من الآية 68 الى الآية 73
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ* قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـواتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}(68ـ73).
* * *
معاني المفردات
{يَخُوضُونَ}: يسترسلون في حديث الباطل ويلعبون، ويعبثون من خلال التجريح والسخرية وإثارة الشبهات الباطلة المشوّشة بأساليب صريحة أو ملتوية. قال الراغب: الخوض: هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد في ما يُذَّم الشروع فيه[1] ويستعار الخوض للدخول في الباطل والاندفاع في الحديث.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}: انصرف عنهم، ولا تجالسهم.
{الذِّكْرَى}: كثرة الذكر، وهو أبلغ من الذكر.
{أَن تُبْسَلَ}: البسل: ضمّ الشيء ومنعه. ولتضمّنه لمعنى الضمّ استعير لتقطيب الوجه، قيل: هو باسِلٌ ومستبسل الوجه، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرّم والمرتهن: بسلٌ، وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي: تُحرم الثواب. والفرق بين الحرام والبسل: أن الحرام عام في ما كان ممنوعاً منه بالحكم والقهر، والبسل هو الممنوع منه بالقهر. قال عز وجل: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} [الأنعام:70] أي: حرموا الثواب[2].
{تَعْدِلْ}: تفتدي وتدفع بدلاً من مال أو غيره. والعدالة والمعادلة ـ كما يقول الراغب ـ :لفظ يقتضي معنى المساواة... والعدل والعِدل يتقاربان، لكن العَدل يستعمل في ما يدرك بالبصيرة، والعِدل والعديل في ما يدرك بالحاسة[3].
{حَمِيمٍ}: الماء الحار أحمّ حتى انتهى غليانه، ومنه: الحمام.
{اسْتَهْوَتْهُ}: استهواه من قولهم: هوى من حالق إذا تردى وسقط في الهاوية، فلا يهتدي إلى قرار. ويشبَّه به الذي زلّ عن الطريق المستقيم، كما أن قوله: زلّ إنما هو في المكان، ثم يشبه به المخطىء في طريقته، في مثل قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} فكذلك هوى وأهواه غيره. فيقال: أهويته واستهويته بمعنى، كما يقال: أزلَّه الشيطان واستزلّه بمعنى[4].
{أَعْقَابِنَا}: الأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر الرجل. وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة: ارتد على عقبيه.
{حَيْرَانَ}: الحيران: المضطرب المتردد الذي لا يهتدي إلى قرار ولا يسكن إلى قاعدة، والمتردد في أمر لا يهتدي إلى المخرج منه، أو هو التائه الذي لا يدري ما يصنع.
{الصُّوَرِ}: هو القرن في اللغة، وقال الراغب «قيل: هو مثل قرنٍ يُنفَخ فيه، فيجعل الله سبحانه ذلك سبباً لعَوْدِ الصور والأرواح إلى أجسامها»[5].
* * *
مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان:قال أبو جعفر(ع): لما نزلت {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، فلا ندخل إذاً المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام؟ فأنزل الله سبحانه: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} من أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا[6].
روى الطبري عن السدّي في آية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ}، قال: «كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي(ص) والقرآن، فسبّوه واستهزأوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره»[7]. وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل.
وروي عن ابن سيرين وغيره أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤوّلون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء[8].
ولما قال المسلمون: إن قمنا كلما خاضوا، لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف، فنزل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم} أي: يتقون الله من حساب الخائفين {مِّن شَيْءٍ} أي: إثم إذا جالسوهم.
وهذه الرواية تختلف عن رواية الإمام الباقر(ع) التي أكدت أنها نزلت في شأن المشركين.
* * *
الإعراض موقف احتجاج ضدّ الخائضين بآيات الله
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كيف يعبّر المؤمن عن إيمانه؟ وكيف يواجه التحديات المضادّة، الساخرة تارةً، والمهاجمة المعتدية أخرى، والصادرة من الكافرين ضد القاعدة الفكرية للإيمان وفروعه التفصيليّة؟ وكيف يعلن موقفه الاحتجاجيّ الرافض لذلك كلّه، إذا لم يتمكّن من المواجهة الفكريّة المباشرة التي ترد التحدي بمثله؟
هل يقف موقف الحائر الضائع الذي يتساقط فكريّاً وشعوريّاً أمام حالة العجز الذاتي الواقعي، أو يستسلم في أسلوب المسالمة الصفراء التي تعبر عن نفسها بالانسجام الواهن الذليل مع الجوّ السائد؟ إن الله يريد من المؤمن أن يقف موقف الاحتجاج السلبيّ الذي يعبّر عن رفضه وسخطه بالانسحاب من الجوّ الذي يثيره الآخرون بالسخرية والتحدي والعدوان.. وهذا ما تعبر عنه الآيات الأولى أصدق تعبير.
فإذا كان المؤمن في مجلسٍ من مجالس الكافرين أو المنافقين الذين يخوضون في آيات الله في ما أنزله من عقائد ومفاهيم وأحكام، وما أوحى به من غيب الدنيا والآخرة، فيتناولونها بالتهجم والتجريح والسخرية والاستهزاء، بمختلف الأساليب الصريحة أو الملتوية.. ولم يستطع ـ كما يوحي جوّ الآية ـ أن يواجه ذلك بشكل مباشر ليناقش الفكر بالفكر، ويقابل التحدي بالتحدي، ويواجه السخرية بسخريةٍ مماثلة.. فإن عليه أن ينسحب من المجلس ليعلن ـ بهذه الطريقة السلبيّة الموحية ـ رفضه لذلك كله واحتجاجه عليه، ويؤكد انفصاله عن حركة المجتمع في هذا الاتجاه.. فإذا استطاع التأثير على الجوّ بهذا الأسلوب، فتغيّر الحديث تبعاً لموقفه، أو انتهى كلامهم في هذا الجو، وانتقل إلى جوٍ آخر، فيمكنه الرجوع إلى المجلس، لأن المطلوب ليس مقاطعة هؤلاء، بل إعلان الموقف الرافض لمثل هذه الأجواء والمواقف المضادّة.
تلك هي الحالة الطبيعية للمؤمن الواعي الذي يعيش حياته اليومية مع الناس الآخرين بيقظة وتمييز للخطوط الفاصلة بين الإيمان والكفر، ويشعر باختلافه عن الكافرين، فإن المفروض منه أن يؤكد إيمانه بالتعبير عنه باتخاذ مواقف إيجابيّةٍ أو سلبية، وذلك من موقع المسؤولية أمام الله.
فإذا غفل عن ذلك، أو ضعفت إرادته، فنسي، استجابة منه للشيطان ولضعفه البشري، خوفاً من الخسائر المادية أو المعنوية أو المشاكل التي تحدث له من قبل هؤلاء إذا ما تعرض لهم، أو احتجّ عليهم، أو أعلن التمايز بين موقفه وموقفهم، فإن عليه أن يستغفر الله من ذلك، ويفتح قلبه للذكرى المنطلقة من وحي الله في آياته، ويؤكد موقفه من خلالها، فيعيش الحذر الدائم من الوقوع من جديدٍ في حالة الغفلة والضعف، فلا يعود مرّة أخرى، بعد هذه الذكرى، إلى الوقوع في التجربة الصعبة، فيستسلم للموقف الضعيف الذي تفرضه عليه مجاملته للقوم الظالمين.
{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ثم تعود الآية الثانية لتضع المسألة في نصابها الصحيح.. فليس المتقون مسؤولين عما يخوضه هؤلاء من الكفر والضلال، بل إن الكافرين أنفسهم هم المسؤولون عن ذلك كله، لأن الله لا يؤاخذ إنساناً بجريرة غيره، ولكنه أرادها ذكرى لهؤلاء، وصدمةً عمليّة لهم من قِبَل المتقين عندما يواجهونهم بالموقف السلبي الرافض الذي يوحي إليهم بأن الأجواء من حولهم ليست ملائمةً لتوجهاتهم. فقد يدفعهم ذلك إلى التفكير الواعي العميق، فيدخلون معه في حسابات جديدةٍ، تثير أمامهم أجواء التقوى التي أراد الله للناس أن يعيشوا فيها بما تمثله من الصراط المستقيم.
وهكذا نجد أن الله أراد للمؤمن أن يتحرك في موقفه من نقطتين: نقطة الالتزام الذاتي بالفكرة على مستوى الحياة العملية، ونقطة التذكير الدائم للآخرين بالانحرافات التي تتمثل في خطواتهم العملية، من أجل أن يثير التقوى فكراً وجوّاً وحركةً في وعي الإنسان.
* * *
أيها المؤمنون، ذكِّروا بيوم القيامة
ثم إن الله يوجّه خطابه لعبده المؤمن من خلال توجيه الخطاب لرسوله، بأن ينفصل عن هذا المجتمع اللاهي اللاعب: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} لأنهم لم ينفتحوا في الحياة على الرسالة الشاملة التي تنظر إلى الحياة بجدّيةٍ ومسؤوليةٍ تؤكّد على الالتزام، بل اعتبروا دينهم الذي يمثل خطّ سيرهم هو في الانطلاق مع اللّعب واللّهو، في جميع علاقاتهم وانتماءاتهم ومعاملاتهم وأوضاعهم الخاصة والعامة.. ولهذا فإنهم لا يواجهون الدعوة ـ الرسالة مواجهة الفكر للفكر، والموقف للموقف، بل مواجهة السخرية والاستهزاء واللاّمبالاة، لا لأنهم لا يقتنعون بها، بل لأنهم لا يطيقون جدّيتها والتزامها.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيَا} بزخارفها وأشكالها وشهواتها وأطماعها، فاستسلموا لها، وعاشوا معها، وغرقوا في بحار اللذّة التي غمرت كل تفكيرهم وواقعهم.. وهكذا تحوّلوا إلى خطّ مضادٍّ للمسيرة الإلهية التوحيديّة، ما يفرض على أتباع المسيرة أن يتركوهم وشأنهم، بعيداً عن حالة التعقيد الذاتي الذي يوحي بالإحباط واليأس.
{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} وهكذا بدأ النداء الموجَّه للمؤمن كي يستمر بالتذكير والإنذار بالموقف الذي يؤاخذ الله فيه كل نفس بما كسبت من أخطاء وخطايا تمنعها من الحصول على ثوابه، دون أن تملك ناصراً ينصرها منه أو شفيعاً يشفع لها عنده. وإذا كانت في الحياة الدنيا تحاول أن تدفع بدلاً من مالٍ ورجالٍ، فتأمن في مواقع الخطر، فإن الآخرة ليست هي الموقع الذي يتناسب مع ذلك، فهناك المصير المحتوم الحاسم، فلهم الشراب الحميم الذي يغلي في البطون، ولهم العذاب الأليم الذي يفتك بأجسادهم، كنتيجةٍ طبيعية لكفرهم وتمردهم على الله.
* * *
المشركون ودعوتُهم إلى الضلال
ثم يتحرّك الجوّ في مناجاةٍ ذاتيّةٍ، ينطلق ـ من خلالها ـ المؤمنون في استيحاء أجواء الإيمان، في مواجهة أضاليل الكفر، من أجل تسجيل النقاط السلبيّة ضد الكافرين بأسلوب الاستفهام الإنكاري.
ماذا يريد منهم هؤلاء الكافرون والمشركون؛ في ما يدعونهم إليه من عبادة هؤلاء الآلهة من دون الله؟ فهل يملكون أساساً لهذه الدعوة؟ هل تنفع هذه الآلهة أو تضرّ؟ ماذا لديها من عناصر القوّة والقدرة لتدافع عن الذين يؤمنون بها أو يعبدونها؟ إن ذلك هو أبسط الشروط للمعبود.. ولكنهم ـ وهذه هي طبيعة الواقع بكل وضوحٍ وبساطةٍ ـ لا يملكون شيئاً من ذلك، لأنهم مجرّد أحجار جامدةٍ لا حسَّ فيها ولا حركة ولا حياة.. فكيف يطلبون منا عبادتها من دون الله الذي هو الخالق لكل شيء، والقادر على أن ينفعنا ويضرّنا ويحمينا من كل سوء، وهل يفكر الإنسان العاقل بالتراجع إلى الوراء، بعد أن انطلق بخطواته إلى الأمام؟ {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} ولا يحمل أيّ مقوِّم بسيط من مقومات الألوهية وهي القدرة على النفع والضرر، {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}؟ وهل يمكن للإنسان الذي أبصر الهدى بعينين مفتوحتين، أن يعيش الضلال في أفكاره وخطواته؟ وقد لا يكون من المفروض أن تكون الآية دليلاً على وجود ضلالٍ سابقٍ على الهدى لهؤلاء القائلين، لأن الفقرة واردة على سبيل الكناية في التعبير عن طبيعة الضلال التي تمثل خطوةً تراجعيةً، في مقابل الإيمان الذي يمثّل خطوة متقدّمة.
* * *
الهدى هدى الله
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} وهذا مَثَل الإنسان الذي يعيش الحَيْرة الضاربة في الأرض بفعل الإيحاءات التي تلقيها الشياطين في وعيه، فيفقد التركيز في الرؤية الطبيعية للأشياء، فيظل يضرب في الأرض يميناً وشمالاً، فلا يهتدي إلى قرارٍ، ولا يسكن إلى قاعدة، ولا يستجيب إلى نداء أصحابه الذين يحاولون إنقاذه من حَيْرته القاتلة عندما يدعونه للسير معهم حيث إشراقة النور واستقامة الطريق.
ويأتي الجواب حاسماً في مواجهة علامات الاستفهام الإنكاري: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الشاطىء الأمين الذي تقف عنده سفن النجاة، وهو القاعدة التي تثبت عندها الأقدام، وهو الأفق الذي تنساب منه إشراقات الضياء، وما الذي يطلبه الإنسان أكثر من أن يحصل على هداية الله وحده، فلا خيار له بعد ذلك، من خلال ما يتحرك به الخطّ الواضح للحقيقة التي فرضت نفسها على كل وجدان الإنسان الذي يقف لينتظر الأمر الذي يوحي به هذا الأفق الواعي للهدى، {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الذي بيده الخلق، وهو الذي بيده الأمر، وله الحكم، يأمر العقل أن يهدي، والوجدان أن يذعن، والخطى أن تسير، بما يعنيه ذلك كله من إسلام الفكر والحسّ والخطى لرب العالمين، في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه من إقامة الصلاة، والانطلاق في خط التقوى الشامل لكل جوانب الحياة.
{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَاتَّقُوهُ} وذلك من خلال الانتباه لفكرة الحشر المرتبطة بفكرة المسؤولية الفكرية والعملية في الحياة بما يريد أن يوحي به للإنسان دائماً، من أجل تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من الانضباط الإسلامي {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وتلك هي الحقيقة الحاسمة في التصور الإسلامي لله سبحانه وتعالى.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـواتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} فليس فيها أيّ عبثٍ في التكوين، فكل شيء خاضعٌ لحكمة، وكل ظاهرة منطلقة من قانون.. فلا ينحرف أيّ شيءٍ فيهما عن مداره، ولا يخرج عن مواقعه، وبذلك يحقق الوجود غايته التي جعلها الله له، فلا بد من أن تخضع الأشياء كلها، بما فيها الإنسان، للحقّ.
{وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} في ما يمثله ذلك من خضوع الوجود لإرادته، سواءٌ في ذلك يوم التكوين، أو يوم القيامة، وهذا هو {قَوْلُهُ الْحَقُّ} لأنه يمثّل الحقيقة الكونية في ثباتها وقوّتها، والحقيقة التشريعية في حكمتها وحركتها. {وَلَهُ الْمُلْكُ} لأنه الخالق لكل شيء، ومن ذا الذي يملك الأشياء غير خالقها ومبدعها؟! فهو الذي أوجدها، وهو الذي يبعثها، وهو الذي يهيمن عليها في يوم البعث {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ} يوم يقوم الناس لرب العالمين.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} المطّلع على كل ما أظهروه وما أضمروه، في ما يوحي به ذلك من الإحساس بخطورة المسؤولية أمام الله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الذي أجرى الأشياء بحكمته، وعرف الأشياء بخبرته من خلال ما يعرفه من شؤون عباده.
* * *
استيحاءات هذا الفصل من الآيات
توحي إلينا هذه الآيات بالانفتاح على الآفاق الروحيّة التي يتحرك بها الإيمان في وجدان الإنسان وعقله، لينطلق ـ معها ـ في مواجهة المواقف الصعبة، وليثبت أمام التحديات الكافرة والضالة التي تفرضها ساحة الصراع، وليدخل الإنسان ـ معها ـ في محاكمة ذاتيةٍ تعتمد على إثارة علامات الاستفهام، ثم تقديم الأجوبة الحاسمة التي تؤكد الموقف وتدعم الفكرة في خط الإسلام، من خلال الإيحاء بالتصور الدقيق للكثير من مظاهر عظمة الله.
وهنا في هذه الآيات عدة نقاط:
النقطة الأولى: في آية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا} إلخ، لقد أعطت الأحاديث الواردة عن أهل البيت(ع) وعن النبي(ص) لهذه الآية بعداً واسعاً في عالم التطبيق على واقع الانحراف والموقف منه بما يتجاوز مدلولها في مسألة الخوض في آيات الله النازلة على النبي(ص) وفي النبي والقرآن، فقد جاء في تفسير القمي بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال رسول الله(ص): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم، فإن الله يقول في كتابه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[9] .
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي ـ الباقر ـ قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله[10]. وفي تفسير العياشي عن ربعي بن عبد الله عمن ذكره عن أبي جعفر(ع) في قول الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِ آياتِنَا} قال: الكلام في الله والجدال في القرآن، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} قال: منه القصّاص[11]. وفي ضوء ذلك، يمكن أن نستوحي منه الحديث في كل خط باطل وموقف ضلال على مستوى قضايا الفكر والسياسة والاجتماع ونحو ذلك مما يمثل قضية الإسلام كله والأمة كلها في صعيد النظرية والتطبيق.
النقطة الثانية: أثار الجبائي، في ما نقله عنه صاحب مجمع البيان، مسألة اعتبار قوله تعالى في الآية {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أنها تصلح رداً على بطلان قول الإمامية في جواز التقيّة على الأنبياء والأئمة، وأن النسيان لا يجوز على الأنبياء.
وأجاب صاحب مجمع البيان على ذلك، قال: هذا القول غير صحيح ولا مستقيم، لأن الإمامية إنما تجوّز التقية على الإمام في ما تكون عليه دلالة قاطعة توصل إلى العلم ويكون المكلف مُزاح العلة في تكليفه ذلك، فأما ما لا يُعرف إلا بقول الإمام من الأحكام ولا يكون على ذلك دليل إلا من جهته فلا يجوز عليه التقية فيه، وهذا كما إذا تقدم من النبي بيان في شيء من الأشياء الشرعية، فإنه يجوز منه أن لا يبين في حال أخرى لأمته ذلك الشيء إذا اقتضته المصلحة، ألا ترى إلى ما روي أن عمر بن الخطاب سأله عن الكلالة فقال: يكفيك آية السيف.
وأما النسيان والسهو فلم يجوّزوهما عليهم في ما يؤدونه عن الله تعالى؛ فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال بالعقل، وكيف لا يكون كذلك وقد جوّزوا عليهم النوم والإغماء وهما من قبيل السهو، فهذا ظن منه فاسد وإن بعض الظن إثم[12].
ونحن نلاحظ على كلام العلامة الطبرسي في حديثه عن إمكانية امتناع النبي عن بيان بعض الأحكام أو القضايا المتصلة بالمفاهيم الإسلامية لمصلحة، بأن هذه الفرضية غير واردة في الأمر الإلهي بتبليغ ما أوحى به الله إليه وكلّفه بإبلاغه ليكمل للناس دينهم وليستكمل للإسلام كل عقائده وشرائعه ومفاهيمه ومناهجه التي ارتضاها الله لهم ديناً في كل ما يحتاجونه في شؤونهم العامة والخاصة كما جاء في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3] إننا لا نتصور أنّ هناك مصلحة في إخفاء أي حكم من الأحكام أو أيّ مفهوم من المفاهيم الإسلامية من قبل النبي، لأن معناه إخفاء حقيقة شرعية ملزمة أو ترك بيان مفهوم إسلامي متصل بالحياة الفكرية والعملية للناس، لأن ذلك يعني إبعادهم عما يصلحهم ويسدّدهم، لذلك فإن هذا الموضوع ليس وارداً في الحساب إلا على مستوى التأخير في البيان من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى، كما جاء ذلك في مسألة تدرّج إنزال الآيات، وتدرّج تشريع الأحكام لا إلغاء الحكم مطلقاً، والله العالم.
ولعل الجواب الصحيح هو أن التقية لا وجود لها عند الأنبياء الذين أرسلوا ليصدموا الواقع الفكري والعملي المنحرف، وليواجهوا الأمور من موقع الشجاعة الرسالية من أجل أن يبلغوا الرسالة للناس كاملة غير منقوصة.
أما بالنسبة إلى الأئمة الذين جاءوا بعد إكمال تبليغ الرسالة ليكون دورهم حراسة أصالتها وحماية خطتها وبيان أحكامها وتأصيل مفاهيمها، فقد تكون التقية واجبة عليهم، ولكن بشرط أن لا تكون المسألة على حساب الرسالة أو إضاعة أحكامها أو إلغاء مفاهيمها، بل تكون على مستوى الحالات الطارئة بين حالةٍ وأخرى من أجل حماية القيادة، وحماية الخط، مع البقاء في الساحة من أجل تفصيل ما أُجمل وتوضيح ما أشكل وبيان الحقيقة في ما تحركت التقية فيه. وقد أكد صادق أهل البيت(ع) الإمام جعفر(ع) أن التقية جائزة من غير استفساد في الدين.
ونحن نعرف أن الله تحدث عن التقية في القرآن في قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] . وفي قوله تعالى في قصة عمار بن ياسر الذي نطق بكلمة الكفر تحت التعذيب: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] حيث روي أن النبي محمداً(ص) قال له: يا عمار إن عادوا فعد[13]، ما يدل على أن شرعية التقية انطلقت من القرآن في الحالة الضاغطة التي لا يملك فيها الإنسان فرصةً للتوازن والتماسك، فتكون التقية وسيلةً طارئة للتخفف من الضغط القاسي ليرجع بعد ذلك إلى بيان الحق من أقوى موقع.
أما مسألة نسبة السهو والنسيان إلى الأنبياء في غير حالة التبليغ، فقد ذهب إليه الصدوق وتبعه جماعة، وقد اعتبر أن من علامات الغلوّ نفي السهو عن النبي محمد(ص).
وقد ذهب أستاذنا آية الله السيد الخوئي ـ قدس سره ـ جواباً عن سؤال ـ كما ورد في كتاب منية السائل ـ: القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية.
وقد ذهب المشهور من متكلمي الشيعة إلى أن الأنبياء والأئمة معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان، لا في قضايا الأحكام وحدها، بل حتى في القضايا العادية.
وقد استقربنا في الاستدلال على العصمة أن المسألة تنطلق من وعي مسألة النبوة ودور النبي، فإن النبي ليس ساعي بريد ليحمل الرسالة ويبلّغها للناس وتنتهي مهمته عند ذلك الحدّ، بل هو إنسان أرسله الله ليغير العالم بالحق على مستوى النظرية والتطبيق في الأمور الشرعية والعادية، كما أن النبوّة تتحرك في هذا الاتجاه، الأمر الذي يفرض كون النبي حقاً كله، فلا يعرض الباطل لفكره ولعاطفته ولقوله وفعله وعلاقاته ومواقفه في شؤون الحياة والإنسان، ما يجعل النبي معصوماً كاملاً شاملاً نتيجةً لذلك كله، وقد ذكر العلامة الطباطبائي قدس سره تعليقاً على هذه الآية: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ...} قال: و"الخطاب في الآية للنبي(ص) والمقصود به غيره من الأمة، فقد تقدم في البحث عن عصمة الأنبياء(ع) ما ينفي وقوع هذا النوع من النسيان ـ وهو نسيان حكم إلهي ومخالفته عملاً بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره والتمسك به نفسه ـ عنهم(ع). ويؤيد ذلك عطف الكلام في الآية التالية إلى المتقين من الأمة، حيث يقول: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} إلى آخر الآية.
وأوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] فإن المراد في الآية وهي مدنّية ـ بالحكم الذي نزل في الكتاب ـ هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية، ولا آية غيرها، وهي تذكر أن الحكم النازل سابقاً وُجّه به إلى المؤمنين ولازمه أن يكون الخطاب الذي في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا} الخ موجهاً إلى النبي(ص) والمقصود به غيره، على حد قولهم: "إياك أعني واسمعي يا جارة"[14].
النقطة الثالثة: أثار صاحب مجمع البيان سؤالاً حول نسبة النسيان إلى الشيطان فقال: "كيف أضاف النسيان إلى الشيطان وهو فعل الله تعالى؟ والجواب: إنما أضافه إلى الشيطان لأنه تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر وتراكم الخواطر الردية والوساوس الفاسدة من الشيطان، فجاز إضافة النسيان إليه لما حصل عند فعله، كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات فإنه يضاف الموت إليه لأنه عرّضه لذلك وكان كالسبب فيه"[15].
وهو توجيه جيد، لأن الله سبحانه ينسب الأفعال الناشئة من الأسباب غير المباشرة إلى فاعل السبب، كما ينسبها إلى الإنسان الذي يقوم بالفعل مباشرة، أما علاقة الله بذلك فهو لأنه هو الذي ربط بين الأسباب والمسببات، وجعل الأسباب في أيدي المخلوقين.
النقطة الرابعة: قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً}. ما هي صورة هؤلاء؟
ربما يكون المقصود بالكلمة، أنهم لا يمارسون دينهم ـ في الشرك وعبادة الأوثان ـ بطريقة جدّية باعثة على الاهتمام به وبالدعوة إليه وبالالتزام بخصائصه في حركتهم في الحياة، بل يمارسونه ممارسة اللاهين اللاعبين الذين يحركونه من أجل مصالحهم وأطماعهم وشهواتهم، فهو وسيلة لتأكيد الذات والمنفعة بعيداً عن أيّ محتوى فكري أو التزام عمليّ، ولهذا نراهم يتحركون في حياتهم من منطق اللعب واللهو، فلا مجال لمناقشتهم والدخول معهم في حوار فكري، لأنهم لا يلتقون بالفكر في كل حياتهم وأوضاعهم.
حتى أن عقيدة الشرك لا تمثّل أمراً جاداً من ناحية فكرية، فلا يتعبون فكرهم في إقامة الحجة عليها من قريب أو من بعيد.
وربما كان المقصود بها، أن هؤلاء ينطلقون باللهو واللعب الذي يمثل الطابع العام لحياتهم، فليس لهم من الدين شيء حتى في ما يلوّحون به، لأن قضيتهم تتحرك من عناوين جوفاء لا تحمل أي شيء ولا توحي بأي شيء.
وهذا هو شأن كل الناس الذين لا يمثّل الإيمان لديهم عقيدة والتزاماً فكرياً وعملياً بحيث يحركونه في حياتهم في اتجاه قضايا المصير التي تقف في مستوى الأهمية الكبرى للإنسان، بل إنهم يحاولون تحريك شعائر الدين ومقدساته في نطاق لهوهم وعبثهم ولعبهم للوصول إلى أهدافهم الخاصة، وهؤلاء هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ويتاجرون بالدين ويستغلّونه لتلبية شهواتهم ومنافعهم الشخصية.
النقطه الخامسة: في آية: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى}، إننا نستوحي منها التأكيد على المؤمنين الذين اقتنعوا بالإيمان فكراً وعقيدةً وحركة للحياة، وانفتحوا على الله الذي يملك الأمر كله ويملك النفع والضرر لكل المخلوقات، أن يحدّقوا بكل الدعوات الكافرة والضالّة التي تريد لهم أن يتراجعوا عن الخط الإيماني ويرجعوا على أعقابهم نحو الطريق الذي ينتهي بهم إلى الضياع، تماماً كما هي المتاهات في الصحراء، كمثل الشياطين الذين كان العرب يعتقدون أنهم يكمنون في منعطفات الطرق لإغواء السائرين عليها وإضلالهم عن الطريق بكل وسائل الإغواء التي يملكونها أمام السذاجة التي يعيشها هؤلاء الناس من السائرين على غير هدى.
ويثير القرآن أمامهم الحقيقة الثابتة في حركة الإنسان في الحياة، فالله الذي خلق الناس ودبّرهم وأنعم عليهم، هو الذي يعرف ما يصلحهم وما يفسدهم، وهو الرحيم بهم وهاديهم إلى سواء السبيل، وهو الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه، وهو الذي يملك الهدى كله، فهداه هو الهدى الذي لا يقترب منه الضلال، وعليهم أن يسلموا الأمر إليه، لأنه ـ وحده ـ الذي ينفعهم ويضرّهم ويحييهم ويميتهم، وهو ربّ العالمين.
إن هذه النقطة تمثل الإيحاء الغني لكل الأجيال المؤمنة التي تواجه الدعوات الضالة والكافرة العاملة على إبعادهم عن الخط المستقيم بأساليبها الملتوية ووسائلها المضلّة التي لا تمثّل شيئاً من معنى الحقيقة من قريب أو بعيد.
إن المطلوب هو وعي الإنسان للاتجاهات المضادّة للدخول في مقارنة واعية بين ما هو عليه من الإيمان بالحقّ وبين ما يدعو إليه المضلون للاتجاه نحو الباطل.
ـــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:161.
(2) م.ن.، ص:44.
(3) مفردات الراغب، ص:336.
(4) انظر: مجمع البيان، ج:4، ص:397 ـ 398.
(5) مفردات الراغب، ص:297.
(6) مجمع البيان، ج:4، ص:395.
(7) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1415هـ ـ 1995م، م:5، ج:7، ص:298.
(8) انظر: في الدر المنثور، ج:3، ص:292.
(9) تفسير الميزان، ج:7، ص:157.
(10) الدر المنثور، ج:3، ص:292.
(11) تفسير الميزان، ج:7، ص:158.
(12) مجمع البيان، ج :4، ص:395 ـ 396.
(13) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:1. 1412هـ ـ 1992م، م:7، ج:19، ص:349، باب:6، رواية:46.
(14) تفسير الميزان، ج:7، ص:145.
(15) مجمع البيان، ج:4، ص:395.
تفسير القرآن