من الآية 51 الى الآية 55
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَايَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاَْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (51ـ55).
* * *
معاني المفردات
{بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}: الغداة والغدوة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشيّ: من المغرب إلى العشاء.
{فَتَنَّا}: ابتلينا وامتحنّا واختبرنا من خلال التفاوت والاختلاف في الطاقات والإمكانيات، وقد مرّ معنى الفتنة سابقاً.
{سَلامٌ}: جاء في مجمع البيان: "قال المبرّد: السلام في اللغة أربعة أشياء: مصدر سلّمت سلاماً، وجمع سلامة، واسمٌ من أسماء الله عز وجل، وشجر في قوله" «لا سلام وحرمل". ومعنى السلام الذي هو مصدر أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات، والسلام اسم الله تأويله ذو السلام، أي الذي يملك السلام الذي هو التخلص من المكروه، وأما السلام الشجر فهو شجر قوي سمّي بذلك لسلامته من الافات، والسلام الحجارة، سمّي بذلك لسلامتها من الرخاوة، والصلح يسمى السلام والسلم لأن معناه السلامة من الشرّ، والسلم: الدلو التي لها عروة واحدة لأنها أسلم الدلاء من الآفات"[1].
{بِجَهَالَةٍ}: الجهالة: السفه.
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }: حتى تتضح وتظهر وتنكشف بصورة بيّنةٍ، يقال: استبان الشيء إذا وضح وظهر، والبين: هو الكشف عن الشيء.
{الْمُجْرِمِينَ}: أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجر، ورجل جارم، وقوم جرام، وثمر جريم، والجرامة: رديء الثمر المجروم، وأجرم صار ذا جرم، واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، وبهذا أطلقت كلمة المجرم والمجرمين على الذين يقومون بالجريمة، وهي العمل السيىء أو الشرير الذي يقوم به الإنسان أو الناس من قتلٍ أو جرحٍ أو خيانةٍ أو سرقةٍ أو نحو ذلك مما لا يملك الإنسان الحق فيه.
* * *
مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور، أخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على النبي(ص) وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك منّ الله عليهم من بيننا؟ أونحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}[2] الخ.
وجاء في رواية أخرى في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجة، وأبو يعلى، وأبو نعيم في الحلية، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن خباب، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبي(ص) قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به، فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبرئيل بهذه الآية {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ـ إلى قوله ـ {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ} فألقى رسول الله الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] الآية. قال: فكان رسول الله(ص) يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، تركناه حتى يقوم[3].
* * *
تعليق السيد الطباطبائي على الروايات
قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ـ تعليقاً على أمثال هذه الروايات ـ: «الرجوع إلى ما تقدّم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة، ثم التأمّل في سياق الآيات، لا يبقي ريباً أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقاً بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي(ص)، فعدّوا القصة سبباً لنزول الآية، لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها ودفعةً لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة، كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قِبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها، كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية، فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة، فكأنهم جاءوا إلى النبي(ص) واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّةً بعد كرّةٍ وعنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين، وفي مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.
وعلى هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث الواقعة في زمنه(ص) مما لها مناسبة مـا مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلاً نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث والتوسّع البالغ في كيفية النقل، أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسباباً منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعةً على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه(ص)، ولا سيّما بالنظر إلى شيوع الوضع والدسّ في هذه الروايات والضعف الذي فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها.
وقد روى في الدر المنثور عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي(ص) الضعفاء من أصحاب الصفّة عن نفسه في نظير من القصة، ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعةً وفي مكة قبل الهجرة[4].
* * *
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
وهذا هو المجتمع الذي يريد الله لرسوله أن يدخل عليه بالدعوة إليه، وليس المجتمعات الغنيّة اللاهية المستكبرة التي أغلقت قلوبها عن كل النداءات التي تُرهِقُ الإحساس، وتحرّك الشعور، وتقود الإنسان إلى خط المسؤولية النابضة بحركة الحياة المسؤولة، والتي ابتعدت عن كل الأجواء الروحية التي تدفع الخطوات في طريق السلام الأمين.. فإن هذه المجتمعات لا تمثل في حساب الدعوة القيمة الكبيرة، في ما يتداوله الناس من حسابات القيم، لأن الإسلام لا يعطي القيمة للجهات المنتفخة بالكبرياء والخيلاء، بل يعطيها لتلك الجهات الجدّية المنفتحة على المستقبل في قلق الإنسان أمام قضيّة المصير، لذا رأينا الله يوجّه رسوله ـ وكل داعيةٍ يسير في خطّ الرسالة ـ إلى أن ينظر الى النّاس من خلال ما يحملونه في داخلهم من الخوف على المصير، فمن كان سائراً في أجواء اللاّمبالاة أمام ذلك، فلا مجال للحديث معه إلا لإقامة الحجة عليه، أو إخراجه من هذا الجوّ اللامسؤول، فلا يتوقف الداعية أمامه طويلاً، لأنَّ في ذلك تضييعاً للجهد بلا فائدةٍ، فقد أغلق هذا الإنسان قلبه عن كل شيء.
أما الذين يعيشون إشراقة الخوف من الله، عندما يذكر أمامهم اسمه، أو تخطر في أفكارهم فكرة الوقوف بين يديه، ويتصورون خطورة الموقف الذي يشعرون معه بالوحدة الموحشة التي لا يملكون معها وليّاً ولا شفيعاً من دون الله.. فلا بدَّ للرسول وللداعية من أن يشعر بأن أمثال هؤلاء هم الذين تتحرك الدعوة في حياتهم، لأن الخوف من الله، يربطهم بالكلمات المنطلقة من وحيه في عمليّة تأمّلٍ وتدبّرٍ وتفكير ويدفعهم ذلك إلى القناعة والالتزام الدقيق بالخط العملي للفكر الإسلاميّ العميق.
ومن هم هؤلاء؟ إنهم الفقراء الطيبون، الذين لم يرهقهم ترف الغنى بمغرياته وانفعالاته، ولم يحجب قلوبهم عن البساطة الطاهرة التي تلتقي بالحقيقة والعفويّة والطهر، هؤلاء الذين لا يشعرون بأن الرسالة تُفقِدُهم الامتيازات التي يملكونها كما يتصور الأغنياء المترفون، بل يحسّون بأنَّها تمنحهم فُرَصاً لم تكن لهم وتفتح لهم أبواباً كانت مغلقةً عليهم، وتوحي لهم بالمعاني الجديدة لإنسانيتهم، وبالآفاق الرحبة لوجودهم. وبذلك تبرز الرسالة في وعيهم، كمنطلقٍ للإشراق الروحي والإنساني في ما يشبه الحلم الوردي الجميل.
وهذا ما يفسّر أن جنود الرسالات في بدايات الدعوة هم الفقراء والبسطاء في الأغلب، لأنهم يفهمونها جيّداً من خلال ارتباطها بالجانب الإنساني والروحي للحياة. أمّا الآخرون من الأغنياء والمستكبرين، فإنهم يقفون في خطّ المواجهة المضادّ الذي يشعر بالرسالة كما لو كانت الخطر الزاحف على كل وجودهم بالموت.
* * *
وأنـذر بـه المؤمنـين
{وَأَنذِرْ بِهِ} أي بالقرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} ممن يعيشون قلق المصير في الدار الآخرة أمام الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة وعن أحواله وعذاباته من خطوط وأعمال، فهؤلاء هم الذين انفتحت قلوبهم للتقوى، وتحركت مواقفهم للطاعة.
وليس المراد اختصاص الإنذار بهؤلاء، فلا إنذار للذين أغلقت عقولهم عن التفكير بنتائج المسؤولية السلبية والإيجابية، وختم الله على قلوبهم، بل فإن الإنذار عام للجميع، ولكن المراد ـ والله العالم ـ أن حركة الإنذار في الوعي والالتزام تنطلق من الجدّية في قلق المعرفة الذي يجعل الإنسان يلاحق علامات الاستفهام في وجدانه، ليبحث ـ من خلالها ـ عن جواب، ويتابع القضايا المثارة في الآيات، ليتدبرها في طريق الوصول إلى الحقيقة، أما الذي لا يفكر في الأمور بطريقة مسؤولة، فإنه لا يستمع إلى الإنذار استماع وعيٍ وفهمٍ وتدبر لأنه يتحرك في الحياة في الخط اللاهي العابث، ويرى في حركة الانتماء إلى هذا الاتجاه أو ذاك لعباً وعبثاً ومضيعة للوقت.
وفي ضوء هذا، فإن التخصيص بهؤلاء وارد في مقام بيان واقعية الإنذار المؤثر بالنفس. فلا يبقى هناك مجال للجدل الدائر بين المفسرين، بين قائل إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر وأنهم هم الذين عُنوا في الآية التالية بقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}. وقائل: إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت، وإن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهةً إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق، وقائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، وإنما حُصر هؤلاء المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجبت عليهم الاعتراف بالمعاد.
إن ملاحظتنا في هذا المجال، هي أن الآية تؤكد على الاهتمام بهؤلاء الناس الذي يعيشون همَّ الحشر إلى ربهم، فيدفعهم ذلك إلى الاستماع بوعي والتفكير بمسؤولية، فيهتدون بما يسمعونه من الآيات، وليست في وارد الحديث عن الأفكار المسبقة التي يحملها المنذرون في الإيمان بيوم الحشر أو غيره.
إنها إشارةٌ إلى الإنذار الجديّ المتحرّك في الواقع المشمول بالدعوة في مقابل الذين يعيشون الحياة استرخاءً وضياعاً وترفاً وغفلةً عن مستقبل الدنيا والآخرة، من هؤلاء الذين قد يفكرون بأن على النبي أن يطرد المؤمنين الذين لا يصنّفون من الدرجة العليا في السلّم الطبقي، {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ} لأن الله هو ـ وحده ـ الولي للخلق كلهم، وهذا ما يؤمن به أمثال هؤلاء، {وَلاَ شَفِيعٌ} يملك الضغط على إرادة الله بحيث يمكن لهم اللجوء إليه للحصول على الأمن من خلاله، لأن الشفعاء الذين ثبتت لهم الشفاعة لا يملكون الشفاعة بعيداً عن إرادته وإذنه، لأن الشفاعة لا تنفع إلا بإذنه: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فلا استقلال لهم بالشفاعة كما يحدث في الدنيا لتتحرك من ذات الشفيع في الاستفادة من خطوته الضاغطة على صاحب الحق، بل تتحرك من المنهج الذي وصفه الله لهم في برنامج الشفاعة، وليس معناها أن تكون صورية تمثيلية، بل إن الله يكرمهم بها فيشفعهم بمن يريدون الشفاعة له طبقاً للبرنامج الذي يعرفونه في الأشخاص الذين يشفعون لهم بحيث يعرفون أن الله يرتضي ذلك لهم{لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
وهذا ما جعل الآية الثانية تحذّر الرسول بشكل حاسم، من الاستجابة لبعض الكلمات التي يحاول هؤلاء المستكبرون من خلالها إبعاد الفقراء عن أجواء الرسول، ليخلو لهم الموقف، وليمارسوا معه أساليب اللف والدوران، وليغرقوا حياته بالعبث واللغو والضوضاء، في ما اعتادوه من أحاديث وممارساتٍ، وليثيروا أمامه المشاكل التي تثقل تفكيره، وتُرهق مسيرته.. وتوحي له باليأس والإرهاق الشديد.
* * *
الخاضعون لإرادة الله هم حملة الرسالة
ومهما كانت القصة، فإن الذي يهمنا ـ في هذا المجال ـ هو مواجهة المسألة من ناحية المبدأ، فإن الله يريد الإيحاء للنبيّ(ص) وللدعاة من بعده، بأن هؤلاء الذين يعيشون الإيمان في خشوع الروح، وخضوع الإرادة لله، فيدعون ربهم بالغداة والعشي، يريدون وجهه، ولا يريدون غيره، ابتهالاً وإخلاصاً ويقيناً.. هم القريبون إلى الله بالفكر والروح والعمل، لأنهم الذين استجابوا له ولرسوله، فكيف يمكن أن يبعدهم الرسول عنه، وما هو المبرّر له في ذلك كله؟ وهل كان النبيّ يفكر لرسالته بالمستوى الطبقي الذي يعيشه الناس من حوله؟ وهل كانت الرسالة إلاّ لتغيير مثل هذا الواقع الذي يعيش فيه الناس المستضعفون اضطهاد الناس المستكبرين في ما يعيشونه من نزعة العلوّ والاستكبار؟ وماذا بعد ذلك؟ إنّ طردهم من حوله يعني النظرة السلبيّة لحركة الإيمان عندهم في إخلاص العبادة لله، وهذا مما لا يمكن أن يقرّه الإسلام من مؤمن، فكيف يقرّه من الرسول؟
وقد أراد الله تأكيد المبدأ، بالتركيز على أن كل إنسان يتحمل مسؤولية عمله، فيحاسب عليه، أمام الله، فسلطة حساب الناس منوطة بالله فقط ،إلاّ بحدود ما يتعلق بالمسؤولية العامة، الأمر الذي يفقد معه أي إنسان مبرر محاسبة غيره، وبذلك لا يملك الرسول ولا الداعية أن يقوم بأيّ تصرفٍ سلبيٍّ ضد أولئك المستضعفين فيطردهم من حوله، لأن الله يريده أن يحيطهم بالعناية والرعاية، انسجاماً مع الأجواء الروحية البعيدة عن التكلّف والامتيازات الطبقية، التي يريد الله للحياة الإسلامية أن تعيشها فيها.. فإذا انحرفت الخطى عن ذلك وابتعدت الممارسات عن هذا الخط، فإن الجو سيكون جوّ ظلم يطبع الحياة بالعدوان، وهذا ما لا يريده الله للنبي والذين آمنوا، في ما أوكله إليهم من مهمة وفي ما حمَّلهم إياه من رسالة.
{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إيماناً به، وانفتاحاً عليه، والتزاماً بطاعته، وحركة في سبيل الحصول على رضاه في مواقع القرب منه من خلال حالة الخشوع الروحي الذي امتلأت به عقولهم والخضوع الإرادي الذي عاشت له أرواحهم، فهم لا يفكرون بالموقع الاجتماعي، ولا بالربح المادي، ولا بالشهوة الجامحة، ولكنهم يتحركون في حياتهم على مستوى مواقعهم ومواقفهم وأوضاعهم للوصول إلى الله.
{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فهم يريدونه في معنى ذاته في سرّ الألوهية فيها، وهذا ما يوحي به التعبير عن الذات بالوجه، لأنها مظهر الذات في المعنى المادي للصورة، وعلى هذا، جاء قوله تعالى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] أو {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]س.
وقد ذكر صاحب الميزان أن المراد بالوجه هنا «الناحية، أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجهاً، فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحدّ الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به، وبهذه الغاية تصير الأعمال الصالحة وجهاً لله تعالى، كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان، وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38] وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9]، وغير ذلك، وكذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة والخلق والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية، بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعاً من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة، كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها ويتوجه إليه من جهتها، كما يشعر به بعض الإشعار أو الدلالة قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذو الجلال والإكرام} [الرحمن:27] فإن ظاهر الآية أن قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} نعت للوجه دون الرب[5].
ونلاحظ على ذلك، أن ما ذكره لا يخلو من التكلّف في حمل الكلمة على هذا المعنى، لأن الآيات التي وردت فيها الكلمة ذات مضمون واحد من حيث التعبير عن الله، ففي قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمان:26ـ27] يراد بالوجه الذات لبيان الحقيقة الوجودية، وهو فناء الخلق كله إلا الله في ذاته فهو الباقي، لا ناحيته وصفاته ونحو ذلك. وهكذا قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فإن الظاهر من الآية الأولى أنك ستجد الله في أي موقع وجدت فيه، لأن الله لا يحدّه مكان، وكذا في الآية الثانية، فإن الظاهر منها أن هؤلاء الناس الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدونه هو لا غيره، بمعنى أنهم يتوجهون إلى ذاته المقدسة في مقابل التوجه إلى غيره، وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9] فإن الظاهر منها أن الإطعام لله هو للحصول على القرب منه لا لحساب غيره أو لطمع معين. والله العالم.
* * *
ما عليك من حسابهم من شيء
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ} فليست لك علاقة بهم في واقع المسؤولية العملية في ما خصّ علاقتهم بالله، فلست أنت الذي تحاسبهم على أعمالهم، كما أنهم ليسوا مسؤولين عن أعمالك ولا يحاسبون عليها، فهم أشخاص مستقلّون في وجودهم وفي مسؤوليتهم، فالله هو الذي يملك الحساب كله، ودورك معهم دور الرسول المبلغ للرسالة، وتنتهي مهمتك الرسالية عند هذا الحد، ليواجهوا استقلالهم وحريتهم في مسؤولياتهم العملية، ولذلك فلا سلطة لهم عليك من خلال ذلك {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} لأن الطرد يملكه الذي يملك السيطرة على الناس، وإذا كان الله جعل لك الولاية على الناس في مواقع نبوتك وحاكميتك، فلم يجعلها الله لك لطرد المؤمنين عن مجلسك، فإن هذا لا يتناسب مع موقعك الرسالي، ولا يتناسب مع قربهم من الله ومحبته لهم {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
ثم تتتابع الآيات لتحدثنا عن وجود شيء من هذا القبيل في نظرة المستكبرين إلى المؤمنين المستضعفين، حيث يتطلّعون إليهم من فوق ليتساءلوا بازدراءٍ وتهكّم: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} في عملية اختبار وامتحان لإظهار ما في أعماقهم من مشاعر الكبرياء وأفكار الشرّ في النظرة السلبية للمستضعفين المؤمنين، {لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} ماذا يمثّلون من قيمةٍ ومنزلةٍ وجاهٍ ليكونوا موضع اختيار الله ورعايته لهم.. فكأنّهم يفرضون على الله طريقتهم في التقييم، وأُسلوبهم في تقدير الأشياء، لأنهم لا يفهمون للقضايا مقياساً غير ما يحملونه من مقاييس، فلا يمكن للفقير أو للضعيف أن يحصل على أيّة امتيازات إلهيّة إلا من خلال ما يمنحهم البشر من امتيازات.
ولكنَّ الله ينكر عليهم ذلك ليتساءل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فلِلّه مقاييسه الدقيقة للأشياء، التي لا تدخل في حسابات الحجم الجسدي أو المادي أو المعنوي، في ما تعنيه معنويات الدنيا.. وتلك هي موازين الطاعة لله في ما أمر به أو نهى عنه، والشكر له في ما أنعم وأعطى.. فمن أخذ بها كان قريباً إليه وإن ابتعدت به الدنيا عن زخارفها وأمورها، ومن أعرض عنها كان بعيداً عنه، وإن أحاطت به الشهوات والأطماع من كل جانب ومكان.. وليس هناك من يعرف الناس، كما يعرفهم الله، فهو الذي خلقهم وأحاط بسرّهم وعلانيتهم، وهو الذي يعرف من يشكر النعمة فيستحق المغفرة والرضوان، ومن يكفر بالنعمة فيستحق العقاب والخذلان. فكيف تتدخَّلون في الحكم على ما لم تحيطوا بعلمه، لتميّزوا بين من ينبغي لله أن يمنَّ عليه وبين من لا ينبغي له أن يمنحه المنّ والرحمة... لتنكروا هنا، ولتستجيبوا هناك؟! ويتركهم الله في ضلالتهم، ويلتفت إلى نبيّه، فيوحي إليه بالعمل على تكريمهم وإحاطتهم بكل ألوان الرعاية والمحبة والرحمة.
* * *
كتب ربكم على نفسه الرحمة
{وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَايَاتِنَا} ممن استجابوا لدعوة الله في رسالتك واتبعوك، فبادلهم حباً بحب، واحتراماً باحترام {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في تحية إسلامية مليئة بالحنان والمحبة والقرب والاحتضان الروحي والإيحاء بمعنى السلام الذي يعيشه المؤمن في علاقته بالمؤمن ونظرته إليه، ليشعروا بالأمن معك، على كرامتهم وعلى أنفسهم، فلا تستسلم للوضع الطبقي الذي يحتقر أمثالهم لتطردهم وتستهين بهم لتحترم المستكبرين، وحدثهم عن الله سبحانه وعن رحمته بعباده المؤمنين، فقد {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في هدايته وعفوه ومغفرته.
{أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} فعصى ربه وخالف أمره ونهيه {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} من دون وعي لما ينبغي له أن يفعله مما يتناسب مع موقعه العبودي أمام ربه {وَأَصْلَحَ} وانتبه للواقع السيّىء الذي وضع نفسه فيه، واستيقظت الندامة في عقله وروحه، فقرر أن يغيّر موقفه من السلب إلى الإيجاب في علاقته بالله، فتاب وأصلح عمله، فانطلق إلى مواقع طاعة الله ورضاه ليصلح أمره في عمله وعلاقته بربه {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر الذنب برحمته فلا يبقى للذنب أثر في حياته.
وهكذا يوحي الله بالسلوك العملي الملائم لما يريده ويرضاه، فإذا جاء هؤلاء المؤمنون بدين الله وآياته إلى مجتمع المسلمين، فيجب أن يتلقاهم الرسول والمؤمنون من الدعاة إلى الله بكل رحابة صدر وسعة قلب ويبادروهم بالسلام الذي يردّونه عليهم أو يبدأونه معهم، وليبعثوا في داخلهم الطمأنينة، وذلك بالتحدث إليهم عن رحمة الله التي كتبها على نفسه لعباده المؤمنين الخاطئين، فمن عمل منهم سوءاً بجهالة، ثم انتبه إلى نفسه، وتاب منه وأصلح طريقه، فإن الله ـ سبحانه ـ يتوب عليه ويغفر له ذنبه برحمته لأنه الغفور الرحيم.
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاَْيَاتِ} وننوّعها في أغراضها المتعددة ومضامينها المنوعة وهكذا يفصِّل الله آياته للناس، فلا يترك أمراً مما يحتاجونه من أمور هدايتهم وضلالهم ومعاشهم ومعادهم، إلاّ وفصّله لهم، ليهتدوا به ويتضح لهم سبيل الحق، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} فلا يبقى هناك عذر لمعتذر من أيّ شبهة أو شكٍّ أو حالة غموض، وهكذا تقوم الحجة على الناس ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيا من حيي عن بيّنة.
ــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:384.
(2) الدر المنثور، ج:3، ص:272.
(3) الدر المنثور، ج:3، ص:273.
(4) تفسير الميزان، ج:7، ص:112 ـ 113. وقد وردت الرواية الأخيرة في: الدر المنثور، ج:3، ص:274.
(5) تفسير الميزان، ج:7، ص:103.
تفسير القرآن