من الآية 56 الى الآية 67
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ* قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ* وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالليْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَي أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ* قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ* قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ* لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}(56ـ67).
* * *
معاني المفردات
{بَيِّنَةٍ}: البيّنة: الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو حسية. وقد سميت البينة بينة لأن الحق يبين بها عن الباطل فيتضح، ويسهل الوقوف عليه من غير تعب.
{يَقُصُّ}: القصّ: تتبع الأثر، يقال: قصصت أثره، والقصص: الأثر، ومنه قيل لما يبقى من الكلأ فيُتتبَّع أثرُه قصيصٌ، والقصص: الأخبار المتتبعة، والقِصاص: تتبُّع الدم بالقَوَد[1].
{مَفَاتِحُ}: جمع مفتح، فالمفتح ـ بالكسر ـ المفتاح الذي يفتح به، والمفتح ـ بفتح الميم ـ الخزانة، وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح، كما في قوله: {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنوء بِالْعُصْبَةِ} [القصص:76] يعني خزائنه.
والمعنى ـ على كلا الاحتمالين ـ هو: استئثاره تعالى بعلم الغيب وانحصاره فيه، لأن مفاتح الغيب أو خزائن الغيب لا يعلمها غيره.
{يَتَوَفَّاكُم}: ينيمكم، لما في النوم من انقطاع يصرف النفس عن البدن، فيزول الحس والشعور والتمييز. والتوفّي: أخذ الشيء بتمامه، ويستعمل في القرآن بمعنى أخذ الروح في حال الموت: {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61] وبمعنى الإنامة، ولهذا فمن الخطأ أن يقال: إن الوفاة والموت مترادفان.
{جَرَحْتُم} الجرح: العمل بالجارحة، والاجتراح: الاكتساب، وهو ـ كما قيل ـ: خاص باكتساب الإثم والذنوب.
{يُفَرِّطُونَ}: لا يغفلون، ولا يتوانون.
{ظُلُمَاتِ}: المراد من الظلمات هنا: الشدائد والأهوال عن ابن عباس. قال الزجّاج: العرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدّة يوم مظلم، حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل... وقال غيره: أراد ظلمة الليل وظلمة الغيم وظلمة التيه والحيرة في البر والبحر، فجمع لفظه ليدل على معنى الجمع[2].
{تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}: إعلاناً وإسراراً، والتضرع: إظهار الضراعة، وهي الذل والخضوع والاستكانة. والخفية: هي الخفاء والاستتار.
{كَرْبٍ}: الكرب: الحزن يأخذ بالنفس. قال الراغب: وقد يوصف الغمُّ بأنه عقدة على القلب[3].
{يَلْبِسَكُمْ}: يخلطكم ويضرب بعضكم ببعض جرّاء التحزّبات النابعة من أهواء وعداوات. يقال: لبست عليهم الأمر ألبسه: إذا لم أبيّنه وخلطت بعضه ببعض، واللبس: اختلاط الأمر واختلاط الكلام، ولابست الأمر: خالطته[4]. ويبدو أن اللبس: فيه معنى التعمية التي تسبب اختلاط الأمور واضطراب الناس واختلافهم.
{شِيَعاً}: قوًى مختلفة الأهواء، لا يجمعهم أمر واحد وقضية واحدة وولاء واحد بل أمور متباينة، وقضايا متضاربة وولاءات متعاكسة.
والتشيّع: هو الاتباع على وجه التدين، والولاء للمتبوع، والشيعة صارت في العرف اسماً لمتّبعي أمير المؤمنين على(ع) على سبيل الاعتقاد لإمامته بعد النبي(ص) بلا فصل من الإمامية والزيدية وغيرهم، ولا يقع إطلاق هذه اللفظة على غيرهم من المتبعين، سواء كان متبوعهم محقاً أو مبطلاً، إلا أن يسقط عنه لام التعريف ويضاف بلفظ من للتبعيض، فيقال: هؤلاء شيعة بني العباس أو شيعة بني فلان، كذا جاء في مجمع البيان[5]. وقال صاحب المنار: لمادة شيع ثلاثة معان أصيلة في اللغة، أحدها: الانتشار والتفرق، ومنه: شاع وأشاع الخبر. وثانيها: الاتباع والدعوة إليه. وثالثها: التقوية والتهيج.
وكل هذه المعاني ظاهرة في الشيع والأحزاب المتفرقة بالخلافة.
{يَبْعَثَ}: يرسل ويوجه، وأصله من إثارة الشيء وتوجيهه. قال صاحب الميزان: في لفظه شيء من الإقامة والإنهاض[6].
{بَأْسَ}: البأس: الشدة والمكروه، ويطلق على الحرب.
{يَفْقَهُونَ}: الفقه ـ كما قال الراغب ـ هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم[7].
{مُّسْتَقَرٌّ}: المستقر: مكان استقرار الشيء أو زمانه.
* * *
مناسبة النزول
قال الكليني: نزلت في النضر بن الحارث ورؤساء قريش، كانوا يقولون: يا محمد، ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم، فنزلت هذه الآية: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}[8].
وهناك عدة ملاحظات في بعض المفردات الواردة في هذه الآيات.
* * *
إن الحكم إلاّ لله
1 ـ وردت كلمة «الحكم لله» في نطاق الردّ على الكافرين الذين يستعجلون العذاب لينزله الرسول عليهم بأسلوب التحدي، فكان الجواب: إن الحكم في القضايا الكونية مما ينزل من العذاب أو من الخير لله، لأنه هو الذي يملك الكون كله والإنسان كله، فليس لأحد ـ حتى الرسول ـ أن يتصرف في أيّ شأن من شؤونه إلا بإذن الله، بما يمنحه من القدرة المحدودة هنا أو هناك، أو بما يجريه على يديه من كرامات ومعجزات تبعاً لحاجة الرسالة إلى ذلك في رد التحدي أو إثبات نبوة النبي.
وربما التقت هذه الكلمة بكلمة {بِإِذْنِ اللَّهِ} [ال عمران: 49] التي وردت في كلام عيسى المسيح(ع) في حديث عن قدرته على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقد ربط ذلك بإذن الله للإيحاء بأنه لا يملك هذه القدرة في ذاته من خلال الإمكانات الطبيعية المودعة فيه، بل إن الله هو الذي يجري ذلك على يديه، ليكون نفخه في الطين سبباً للحياة في قبضة الطين، وليكون لمسه للميت سبباً في عودته للحياة، ومسّه للأبرص وللأكمه وسيلة للشفاء... فالله هو الذي يخلق الطير ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، ولكنه يجري ذلك على يد عيسى، فيجعل لحركته شيئاً من حيوية الحياة والشفاء.
وربما تتحرك كلمة «إذن الله» لتوحي بأن الله يأذن للأشياء التي يستعملها النبي في إظهار المعجزة لتنتهي بالمسألة إلى ما يريده الله، ليبدو للناظر كما لو كان النبي هو الذي يفعل ذلك.
ولا بد من الإشارة هنا إلى سوء استغلال الخوارج لفهمهم المغلوط لقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} حيث اتخذوها ذريعة لاتهام أمير المؤمنين(ع) بالانحراف عن خط الله بما يقترب أو يلامس التكفير من خلال قبوله التحكيم في النزاع بينه وبين معاوية في واقعة صفين، لأنه لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله لأن الحكم لله، فهو وحده الذي يحكم لا الناس.
ولم ينتبهوا إلى أن نسبة الحكم لله على نحو الاختصاص يعني ـ في مضمونه الفكري ـ أن الله هو وحده المشرّع الذي يشرّع الأحكام ويقنّن القوانين وليس لغيره الحق في ذلك كله.
أما مسألة التحكيم بين الناس في ما اختلفوا فيه من خلال اكتشاف الأمور المتنازع عليها لمعرفة الحق من الباطل في هذا أو ذاك، وإيكال الأمر للحكمين ليحكما في هذا الموضوع أو ذاك حسب رؤيتهما للواقع وفهمهما له، فلا علاقة لها بتحكيم الرجال في دين الله، لأنهما ليسا حَكَمين في حكم الله بل في موضوع الحكم.
وإذا كان هناك نقد منهم لشخصية الحَكَمين، وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، فإن الإمام عليّاً(ع) كان أوّل المعترضين عليهما، وقيل: إنه كان قد أراد أن يقيم عبد الله بن عباس ـ القوي الحجّة ـ من قبله، ولكن الضغوط القاسية التي ضغطت عليه جعلت الأمر يدور بين القبول بذلك، أو الفتنة التي قد تأكل الأخضر واليابس وتدمّر كل الواقع الذي يعيش حول أمير المؤمنين(ع) مما قد تكون المصلحة الأهم في الأمر هو القبول تفادياً للفتنة الكبرى.
قال الإمام علي(ع) في التعليق على قضية التحكيم: "إنا لم نحكِّم الرجال، وإنما حكّمنا القرآن. هذا القرآن إنما هو خطٌّ مستور بين الدفّتين، لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال. ولما دعانا القوم إلى أن نحكِّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حُكِم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به، وإن حُكِم بسنّة رسول الله(ص)، فنحن أحق الناس به وأولاهم بها.
وأما قولكم: لِمَ جعلت بينك وبينهم أجلاً في التحكيم؟ فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل، ويتثبّت العالم، ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة ولا تؤخذ بأكظامها[9] فتعجل عن تبين الحق، وتنقاد لأول الغيّ[10].
وقد ناقش الفكرة في مجال آخر على أساس مستوى الشعار في حركة المضمون الحق في اتجاه الباطل، قال(ع) في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حكم إلاّ الله» كلمة حق يراد بها باطل. نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أميرٍ بَرٍّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمَع به الفيء، ويقاتَل به العدو، وتأمن به السُّبل، ويؤخذ به للضعيف من القويّ، حتى يستريح برّ، ويستراح من فاجر".
وفي روايةٍ أخرى أنه(ع) لما سمع تحكيمهم قال: حُكم الله أنتظر فيكم.
وقال: "أما الإمرة البرّة فيعمل فيها التقيُّ، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقيّ، إلى أن تنقطع مدته، وتدركه منيّته"[11].
وهكذا نرى أنه يتحدث عن الشعار الصحيح الذي تلتقي فيه النظرية بالتطبيق، فالله ـ وحده ـ هو الحاكم الذي يرجع الجميع إليه في تشريعه، فلا حكم لغيره ولا حاكم غيره، ولكن مسألة الإمرة التي تمثل القوة التنفيذية لإدارة شؤون الحياة والناس، هي مسألة لا بد من أن تتصل بالإنسان في حركة الإدارة والإمرة في حياة الناس من خلاله، بما يملكه من وعي الواقع واستقامة السلوك والخبرة في إدارة الأمور.
ولكن يبقى العنوان الكبير «كلمة حق يراد بها باطل» يفرض نفسه على واقع كل الذين يحركون الشعارات الدينية والسياسية ليجتذبوا الناس إلى ما يريدون تحقيقه من أغراض سيئة بهدف الإثارة الشعبية غير المسؤولة، كما نلاحظه في كل زمانٍ ومكان في حركة الصراع بين الحق والباطل، حيث نرى أهل الباطل يستخدمون كلمات الحق التي يتجمع الناس حولها وينفتحون عليها من أجل الوصول بهم إلى ما يريدونه من الغايات الشريرة التي تقف في نهاية الطريق من حيث لا يشعرون ولا يعلمون.
* * *
الله عالم بالكليات والجزئيات
2 ـ قال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} إلخ... إن هذه الآية تصور الله عالم الغيب في كل خزائنه بما تحتويه من أسرار الغيب الإلهي الذي لا يملكه إلا هو، وفي كل مفاتيحه التي تفتح كل المفردات الغيبية على نحو الكناية، لأن من ملك مفتاح الشيء ملك الشيء من خلال قدرته على الدخول إليه والاستفادة مما فيه.
فلا علم للغيب إلا من خلاله، لأنه ـ وحده ـ الذي يملك مفاتحه وخزائنه، فلا يجوز وصف أحد غيره بذلك إلا بما يرزقه الله من بعض مفردات علمه على سبيل التعليم لا على سبيل إعطاء القدرة بحيث يتحول الموضوع إلى طبيعةٍ فيه.
وهو الذي {وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}من الكائنات الحية والجامدة، والذرّات الكبيرة والصغيرة، وقطرات الحياة في أوزانها الخفيفة والثقيلة، والمعادن المتنوعة المتناثرة في السطح وفي أعماق الأرض والبحار، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} فهو الذي أعطى الأغصان أوراقها، وهو الذي وضع القوانين التي تسقطها على الأرض وتذروها في الهواء، وهو الذي يحصي عددها عندما توجد وعندما تسقط، {وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} وهكذا تتناثر الحبوب الصغيرة في كل المزروعات الممتلئة بالحب ليحيط بها علمه، وهي تخضر في سنابلها، ثم وهي تذوي وتتساقط في حالة يبسها في حالة الحصاد وغيرها، حتى أنه يعلم الحبة التي تحملها النملة إلى حجرها في أعماق الأرض.
وهكذا يتّسع علمه للإنسان بكل خلاياه في نموّها وتجددها، وبكل ما يشتمل عليه الجسم من عوالم وحركات ونظم وسننٍ وقوانين وأوضاع، وبكل الفكر الإنساني الذي يتحرك به العقل والإحساس والفطرة، وبكل الغرائز الحيوانية التي تحرّك الحيوان ـ إنساناً أو غير إنسان ـ إلى النتائج المنفتحة على شروط وجوده واستمراره.
هو العالم علماً حضورياً في تفاصيل كل الأشياء الموجودة في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر الأشياء، وفي حركة الرياح بما تحمله من البذور التي توزعها في الأرض هنا وهناك، وتنثرها في أعماق الأرض وسطوحها، حتى تكون بمثابة الاحتياطي لكل عشب جديد وورود جديدة وخضرة جديدة.
إنها الآية التي تتحدث عن علم الله بالكليات والجزئيات معاً، وعن رقابته من خلال علمه المطلق، على كل شيء في الإنسان في حركته الخفية والمعلنة في السرّ والعلن، ليشعر الإنسان بالحاجة إلى الانضباط العملي أمام ربه الذي يعلم كل شيء ويحيط بكل شيء، وعن حاجة الإنسان إلى الابتهال إليه في كل حاجاته وفي كل مخاوفه في الليل والنهار والحاضر والمستقبل، لأنه العالم بذلك كله، وهو ـ وحده ـ القادر على أن يحقق له ما يشاء منها وأن يحميه مما يخافه منها. وهكذا تكون للآيات عدة جوانب إيحائية في حركة الإنسان الفكرية والعملية. أما كلمة {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} فالظاهر أن المقصود بها التعبير عن علم الله الواسع الذي لا حدَّ له بكل الموجودات.
وربما احتمل البعض أن المراد به عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء.
* * *
بين الحفظة والموت
3 ـ في آية: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} ما المراد من الحفظة؟ هل هم الحفظة على الأعمال الذين أشار الله إليهم في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَاماً كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 ـ 12]، أو هم الحفظة الذين أوكل إليهم أمر حماية الإنسان من الأخطار والآفات والمصائب التي تهدد حياته أو تسبب له الأمراض والبلايا، فهؤلاء هم الذين يحفظونه من ذلك كله بأمر الله، بطريقةٍ خفيّة أو بوسائل غيبية؟ ربما كان الوجه الثاني أقرب إلى السياق من خلال قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} فإن الظاهر أن الحفظ يستمر من قِبَل هؤلاء إلى المدئ الذي يبلغ فيه الإنسان أجله، فإذا جاء أجله كانت مهمة رسل الموت أن تتوفّاه وتقبض روحه، والله العالم.
أمَّا نسبة الوفاة إلى الرسل فهي كنسبتها إلى ملك الموت، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] وذلك من حيث الجانب الآلي للوفاة، لأنهم هم الذين يتولون التنفيذ العملي للمهمة بوسائلهم الخاصة التي أعطاهم الله إياها، ولكن العمق في مسألة الوفاة يتصل بالله سبحانه، فهو ـ وحده ـ القادر على ذلك والمقدّر له، كما جاء في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا} [الزمر:42].
أما قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} فالمقصود أنهم لا يتساهلون في تنفيذ المهمة الموكلة إليهم، لأنهم {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ومن الممكن أن يكون هؤلاء أعوان ملك الموت الذي وكل بقبض الأرواح مما تلتقي النسبة إليه بالنسبة إليهم.
* * *
الله هو الحق
4 ـ {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} إن التعبير بالحق كصفةٍ من صفات الله كان من جهة أن الكلمة تمثل الثبوت، والله ـ وحده ـ هو الذي يملك ـ في ذاته وصفاته ـ الثبوت كله، فلا مجال لعروض الزوال عليه في ذلك كله، ولا لطروء التغير والانتقال في وجوده، بينما لا يملك أي مخلوقٍ هذه الخصوصية.
* * *
استغراق الإنسان في كفر نعم الله
5 ـ إن قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} يشير إلى الحالات الصعبة أو شبه اليائسة التي يعيش الإنسان فيها الإحساس بالخطر الداهم أو المحقق عندما يواجه الشدائد والأهوال في حياته في البرّ والبحر، فلا يجد أمامه أحداً من الناس الذين اعتاد الاستعانة بهم، ولا يملك وسيلة معينة يعتمد عليها، فيلجأ إلى الله بفطرته النقية الصافية التي تفرض نفسها عليه بشكلٍ عفوي بكل آماله وتمنياته وثقته، ويطلب إليه أن ينجيه من هذه المشكلة أو البلية في وعد أكيد أنه سينتقل من حالة الكفر العملي بالنعمة، إلى الشكر له فيها، المتمثل بالعودة إلى خط الإيمان والعمل الصالح في حالة من التضرع الذي يوحي بالتعبير عن الحاجة والمسكنة النفسية في أسلوب علنيّ يرتفع بالشكوى والصراخ، أو في أسلوب خفيّ يهمس به القلب واللسان.. وينجيه الله من ذلك كله، فيخرج من البلاء معافى ومن الخطر سالماً، ويبتعد عن كل الهمّ والغمّ والحزن الذي كان يعيشه في حياته، فينقلب من مشكلته مسروراً، وينسى مشكلته في غمار هذه النتائج الإيجابية الطيبة.
وينسى ربه، ويستغرق من جديد في الناس الذين اتخذهم شركاء من دون الله، ويعود إلى الكفر بنعمة الله، ويخرج من تلك الصحوة الإيمانية التي انفتح فيها على الله وآمن فيها بوجوده وتوحيده من خلال هذه الهزّة العنيفة لحياته، ليعود إلى الغفلة المطبقة والنوم العميق.
ولعلّ هذا الحديث عن إجابة الله للدعاء في إنجائهم من البلاء الذي حلّ بهم، يوحي للإنسان بالإجابة الإلهية الحاسمة لكل من دعاه إذا أخلص في دعائه وإن ابتعد بعد ذلك عن أجواء الدعاء.
* * *
على الإنسان أن يحذر عذاب الله
6 ـ في آية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} إشارة إلى أن عليهم الحذر من العذاب الذي يمكن أن يبعثه الله عليهم عقوبةً على كفرهم وعصيانهم وتمرّدهم، لأنهم يستحقونه، فهو القادر على ذلك بكل الوسائل وفي جميع الاتجاهات، فقد يأتيهم العذاب من فوقهم، كما في الرياح العاصفة والأمطار الشديدة والصواعق المحرقة، ومن تحت أرجلهم، كالزلازل والبراكين والفيضانات، والانشقاقات الأرضية ونحو ذلك، كما قد يتمثل ذلك في ممارسات المستكبرين ضد المستضعفين وفي ابتعاد الناس عن مسؤولياتهم في حماية نظام الناس، ما قد يؤدي إلى الإضرار بهم، وفي وسائل الحرب المدمّرة التي تحرق البلاد والعباد التي تقصفهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
* * *
التمزق شيعاً بلاء إلهيّ
7 ـ قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} إشارة إلى التمزقات الاجتماعية التي يتحول فيها المجتمع إلى فِرَقٍ متناثرة لا يجمع بينها شيء من خلال اختلاف الكلمة، وتوزُّع الآراء، وتشتُّت المواقف، ما يؤدي إلى دمار اجتماعي وأخلاقي واقتصادي لا يقلّ خطورة عن الدمار المادي الذي يمثله العذاب المادي المذكور في الآية.
ولعل من الطبيعي ـ في وعي هذه المسألة ـ أن يكون البلاء الإلهي ـ في ذلك ـ ناشئاً من الواقع الذي يعيشونه في الاختلاف الناشىء من حالة البغي فيما بينهم، والفساد الكامن في داخل نفوسهم وأوضاعهم، وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة.
وإذا كان الحديث في هذه الآية عن المشركين، فإنها قد تمتد إلى المسلمين الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتحزبوا للباطل في مذاهبهم وفي اتجاهاتهم، وفي أوضاعهم العامة والخاصة، ما أدّى إلى تمزيق الوحدة الإسلامية والاستعانة بالكافرين على المسلمين.
* * *
الرسول يدعو إلى الله وينبذ أهواء المشركين
وهذه صورةٌ رائعةٌ من صور الرسول الداعية في مواجهته للمشركين، في ما يريد أن يثيره لديهم من قضايا العقيدة، في انطلاقة التوحيد أمام الشرك، من خلال التصوّر الرحب لما هو الله، في الفكر والقلب والضمير، حيث يفرّغُ كل شيءٍ غير الله من أيّ معنًى يتّصل بالألوهيّة، أو يقترب منها، أو يلامسها، ولو من بعيد، لأن الأشياء لا تملك ـ في عمق وجودها ـ أيّ لونٍ من ألوان الاستقلال الذاتي، فكيف تملك إعطاء الوجود لغيرها؟!
وهكذا يتجلّى الرسول في إشراقة الموقف الحق، فنراه وهو يرفض كل دعواتهم للشرك، ويجابه كل تحدياتهم واقتراحاتهم التعجيزيّة، ولكن لا من ناحيةٍ تدّعي لنفسها الإحاطة في نطاق المعرفة، بل من ناحية الشخصية المتحركة في خط العبودية لخالقها، العالم بكل شيء، المدبّر لأمور عباده، فيأمرهم بما يرى أنه الصلاح، وينهاهم عما يرى أنه الفساد.
وبذلك يقف الرسول ـ العبد لله، في موقف الخاضع لنواهيه، ليقول لهم: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} فقد آمنتُ بالله على قاعدة الفطرة، التي أثبتت أن لا إله غيرهُ.. وها أَنا ذا أحسّ إحساس العبد الخاشع أمام ربّه بأنّ العبودية هي لله وحده، فلا مجال لعبادة أو طاعة غيره، في ما نهاني عنه ممن تدعون من دونه من غير قاعدة أو برهان.. فإنكم لم تنطلقوا في دعوتكم لغيره إلا من أهوائكم المنطلقة من الشهوات، فكيف يختار العاقل الواعي لنفسه أن يتّبع الهوى، ويترك الحجّة والدليل والفطرة والوجدان؟ {قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} فإن ذلك يؤدي إلى الضلال والضياع بعيداً عن خط الهدى، {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} وهذا ما لا يمكن أن أختاره لنفسي، مهما اشتدت الضغوط، وكثرت التحدّيات.
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} فليس لديَّ أيّ شك أو ريب، لأن الحقيقة تفرض نفسها في فكري وقلبي وشعوري، كما تشرق الشمس في الفضاء في رأد الضحى.. فكيف يترك الإنسان وهج الحقيقة إلى ظلام الباطل؟
{وَكَذَّبْتُم بِهِ} من دون برهان، ولذلك لم تستطيعوا إثارة أيّة فكرةٍ علميّةٍ مضادةٍ، ولم تستطيعوا مناقشة أيّ دليلٍ للإيمان، بل كل ما فعلتموه هو إطلاق كلمة التحدي، بأنه إذا كان هذا هو الحق من عندك فأرسل لنا العذاب، وأمطر علينا الحجارة من السماء، وهذا هو شأن الضعفاء المهزومين الذين لا يملكون قوّة المواجهة الفكرية، الحجة بالحجة، والوجدان بالوجدان، وهم يعلمون أن قضايا العذاب ليست بيد الرسل والأنبياء، وليس هذا هو دورهم، فلم يمنحهم الله ـ سبحانه ـ إمكانات التصرّف في الكون بالطريقة التي تحلو لهم، أو تُطلب منهم، بل كل ما هناك أن الله كلفهم إبلاغ رسالته، وإقامة الحجة على الناس، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بيّنة.. وهذا هو كل شيء.. أما إنزال العذاب فهو شأنه، فإذا شاء أن يعذّب فله ذلك، وإذا شاء أن يعفو فله ذلك، لأن الحكم له في جميع الأمور، ما دامت الحياة ملكه.. وما دامت الخلائق طوع إرادته.. {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} في كل الأشياء.. فهو الذي يحدّد مواقع الرحمة والنقمة، {يَقُصُّ الْحَقَّ} ليبيّنه للناس فتقوم الحجة عليهم من خلاله، {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} في ما يفصل به بين الحق والباطل، والخير والشرّ، والكفر والإيمان.
* * *
المشركون يتحدون الرسول باستعجال العذاب
{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} إن الكافرين والمشركين يستعجلون العذاب الذي وعدهم الله به تحدياً للرسول، ظناً منهم أنّه لا يستطيع إليه سبيلاً، ليُظهروا عجزه أمام الناس، وليثيروا أساليب السخرية ضدّه.. فكيف واجه النبي(ص) هذا المنطق؟ لقد وقف وقفة الرسول الذي يعرف قدراته جيّداً، فإنّ الله لم يسلّطه على مقدّرات الكون، فيأمرها بإنزال العذاب على هؤلاء أو أولئك، لأن دوره الأوّل والأخير هو إبلاغ الرسالة، ثم لماذا يستعجلون ذلك..؟ وماذا يتخيّلون أن يحدث إذا كان الأمر بيده؟ فماذا يبقى هناك؟ إن الأمر سينتهي إلى الدمار، وسينتهي الأمر إلى النتيجة الحاسمة فيما بينه وبينهم، جزاءً لظلمهم، فإن الله أعلم بالظالمين، الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية والانحراف والتمرد عليه.
ثم، ما هي تصوراتهم عن الله؟ هل يفكرون فيه كما يفكرون ببعضهم البعض كطاقاتٍ محدودةٍ مغلوبةٍ في العلم والقدرة، ليبيحوا لأنفسهم أسلوب اللاّمبالاة والابتعاد عن خط المسؤولية في الإيمان به والانسجام مع رسالته ورسوله؟ وكيف يسيرون مع هذا اللون من التفكير الذي ينطلق من ضيق الأفق، وقلّة التأمّل وسطحيّة النظرة إلى الأمور؟
وتتحرك آيات الله لتقدم الملامح الحقيقية للصورة المشرقة عن ذاته ـ تعالى ـ حيث يعيش الإنسان الشعور برعاية الله له من خلال الشعور بإحاطة علمه بكل الأشياء دون استثناء، حتى الصغير الصغير من الأشياء، والخفيّ الخفيّ من القضايا.. وفي مساحات الزمن كله، في الماضي والحاضر والمستقبل.. فهي في علمه سواءٌ، لأن الموجودات كلها حاضرةٌ لديه من خلال خلقه لها وتدبيره لكل أوضاعها الجزئية والكليّة.
* * *
الله وحده يعلم الغيب
وتبدأ الآية بالحديث عن الغيب، غيب الزمن، وغيب الضمائر، وغيب الأشياء الخفيّة، فهو الذي يملك مفاتحه، ولا يملك غيره من ذلك شيئاً، إلا من خلال ما يطلع عباده عليه. {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ} فليس لأحد أن يدّعي علم ذلك لأحدٍ بطريقةٍ ذاتية إلا من خلال وسائله المألوفة وغير المألوفة التي يتيحها له، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} من كل الموجودات الحيّة وغير الحيّة، ومن خلال ذلك يدبّر لها حركة وجودها بشكلٍ مباشر وغير مباشر، فهي خاضعةٌ له مستسلمةٌ لإرادته، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأنها لا تسقط إلا بإذنه وبإرادته المتحركة في نطاق القوانين الحتمية التي تحكم الكون كله، {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} عنده، في ما أحصاه في علمه، وسجّله في اللوح المحفوظ.
تلك هي الصورة التي يعيش الإنسان معها هذا الامتداد الشامل المطلق في علم الله وإحاطته بالمخلوقات، فيحس بالأمن والطمأنينة والثقة بالله الذي يحيط بكل شيء، وبذلك يمكن أن يحفظه من كل شيء، لأن علم الله ليس علماً يكشف الصورة ويوضحها، بل هو العلم الذي يعطي الأشياء صورتها، ويحقق لها وجودها، ويرعى لها حركتها، ويهيمن على كل أوضاعها، إنه علم الخالق القادر، وذلك هو ما يضمن إحساس الإنسان بالأمان المطلق معه.
* * *
الله مدبّر حياة الإنسان
وتتحرك الآية الثانية لتثير الإحساس بالتدبير اليوميّ الذي يدبّر به حياة الإنسان بين موتٍ تنبض في داخله الحياة، فلا يلغي للإنسان حياته، ولا يحمّله أثقالها المجهدة، فهي حياة يحسّ معها بطعم الموت في ما يحققه من راحة السكون والغيبوبة عن الوعي، وذلك هو ما يمثله النوم الذي يطبق على كيان الإنسان في الليل، وبين بعثٍ تمثله اليقظة من عودةٍ للحياة المتحرّكة التي تضج بالنشاط، وتحفل بالحركة، وتنوء بالجهد، حتّى إذا بدأ نهاره، انطلقت رقابة الله عليه، لتوحي له بأنها تحصي عليه كل أعماله التي يكتسبها ويجترحها في سائر الأمور. وهكذا تمتد هذه الدورة الزمنية المتأرجحة بين الموت النابض بالحياة، وبين الحياة المنطلقة في خط المسؤوليّة، إلى أن ينتهي الأجل المسمّى للإنسان، فيترك هذه الحياة بالموت الكامل الذي يلغي في الجسم كل نبضةٍ للحياة، ثم يأتي دور البعث الكبير الذي يعيش فيه اليقظة التي لا تتحرك فيها قضية المسؤولية كعملٍ، بل تنطلق فيها كنتاجٍ لما أسلف من عمل. فهو الموقف الذي يواجه فيه نتائج المسؤوليّة، لينتهي إلى مصيره الأخير في الجنة، أو في النار {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالليْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى} وهو العمر الذي حدّده الله للإنسان في الحياة، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لتواجهوا مصيركم من خلال ذلك.
* * *
هو القاهر فوق عبادة
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} لما تحمله السيطرة المطلقة والقدرة الشاملة من هيمنةٍ قويّة لا يملك الناس معها أيّة إرادةٍ أمام إرادته، فهم مقهورون بفعل امتداد وجودهم منه وحاجتهم إليه، فمنه يستمدّون القوّة، لأنهم ـ منه ـ يستمدون حركة الحياة، وبهذا تفرض الفوقية معناها الضاغط المسيطر، في ما يعطيه القهر من معنى انسحاق المقهور أمام إرادة القاهر.
{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} يحفظونكم من كل أسباب الموت، أو يحفظون أعمالكم في الكتاب الذي يقدمونه غداً بين يدي الله.. وتستمر عمليّة الحفظ ما استمرت الحياة بالناس، {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وانتهى أجله المحدّد له {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الذين أوكل الله إليهم القيام بهذا الدور، {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} في مسؤوليتهم وفي دورهم الذي أراده الله لهم في أمور الموت والحياة. ولا يملك الإنسان شيئاً أمام ذلك، فهو مسيّرٌ في أصل وجوده، فلا اختيار له في عمليّة الخلق، وهو مسيّرٌ في انتهاء وجوده، فلا اختيار له في عمليّة الموت، وهو محكوم بعمله، فلا بد له من أن يقدّم العمل الذي يرضي الله في الدنيا والآخرة.
{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} فهناك يرجع الناس إلى ربهم ليعودوا إليه كما بدأهم أوّل مرّة، ليواجهوا حكمه المبرم، فهو الحاكم في يوم القيامة، ولا حاكم غيره، لأنه هو المالك ليوم الدين وللناس أجمعين، {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} فلا يحتاج إلى وقتٍ للحساب، لأن الأرقام كلّها حاضرة عنده، مجموعةٌ لديه، ولا بد للإنسان من أن يتوقف عند كلمة {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} ليختزن في وعيه دائماً معنى حاكمية الله في الوجود، فيستوعب الفكرة كقاعدةٍ للتصور الإسلامي في الانطلاق من أمر الله ونهيه في شرعية الأفعال والكلمات والمواقف والانتماءات، لأنّ الحكم حكمه، والشرعيّة شرعيته، وفي التوجّه إليه في حكاية الثواب والعقاب، لأن المصير إليه والأمر بيده، فلا حاكم سواه في يوم الجزاء.
* * *
الله هو المنجي من ظلمات البر والبحر
{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} تطرح هذه الفقرة علامة استفهام حول حقيقة بديهية على قلب الإنسان وعقله، ليستوعبها ويعيها ويحرّكها في وعيه، لئلا تغيب عنه لحظةً واحدةً، في ضباب الغفلة، وجلبة الشهوات والمطامع، ليعيش ـ دائماً ـ مع الله كملجأ وحيد، عندما تدهم الإنسان ظلمات البرّ، فتسيطر على مشاعره فترتجف نفسه، وتهتز، وتتساقط تحت تأثير أشباح الظلام التي تتراكض في وعيه، فتوحي إليه، بكل ألوان الخوف والفزع والحيرة من خيالات الجنّ والشياطين والحيوانات المفترسة والناس القتلة، وغير ذلك، ما يجعل الإنسان يفقد توازنه في التعامل مع الأشياء من حوله، وربما يفقد عقله معه.. وهكذا عندما يعيش ظلمات البحر، في نطاق ظلمة الليل، وظلمة الأمواج، وظلمة الخيالات السوداء والأشباح المخيفة التي تتراكض في إحساسه ووعيه، فتفقده الأمن والطمأنينة، وتقوده إلى الحيرة والاهتزاز، فإنه لا يجد ـ في ذلك كله ـ إلا الله الواحد، ملجأ الخائفين وعصمة المعتصمين، وغياث المستغيثين، يتعلق به قلبه، في إشراقةٍ فطريةٍ هادئةٍ توحي له بالثقة وتبعث في داخله الشعور بالحياة الممتدّة الواسعة، في خطوات الحقيقة العميقة التي تفرض نفسها على الموقف، فتطرد من أمامها كل الخيالات والأشباح.
وتبدأ الابتهالات والتطلعات في خشوع الخوف، وخضوع العبادة {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وهكذا ينطلق الإنسان في ابتهالاته ليعطي الله عهداً على نفسه بالالتزام بخطّ الشكر الذي يعني خط الطاعة المطلقة في كل أوامره ونواهيه، وذلك في إحساسٍ خفيٍّ بأن الله يحقق للشاكرين رغباتهم وأحلامهم كجزاءٍ على شكرهم.
ويأتي الجواب الإلهي تجسيداً للحقيقة في أسلوبٍ إيحائيّ يؤكد للإنسان معناها وجهاً لوجه {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا} فاستعرضوا تاريخكم في ما مضى من عمركم، وفي ما عاشه الآخرون من رفاقكم، في غمار تلك الظلمات.. ولن يقتصر الأمر عليها، فهناك أكثر من مشكلة تمر بكم، وأكثر من مصيبةٍ تحلُّ بكم، فينجيكم منها، {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} مما يُغمّ القلب، ويُكرب النفس، فيفرج عنكم الغمّ ويكشف الكرب، ولكنكم لا تلتزمون بعهدكم أمامه، فسرعان ما تعاودون الكرة، فتشركون به غيره في العقيدة تارةً، وفي العبادة أخرى {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}. ولكن هل فكرتم جيّداً في موقع الله في حياتكم؟ فإنَّ القادر على أن ينجيكم من ظلمات البر والبحر ومن كل كرب، قادرٌ على أن يقلب حياتكم رأساً على عقب ويدمّر كل وجودكم، فكيف تأمنون مكر الله وعذابه، في ما تستمرون به من شركٍ وعصيان؟!!
* * *
أسلوب القرآن في فتح قلوب المشركين على الحقيقة
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فكيف تتفادون ذلك كله إن عصيتم وتمرّدتم؟ ولعلّ الإيحاء بإحاطة العذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، حيث يتساقط عليهم من السماء، أو يطلع إليهم من أعماق الأرض، يثير الشعور بالفزع والرعب والهول، لأن الإنسان لا يملك الوسيلة الذاتية التي تحقق له السيطرة عليه، أو الهروب منه، بينما يملك دفع العذاب إذا جاء من طريق اليمين والشمال.. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} في ما يمثّله ذلك من عذاب يوميّ، نفسيّ وعمليّ، يأخذ على الإنسان كل حياته ليجعلها في قبضة التمزيق، من خلال ما يثيره تفرق المجتمع إلى شيع وأحزاب من نوازع العصبية البغيضة، والحقد العميق، ما يؤدّي إلى التقاتل والتدافع، ويدفع إلى المزيد من الآلام والخسائر ومظاهر الخراب والدمار، خاصة إذا ما جاء ذلك من الأيدي القريبة التي كانت تتصافح بروح الصداقة، فإذا بها تتقاتل بروح العداوة.. وتلك هي قصة الواقع الإنسانيّ الذي يمثّل لوناً من ألوان العذاب الذي ينزله الله على الناس في الدنيا بشكل مباشرٍ أو غير مباشر.. فالبعض منه يتنزل على أساس العقوبة على التمرّد والعصيان، وفي البعض الآخر، يحدث كنتيجةٍ طبيعيّةٍ لبعض أنماط السلوك الإنساني المنحرف في ما ينتجه هذا العمل السيّىء أو ذاك.
تلتقي إثارة ذلك كله أمام الناس، ولا سيّما المكذبين منهم، بالهدف القرآني الذي يريد أن يفتح قلب الإنسان على الحقيقة من أجل أن يفقه ويتأمّل ويواجه المعرفة الإيمانيّة بجدِّية ومسؤولية: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} .
ولكنّ هؤلاء القوم الذين أنزل عليهم القرآن، لم يستجيبوا لهذه الدعوة المنفتحة.. فقد كذّبوا بالقرآن، وهو الحقّ الذي لا شكّ فيه، أمّا دور الرسول(ص) فإنّه ينتهي عند حدّ الإبلاغ والإِنذار، من خلال صفته الرسوليّة.. {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فليست له أيّة مسؤوليّةٍ مباشرة للضغط عليهم، فليفعلوا ما يشاؤون.. فإنهم يتحملون مسؤوليّة أنفسهم، فسيواجهونها في المستقبل عندما تتحرك الإرادة الإلهيّة لتصل بالأشياء إلى نهاياتها ويلتقي الناس بنتائج أعمالهم على قاعدة العقاب والثواب، وبذلك تنفتح لهم آفاق المعرفة، في ما يحبون، وفي ما لا يحبون، {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} ولا بدّ من أن يبلغ قاعدته{وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
ويثير هذا الغموض في النفس الإنسانية الكثير الكثير من حالات التهويل في ما يمكن أن يصادفه مما لا يعرف الإنسان طبيعته ولا مداه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر: مفردات الراغب، ص:419.
(2) مجمع البيان، ج:4، ص:392.
(3) مفردات الراغب، ص:445.
(4) مجمع البيان، ج:4، ص:392.
(5) مجمع البيان، ج:4، ص:392 ـ 393.
(6) تفسير الميزان، ج:7، ص:139.
(7) مفردات الراغب، ص:398.
(8) أسباب النزول، ص:122.
(9) الأكظام: جمع كظمٌ ـ محركة ـ وهي مخرج النفس. والأخذ بالأكظام: المضايقة والاشتداد بسلب المهلة.
(10) نهج البلاغة، الخطبة:125.
(11) نهج البلاغة، الكتاب:40.
تفسير القرآن