقد جاء في الدر المنثور في حديث رسول الله(ص): «إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله(ص) {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية والآية التي بعدها[3].َ
وقد جاء في الحديث عن الإمام علي(ع) في نهج البلاغة: «يا بن آدم، إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره»[4].
وقد روي عن الإمام الحسن العسكري(ع) قال: إن قنبراً مولى أمير المؤمنين(ع) دخل على الحجّاج بن يوسف، فقال له: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ فقال: كنت أوضّيه، فقال له: ما يقول إذا فرغ من وضوئه، فقال: كان يتلو هذه الآية: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا؟ قال: نعم»[5].
* * *
وهكذا نجد في هذه الآيات إيقاظاً وتوعية وإيحاء لكل الكافرين والظالمين والمستكبرين أن لا يعتدّوا بما لديهم من المال والجاه والقوّة والسلطة والرزق والمتاع، فإنّ ذلك قد يكون نوعاً من البلاء الذي يستدرجهم الله من خلاله لينظر إليهم هل يرجعون إليه أو يستمرون في طغيانهم يعمهون، فليس لهم أن يطمئنوا إلى ذلك أو ينفتحوا عليه كما لو كان ذلك دليل خير وعلامة سعادة.
أما ختام الآيات بالحمد لله رب العالمين، فيمكن فهمه من خلال ما جاء به الحديث عن الإمام جعفر الصادق 5 يقول: «من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله، وإن الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[6].
ـــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:7، ص:90.
(2) مفردات الراغب، ص:58.
(3) الدر المنثور، ج:3، ص:270.
(4) نهج البلاغة، قصار الحكم/25.
(5) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1412هـ ـ 1992م، م:14، ج:42، ص:82، باب: 122، رواية:16.
(6) مجمع البيان، ج:4، ص:377.
تفسير القرآن