من الآية 46 الى الآية 47
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتــان
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ* قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}(46ـ47).
* * *
معاني المفردات
{نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}: ننوّع الأساليب، ونكثر الوجوه، لتكون أكثر إدراكاً، وأعمق تأثيراً، وأشد تصديقاً، والصرف ردّ الشيء من حالةٍ إلى حالةٍ ومن أمرٍ إلى أمر، وتصريف الرياح: هو صرفها من حال إلى حال.
{يَصْدِفُونَ}: يميلون عنه ويعرضون عن تأمل الآيات، يقال: صدف عن الشيء صدوفاً إذا مال عنه، والصدف والصَدَفة: الجانب والناحية، والصَدَف: كل بناء مرتفع، وفي الحديث: كان(ص) إذا مرّ بصدَف مائل أسرع المشي[1].
{بَغْتَةً}: فجأة.
{جَهْرَةً}: أي: علانية، قال في مجمع البيان: إنما قابل البغتة بالجهرة، لأن البغتة تتضمن معنى الخفية لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون، وقيل: البغتة أن يأتيهم ليلاً والجهرة أن يأتيهم نهاراً، عن الحسن[2].
* * *
مناسبة النزول
جاء في تفسير القمي في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} الآية. قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله(ص) إلى المدينة وأصاب أصحابه الجهد والملل والمرض، فشكوا ذلك إلى رسول الله(ص) فأنزل الله: {قُلْ} ـ لهم يا محمد ـ {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} أي لا يصيبكم إلا الجهد والضرّ في الدنيا، فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين. وقد علق في الميزان على هذه الرواية قائلاً: الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة، على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة والذي تمحّل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن[3]. أقول: وهذا صحيح، فإن دراسة السياق العام للآية لا يوحي بأن الخطاب للمسلمين، بل هو وارد في مخاطبة الكافرين، والله العالم.
* * *
النظر في آيات الله يقود إلى الإيمان
وَيفرض الإيمان نفسه من خلال علامات الاستفهام التي يثيرها أمام الإنسان، فمن ذا الذي يملك سمع الإنسان وبصره وقلبه، أليس هو الذي خلق له ذلك كله؟ فإذا أخذ الله سمع الإنسان فأصبح بلا سمع، أو أخذ بصره فأصبح بلا بصر، أو ختم على قلبه فعاد بلا وعي، فإلى أين يتجه ليؤمِّل أن يُرجع ذلك كله، ومن هو الذي يملك القدرة على ذلك، هل هناك إله غير الله؟!أويدعو الله الإنسان من خلال رسوله، إلى التأمُّل والنظر في الآيات التي ينوعها ويكثر وجوهها لتكون أكثر إدراكاً وأعمق تأثيراً وأشد تصديقاً، ولكن هؤلاء الكافرين والمرتابين يُعرضون عن ذلك كله، ثم ماذا هناك، هل يفكر هؤلاء بعذاب الله الذي يمكن أن يفاجهئم من دون انتظار، أو يواجههم علانيةً من خلال الأجواء المنظورة، فمن الذي سيواجه ذلك؟ هل هم المؤمنون، أو هم الظالمون؟ إنهم هم الذين سيهلكون بعذاب الله فماذا يفعلون؟
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} من خلال ما تعلمونه من قدرة الله عليكم وعلى الوجود كله، فلا يعجزه شيء من أوضاعكم كما لم يعجزه خلقكم في البداية، الأمر الذي يجعل القضية واضحة لديكم في مستوى العلم واليقين {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} ففقدتم النور الذي تبصرون به في عيونكم والقوة التي تسمعون بها في آذانكم، فصرتم صمّاً وعمياً؟
{وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} وذهب بعقولكم فلم يبق لكم عقل في مستوى الوعي للأشياء لتفكروا به وتتعرفوا من خلاله حقائق الأمور {مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللَّهِ} من هؤلاء الذين تعبدونهم من دونه، وتتخيلونهم في درجة الآلهة {يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي ما أخذ منكم من السمع والبصر والعقل فيردّها عليكم؟ إنكم تعلمون جيداً أنهم لا يملكون من ذلك ولا من غيره شيئاً، لأنهم يمثلون العجز كله حتى في رعاية أوضاعهم الخاصة {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَاتِ} في تنويع الأساليب والإيحاءات وتبيين الحقائق بالوسائل المتنوعة، من رفق وعنف وتذكير وإنذار بما يفتح للإنسان آفاق الفكرة ويربطه بحركيتها {ثُمَّ هُمْ} هؤلاء المعاندون الكافرون {يَصْدِفُونَ} أي يعرضون عن التأمل والتفكير في الرسالة ومضمونها الفكري والحركي غفلةً وتمرداً وضلالاً، لأن الإنسان الواعي لا بد من أن يتحرك بفكره نحو كل وسائل المعرفة التي تقدّم إليه.
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الذي ينزله الله بكم جزاءً لأعمالكم السيئة التي قدمتموها في ضلالكم وكفركم وانحرافكم؟ {بَغْتَةً} على سبيل المفاجأة السريعة {أَوْ جَهْرَةً} علانيةً في وضح النهار {هَلْ يُهْلَكُ} به {إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر فاستحقوا العذاب انطلاقاً من قيام الحجة عليهم من الله الذي أنذرهم وبشّرهم فأعرضوا عن ذلك كله. وتلك هي النتائج السيئة التي تصيبكم في مستقبل الدنيا والآخرة.
ـــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:378.
(2) م.ن.، ج:4، ص:379.
(3) تفسير الميزان، ج:7، ص:110.
تفسير القرآن