تفسير القرآن
الأنعام / الآية 50

 الآية 50
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـــة

{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}(50).

* * *

معاني المفردات

{خَزَآئِنُ اللَّهِ}: الخزن: حفظ الشيء في الخزانة، ثم يعبر به عن كل حفظ كحفظ السرّ ونحوه. والمراد به ـ هنا ـ قيل: مقدوراته التي منعها الناس لأن الخزن ضرب من المنع، وقيل: جوده الواسع وقدرته.

وقيل ـ كما في تفسير الميزان ـ هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شيء من غير أن ينفد بإعطاء وجود، أو يعجزه بذل وسماحة، وهذا مما يختص بالله سبحانه، وأما غيره، كائناً ما كان ومن كان، فهو محدود وما عنده مقدّر إذا بذل منه شيئاً نقص بمقدار ما بذل، وما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أيّ فقير، وإرضاء أيّ طالب، وإجابة أيّ سؤال.[1]

والظاهر أن المراد بها خزائن رحمته وقدرته وملكه وإرادته مما يعتبر بالكناية عن كل خصائص الألوهية في عطائها للخلق بما يملكه الله من القدرة المطلقة والإرادة المطلقة والملك المطلق في ما يصدر منه، ولعل هذا ما يريده المفسرون مع اختلاف التعبير.

{الْغَيْبَ}: كل غائب عن الحاسة وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب، والمراد هنا ـ كما يقول الراغب ـ ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدايةً العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء(ع)، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد[2].

والظاهر أن المراد به العلم بخفايا الأمور وقضايا المستقبل التي لا يملك الإنسان الوسائل إلى معرفتها مما يحتاج فيه إلى إعلام الله، ولا يشمل الأمور التي يمكن للناس أن يعرفوها بوسائلهم الخاصة مثل القضايا التاريخية التي هي في معرض العلم وإن لم يعلم بها الإنسان فعلاً، كما ورد في قوله تعالى، في قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:103] وقوله في قصة مريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] وقوله ـ بعد قصة نوح ـ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]. فإن هذا كان غيباً عن الرسول، لكنه «يدخل في مصطلح علم الغيب».

{مَلَكٌ}: قال الراغب ـ في المفردات ـ: وأما المَلَك، فالنحويون جعلوه من لفظ الملائكة، وجُعِل الميم فيه زائدة، وقال بعض المحقّقين: هو من المِلْك. قال: والمتولّي من الملائكة شيئاً من السياسات يقال له: مَلَك، بالفتح، ومن البشر يقال له: مَلِكٌ بالكسر، فكل مَلَك ملائكة، وليس كل ملائكةٌ ملكاً، بل المَلَك هو المشار إليه بقوله: {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}[النازعات:5] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات:4] ٌ{وَالنَّازِعَاتِ} [النازعات: 1] ونحو ذلك، ومنه مَلَك الموت، قال: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 17] {عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:102] {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}[السجدة:11][3].

والمراد به ـ هنا ـ هو المَلَك الذي يصدق على الملائكة، وهم المخلوقات الخفيّة السماوية التي تتمتع بقدرات ووظائف في الكون مما أوكل الله أمره إليهم، وهذا ما جعل العرب يفكرون بأنهم هم ـ أي الملائكة ـ الذين يستحقون اسم الرسول والنبيّ، لأن الرسولية والنبوة من المواقع المرتبطة بالله مما لا بد أن يكون الشخص المتّصف بها ممن يملك القدرات والقرب من الله كالملائكة لا ممّن لا يملك ذلك كالبشر.

* * *

النبي يؤكّد بشريته

{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ} وهذه هي الصورة المشرقة الواقعية للشخصية النبويّة التي يريد الله للنبيّ أن يقدِّم بها نفسه إلى الناس، فهو لا يريده كائناً غيبيّاً يبرز إليهم من خلال الجوّ الغيبي الضبابي الذي يوحي بكون ذاته سراً خفياً مقدساً بعيداً عن التصوّر البشريّ الطبيعي، ولا يريد له أن يبدو في نظرهم شخصيةً أسطوريةً تملك في حوزتها كل خزائن الله الذهبيّة والفضية ونحو ذلك مما يدخل في عالم التقييم المادي، بالمستوى الذي يستطيع فيه غرف ما يشاء من المال لمن يشاء من الناس، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ولا يريده إنساناً يقف بين الناس ليتحدث عن أسرارهم الكامنة في صدورهم وعمّا ينتظر كل واحد منهم من أحداث المستقبل، على أساس ما يحمله من علم الغيب الإلهيّ، كما هو دور النبي في تصوّر الكثيرين، الذين يربطونه بشخصية الكاهن الذي كان يمثّل بعضاً من ذلك..{وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ولا يريد له الشخصيّة الملائكيّة ليأخذ بألباب الناس فيدهش العقول بأجنحته المتنوّعة المتعدّدة، وقدرته الأسطوريّة الخارجة عن كلّ حدّ، لأنَّ الله يريد للناس أن يؤمنوا به من خلال رسالته بعيداً عن كل أشكال الضغط النفسي أو المادي، وعن كل ألوان الإغراء أو الاستعراض، الذي يوحي للإنسان بالانجذاب العاطفي، والانسحاق الشعوري، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} وهكذا أراده أن يقف بينهم عبداً خاشعاً بين يديه، لا يملك أيّة مقوّمات ذاتية كبيرة، أو أيّة قدراتٍ شخصيةٍ مطلقة، رسولاً أميناً على الدور الذي أوكله الله إليه، فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ ليتبعه ويبلّغه للناس، وربما كان الحديث عن الاتباع موحياً بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته، ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله والاستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثل حركة العبد ـ النبيّ، في شخصية العبد ـ المؤمن، وإذا كان التوجيه الإلهيّ يفرض على الرسول أن يقدم نفسه إلى الناس بهذه الصفة، فقد نجد فيه الدرس الفكري الذي يريدنا أن لا نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يحاول البعض أن يحيط بها شخصية النبيّ، للإيحاء بأنه يرتفع فوق مستوى البشر في إمكاناته الذاتية وقدراته الكبيرة، بل بصفته الرسالية من حيث أخلاقه وخطواته ومشاريعه المتصلة برسالته.

وذلك هو السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء والأولياء، بالأسلوب القريب إلى الوعي الإنساني العاديّ، في ما يمكن للإنسان أن يعيشه ويتصوّره ويتمثله في نفسه، ليشعر بأن النبي قريبٌ منه بصفاته البشريّة المثلى التي يمكن أن تكون أساساً للتمثُّل والاتّباع والاقتداء. وفي ضوء ذلك، نجد في الأبحاث السائرة في هذا الاتجاه انحرافاً عن الخط القرآني الذي يرسم للناس في دراستهم لشخصية النبي(ص).

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ} وهكذا وقف النبيّ ليقدّم نفسه للناس من خلال شخصيته الرساليّة، التي تسعى لفتح عيونهم على الحقيقة الإلهيّة في الفكر والعقيدة والتشريع، وليوحي إليهم بأن الذين لا ينفتحون على الإشراق المنبعث من داخلها، مثلهم كمثل الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} وليختم ذلك بالدعوة إلى التفكير الواعي العميق الذي يربطهم بالحقيقة من أقرب طريق.

* * *

النبوة وعلم الغيب

وهنا نقطة، وهي مسألة نفي النبي في حواره مع المشركين علمه بالغيب، فقد جاء في الميزان، قال: المراد بنفي علم الغيب، نفي أن يكون مجهّزاً في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنةً ما كانت[4]. وهذا هو التصور القرآني الصحيح الذي يؤكد نفي الفعلية لعلم الغيب من الناحية الوجودية، بمعنى أن يكون مجهّزاً في تكوينه البشري بالقدرة الخاصة لعلم الغيب بحيث يتحرك نحوه ـ في فعليته ـ بشكل طبيعي، بل المسألة هي أن الله قد يطلعه على بعض غيبه مما يحتاجه في نبوته من أمور المستقبل ومن خفايا الأمور، كما في قصة عيسى(ع): {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] ونحو ذلك، ولعل هذا هو الذي أشار إليه أمير المؤمنين علي(ع) في إخباره بالمغيبات عن سؤاله «هل هذا علم بالغيب؟» ـ في تصورهم للمعنى الذاتي للعلم من خلال القدرات الخاصة التي يملكها في ذلك ـ فأجاب: «وإنما هو تعلُّم من ذي علم»[5]. وهذا هو الذي عبر عنه بعض المفسرين «هو علم الغيب بالعرض»، أي تعلم من عالم الغيب.

وخلاصة الفكرة: هي أن الله كان يطلع رسله بطريقة التعليمات التدريجية المحدودة على الغيب، كما في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن:26] ولم يكن علم الغيب منطلقاً من قدرة تتحرك بالفعلية ليعلم بالغيب كل ما أراد من خلالها، بحيث إن الله أعطاه ذلك من خلال القاعدة المنتجة للعلم في نفسه. والله العالم.

ـــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:7، ص:97.

(2) مفردات الراغب، ص:381.

(3) م.س.، ص:493 ـ 494.

(4) تفسير الميزان، ج:7، ص:97.

(5) نهج البلاغة، الخطبة/128.