تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 74 إلى الآية 79

 من الآية 74 الى الآية 79

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لأِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ*وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآَفِلِينَ* فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ * فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(74ـ79).

* * *

معاني المفردات

{لأِبِيهِ}: قال الراغب: الأب ـ الوالد، ويسمى كل من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أباً، ولذلك يسمّى النبي(ص) أبا المؤمنين قال الله تعالى: {النَّبِي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وفي بعض القراءات: وهو أب لهم. وروي أنه(ص) قال لعلي: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة» وإلى هذا أشار بقوله: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» وقيل: أبو الأضياف لتفقّده إياهم، وأبو الحرب لمهيّجها، وأبو عذرتها لمفتضّها. ويسمى العم مع الأب أبوين، وكذلك الأم مع الأب، وكذلك الجدّ مع الأب. قال تعالى في قصة يعقوب: {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَآئِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة:133] وإسماعيل لم يكن من آبائهم إنما كان عمهم، وسمّي معلم الإنسان أباه لما تقدم من ذكره، وقد حمل قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:22] على ذلك، أي علماءنا الذين ربونا بالعلم[1].

والظاهر أن إطلاق الأب على العم في الآية من باب التغليب في الذكر لا على نحو إطلاق اللفظ على معناه، ولذلك لم يعهد إطلاق الأب ـ المفرد ـ على العمّ إلا بعنايةٍ مجازية، وهذا هو الذي يُبعد احتمال حمل كلمة «أبيه» في الحديث عن إبراهيم على عمه، لا سيّما مع تحديد اسمه «آزر». وقد قال الزجاج ـ كما جاء في المجمع ـ: «ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارخ، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر، وقيل: آزر عندهم ذمّ في لغتهم كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه:يا مخطىء، فإذا كان كذلك فالاختيار الرفع، وجائز أن يكون وصفاً له، كأنه قال لأبيه المخطىء، وقيل: آزر اسم صنم، عن سعيد بن المسيّب ومجاهد.

قال الزجاج: فإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل، كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر وجعل أصناماً بدلاً من آزر وأشباهه، فقال بعد أن قال: أتتخذ آزر إلهاً أتتخذ أصناماً آلهة». ويعلق صاحب مجمع البيان على ذلك فيقول: وهذا الذي قال الزجاج يقوّي ما قاله أصحابنا أن آزر كان جدّ إبراهيم لأمه أو كان عمه من حيث صح عندهم أن آباء النبي إلى آدم كلهم كانوا موحدين، واجتمعت الطائفة على ذلك، وروي عن النبي(ص) أنه قال: لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنّسني بدنس الجاهلية. ولو كان في آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:28 ] ولهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها.[2]

ويمكن أن نلاحظ على الاستدلال المذكور، أن الظاهر من كلمة «الطاهرين» و«المطهرات» إرادة طهارة المولد، وربما يؤيد ذلك بقول بعضهم بأن «آزر» كان جد إبراهيم لأمه ما يدل بأن جده من قبل الأم كان كافراً مع أن نسبه متصل به، فإذا كان الكفر في النسب من جهة الأب قبيحاً في مقام النبوّة كان ذلك قبيحاً إذا كان النسب من جهة الأم، لأن الملاك واحد، وهو اتصال نسبه بالكافرين، وأما الاستناد إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} بتفسير النجاسة بالنجاسة الخبيثة، فيرده أن الظاهر إرادة النجاسة المعنوية من الآية بلحاظ القرائن المحيطة بالموضوع.

وقد حاول صاحب تفسير الميزان الاستدلال على أن آزر ليس والداً لإبراهيم، بأن الله تحدث في كتابه المجيد أن إبراهيم امتنع عن الاستغفار لأبيه المذكور في القرآن باسم «آزر» وتبرّأ منه بعدما اكتشف أنه عدوٌّ لله، ما يعني انقطاع الصلة بينه وبينه في الانفتاح على الاستغفار له، لأنه لا فائدة منه في قضيّة الإيمان بالله[3].

ولكن القرآن الكريم يدل على أن ابراهيم استغفر لوالديه في آخر أمره، وذلك هو قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] فإن الآية بما لها من السياق وبما احتف بها من القرائن، أحسن شاهد على أن والده الذي دعا له فيها غير الذي يذكره سبحانه بقوله: {لأِبِيهِ آزَرَ} فإن الآيات ـ كما ترى ـ تنص على أن إبراهيم استغفر له وفاءً بوعده ثم تبرّأ منه لما تبين له أنه عدوٌّ لله، ولا معنى لإعادته الدعاء لمن تبرّأ منه ولاذ إلى ربّه من أن يمسّه، فأبوه آزر غير والده الصلبيّ الذي دعا له ولأمه معاً في آخر دعائه.

ومن لطيف الدلالة في هذا الدعاء ـ أعني دعاءه الأخير ـ ما في قوله: {وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم:41] حيث عبّر بالوالد، والوالد لا يطلق إلا على الأب الصلبيّ، وهو الذي يلد ويولّد الإنسان مع ما في دعائه الأخير {وَاغْفِرْ لأِبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} [الشعراء:86] والآيات الآخر المشتملة على ذكر أبيه آزر، فإنها تعبر عنه بالأب والأب ربما تطلق على الجد والعم وغيرهما[4].

ونلاحظ على ذلك أن التأكيد على كلمة «الأب» في القرآن بشكل متكرر في كلام الله عنه وفي كلام إبراهيم في خطابه ودعائه له، يوحي بأن الإشارة إلى الجانب الأبوي في معنى النسب المباشر كما هو المتبادر من الكلمة.

ولا مجال للاستدلال على إطلاق كلمة الأب على العم بقوله تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلَـهَ آبَآئِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة:133] فإن الإطلاق وارد على سبيل التغليب؛ أما إطلاقه على الجدّ فهو منسجم مع انتسابه إليه بالولادة بشكل غير مباشر، ولم يُعهد استعمال كلمة «الأب» في غير الوالد والجد إلا على نحو المجاز، ولذلك فإنه لا شاهد على الحمل المذكور في السياق القرآني.

وأما ما ذكره من الشاهد على دعواه بأن إبراهيم استغفر لوالديه في آخر أمره، ما يدل على أن المقصود به غير آزر الذي تبرأ منه لما تبين له أنه عدوٌّ لله، فيرد عليه أن براءة ابراهيم من أبيه من حيث كفره وضلاله كانت منذ البداية حتى في حال وعده له بالاستغفار عندما قال له: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] كما أنه كان يؤكد ضلاله عندما استغفر له في قوله: {وَاغْفِرْ لأِبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} [الشعراء:86].

أما الآية الكريمة المستشهد بها {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فقد تكون واردة في السياق العام للاستغفار، وربما يؤكد ذلك أنه ابتدأ بالغفران لنفسه مع أنه معصوم بلحاظ مقام النبوّة أوّلاً، وبلحاظ واقع سيرته المعصومة فإنه لم يرد فيها أيّ ذنب أو خطأ، بل إن حديث الله عنه يدل على هذه العصمة المتحرّكة في كل حياته. إن تكرار كلمة الأب في القرآن والتركيز على ذكر اسمه يوحيان بأن إبراهيم(ع) كان يتكلم مع والده الذي كان يتكلم معه من الموقع الفوقي الذي يتكلم فيه الأب مع ولده، والله العالم[5].

 

{أَصْنَاماً}: الأصنام: جمع صنم، والصنم ما كان صورة، والوثن ما كان غير مصوّر، قال الراغب: الصنم جثّة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها متقربين بها إلى الله تعالى، وجمعه أصنام... قال بعض الحكماء: كل ما عبد من دون الله بل كل ما يشغل عن الله تعالى يقال له صنم[6].

{آلِهَةً}: جمع إله، وهو المعبود، جعلوه اسماً لكل معبود لهم وكذا الذات، وسمّوا الشمس إلاهة لاتخاذهم إياها معبوداً. قال الراغب: "وإله حقّه أن لا يجمع إذ لا معبود سواه، لكن العرب لاعتقادهم أن ههنا معبودات جمعوه فقالوا: الآلهة"[7].

{مُّبِينٍ}: البيّن الظاهر.

{مَلَكُوتَ}: آيات السماء والأرض، ودلالتها على سلطان الله وقدرته وعظمته لأنه(ص) رأى ملكوت كل شيء بيد الله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83].

قال الراغب: الملكوت مختص بملك الله تعالى أدخلت فيه التاء نحو رحموت ورهبوت[8]. وقال في مجمع البيان: الملكوت بمنزلة الملك غير أن هذا اللفظ أبلغ لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة[9].

والملكوت ـ كما يقول العلاّمة الطباطبائي ـ هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به.. ولذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هدايةً قطعيةً[10].

{جَنَّ}: أظلم عليه وستر بظلامه، وأصل الجن: ستر الشيء عن الحاسّة. يقال: جنّه الليل وأجنّه وجنّ عليه إذا ستره، وسمّي الجن كذلك لستره عن أعين الناس.

{أَفَلَ}: غاب واحتجب.

{الْقَمَرَ}: يسمى ثلاث ليال من أول الشهر الهلال، ثم يسمى قمراً إلى آخر الشهر. وإنما يسمى قمراً لبياضه، يقال: حمار أقمر أبيض.

{بَازِغاً}:طالعاً، والبزوغ: الطلوع، يقال: بزغت الشمس إذا طلعت.

{حَنِيفاً}: مائلاً إلى الحق.

* * *

إبراهيم(ع) مثال للفطرة الصافية في إيمانه

وتنعطف السورة انعطافةً جديدةً في حديثها عن العقيدة، متجهة إلى الفطرة الصافية، التي تنساب منها الأفكار بعفويّةٍ وبساطةٍ، قادرة على مواجهة الانحرافات الفكريّة دون تعقيدٍ فلسفيٍّ تحليليٍّ، لا لأنّ الفكر الإيماني لا يتحرك في اتجاه العمق في عمليّة الحوار، بل لأنّه يواجه قضايا الصراع من منطق الواقع في مفردات التصوّر وأدوات الساحة، فلا يعمل على أساس الحالة الذاتية للمفكر، بل على أساس الحالة الواقعيّة الإنسانيّة للآخرين، لأنّه يطمح إلى أن يعيشوا الإيمان في تجربتهم، لتكون حركة الإيمان لديهم قضيّة محاكاةٍ لا قضيّة معاناة.. ولهذا كانت الأساليب القرآنية في قضايا العقيدة سائرةً في هذا النهج الفطري غير المعقد، الذي يخاطب الفكر بالوجدان، ليلتقي بالحقيقة من أقرب طريق، لأن الوجدان الصافي، هو الغاية التي ينتهي إليها الفكر في معادلاته، فهو القاعدة التي تنطلق منها مقاييس الصواب والخطأ، انطلاقاً من ارتكاز المنطق النظري على بداهة الحقائق التي يقبلها الوجدان.

وفي ضوء ذلك نفهم أن هذا الاتجاه لا يعني تجنّب الفكرة العميقة على أساس أن القرآن لا يخاطب الفئات المثقفة، بل يخاطب البسطاء الذين يعيشون بساطة الفكرة والأسلوب. ونحن لا نوافق على ذلك، لأن القرآن جاء ليكون الحجة على الناس كافة، ليخاطب كل فرد بالحجة التي تقوم عليه، بل القضيّة كل القضية هي أن القرآن يتّجه إلى الفطرة في كل إنسان، في القضايا التي توحي بها، لئلا تغرق الفكرة في متاهات الجدل كأسلوب استعراضي يعقّد الفكرة لا كأسلوبٍ تفرضه طبيعة الأشياء. وبهذا يمكن للمفكر أن يؤمن بالحقيقة من خلال بداهته وفطرته، ثم يدخل في الحوار مع الآخرين في مجالات الصراع المعقّدة على أساس حاجة الساحة إلى الأساليب المعقدة استجابةً لحاجة الموقف من ذلك كله..

وتطالعنا ـ في هذا المجال ـ شخصيّة إبراهيم ـ النبيّ، التي يقدّمها لنا القرآن في صورة بسيطة صافية وعفوية في أجواء الصفاء الروحي والبساطة الإنسانية والطبيعة العفوية التي تلامس في الإنسان طفولته البريئة في ما تلتقي به من حقيقة الاشياء، ليفكر من خلال براءة النظرة في عينيه وسلامة الحس في أذنيه ويديه في ما يرى أو يسمع أو يلمس في يديه من أدوات الحسّ الواقعي. فنحن لا نرى فيه ـ من خلال الصورة القرآنية ـ شخصية الإنسان الذي يتكلف الكلمات التي يقولها للآخرين، ولا نلمح لديه روحيّة الشخص المشاكس الذي يبحث عن المشاكل في أفعاله وعلاقاته، بل نشاهد فيه الشخصية البسيطة الواقعية التي ترتبط بالأشياء من جانب الإحساس، فتسمي الأشياء بأسمائها بعيداً عن تنميق الألفاظ وزخرفة الأساليب، بقوّةٍ وصدقٍ وواقعيةٍ وإيمان.

* * *

إبراهيم بين الضلال والإيمان

{وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ففي الصورة الأولى، نلتقي به في موقفه من أبيه الذي يعبد الأصنام التي يعبدها قومه، فيواجهه بالرفض الجذري للموقف من الأساس، لرفضه الفكرة التي يرتكز عليها، فهذه الأصنام هي أحجار جامدة، كبقية الأحجار الموجودة في العراء، ولا ميزة لها إلا أنَّ يد الإنسان قد أعطتها بعض ملامح الصورة، فحوّلتها إلى تماثيل، فإذا كان الإنسان هو الذي أعطاها تلك الميزة التي تختلف بها عن سائر الأحجار، فهي صنع يده، فكيف تكون آلهةً له؟ ومن الذي أودع فيها سرّ الألوهة؟ وهل الألوهة شيء يُصنع ويُخلق أو هي قوّةً تَصنَع وتَخلُقُ؟ ثم إن الألوهة تعني القدرة والعلم والحياة والغنى المطلق في ما تشتمل عليه في حقيقتها، فأين هي هذه المواصفات في تلك التماثيل؟ إنها الأوهام التي حوّلت الأشياء غير المعقولة إلى عقائد وتصوّرات ورموز قداسةٍ في مستوى الالهة، فكيف تتخذ هذه الأصنام آلهة؟ إن فكره لم يلمح أيّة إشراقةٍ للحقيقة في ما تسير عليه، ولو من بعيد، بل كل ما هناك هو الظلام والتيه والضياع. هنا يتحوّل التساؤل إلى حكمٍ قاطعٍ في مستوى وعيه للحقيقة المنطلقة من خط الهدى، التي تحدّد ملامح الضلال في خطوط الآخرين..

إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل ولا يغلّف الأشياء بغلافٍ سحري؛ بل يدفع الموقف إلى الأمام، بكل وضوحٍ وصراحة، بعيداً عن اللياقة التي تفرضها علاقة الابن بأبيه، لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب العاطفي من العلاقات، فعلاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من أيّة علاقة بأيّ إنسان كان.

* * *

إبراهيم (ع) في رحلة تعرفه على الله

وفي الصورة الثانية نشاهد إبراهيم(ع) يتطلع إلى السماء، كما لو كان قد شاهدها أوّل مرة، فهو ـ في ما توحيه الآية ـ يواجهها كتجربةٍ جديدة لم يلتقِ بها من قبل، وذلك في ما تعنيه التجربة من المعاناة في حركة الحسِّ البصري كمادّة للتفكير، للانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادّة إلى المعنى. فقد كان يشاهدها سابقاً في رؤيةٍ جامدةٍ لا تعني له شيئاً، إلا بمقدار ما يعنيه انعكاس الصورة في العين، لمجرّد تجميع الصور في الوجدان، في ما يلتقي به الإنسان من مألوفاته العادية في حياته اليوميّة، وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـواتِ وَالأرْضِ} هي الرؤية الواعية الفاحصة المدققة التي تثير في النفس المزيد من التأمّل والحوار والاستنتاج، بدليل قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ما يوحي بأنها الرؤية التي تبعث على القناعة واليقين.

وأخذ يستعرض عقلياً عقائد قومه في عبادتهم للكواكب وللقمر والشمس، وهكذا التقى بالكواكب المتناثرة في السماء، في صورةٍ بديعةٍ في روعة التنسيق والتكوين، فما إن لمح كوكباً يتلألأ ويشعّ في قلب هذا الظلام المترامي، حتى سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحيّ أمام هذا الشعاع الهادي في الأفق البعيد، فخيّل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس إليه، لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد، الذي تتطلع إليه الأبصار برهبةٍ وخشوع، ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنهه.

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي} في صرخة الإنسان الطيّب الساذج الذي خُيل إليه أنه اكتشف السرّ الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحدٌ غيره، وكأنّه أقبل إليه في خشوع العابد، وفي لهفة المسحور، وفي اندفاعة الإيمان، وربما ردّد هذه الكلمة {هَـذَا رَبِّي} ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها بعيداً عن كل حالات الشك والريب، وبدأ الليل يقترب من نهايته، وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها، ثم بدأت تبهت وتبهت حتى غابت عن العيون، وحاول أن يلاحقها هنا وهناك، لقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح، وانكشفت له الحقيقة الصارخة، فقد كان يعيش في وهمٍ كبير، لقد أفل الكوكب، ولكن الإله لا يأفل، لأنه القوّة التي تمثل الحضور الدائم في الحياة كلها، فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة، لأن ذلك يتنافى مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حيّةٍ وغير حيّة، واهتزت قناعاته من جديد، وبدأ يسخر بالفكرة: {فَلَما أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}.

{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ} في صفاء الليل، ووداعة السكون، وكان الشعاع الفضي الساحر يلقي على الكون دفقاً من النور الهادىء الذي يتسلل إلى العيون فيوحي إليها بالخدر اللذيذ، ويخترق القلوب فيوحي إليها بالأحلام الساحرة، ويطل على الطبيعة فيغلّفها بغلافه الشفّاف الوادع الذي يثير في آفاقها الكثير من الأحلام، وبدأت المقارنة بين ذلك النور الكوكبيّ الذي يأتي إلينا متعباً واهناً في جهد كبير، وبين هذا النور القمري الذي يتدفق كشلاّل في قلب الأفق، فأين هذا من ذاك، فهذا هو السرّ الإلهي الذي كان يبحث عنه، {قَالَ هَـذَا رَبِّي} وعاش معه في حالةٍ روحيةٍ من التصوّف والعبادة لهذا الربّ النورانيّ الذي يتمثل في السماء قطعةً فضيّة من النور الهادىء الساحر، وفجأة بدأ الشعاع يبهت، ثم يغيب، وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد.. أين ذهب الإله وأين غاب؟ وهل يمكن للإِله أن يغيب ويأفل؟ وضجّت علامات الاستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟ وأين هو؟ وعاش في التصور الضبابيّ المبهم الغارق في الغموض يتوسل بالربّ الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضل ويضيع.. {فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} وما زال ينتظر وضوح الحقيقة.

وفجأةً أشرقت الشمس بأشعتها الذهبيّة الدافئة فأخذت عليه وجدانه.. {فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ} فأين حجم الشمس، من حجم القمر والكواكب؟! فلا بد من أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه، لأنها تتميّز عنهما بصفات كثيرة، وبدأ يتابعها وهي تتوهّج وتشتعل، وتملأ الكون كله دفئاً وحياةً وإشراقاً وجمالاً، فإذا به يهتزّ ويتحرّك في قوّةٍ وامتدادٍ وحيويّة دافقة، ولكن، ماذا؟ وبدأ يفكر، فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل.. ثم تغيب وتأفل.. وتترك الكون في ظلام دامسٍ، فكيف يمكن أن تكون إلهاً تعيش الحياة في قدرته وقوّته ما دامت تغيب مع المجهول تاركةً الكون كله في ظلام وفراغ؟ وأطلق الصرخة فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس في ما خيّل له، في وقتٍ من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب: {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} من هذه المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشش في كل حركةٍ من حركاتها، أو خطوةٍ من خطواتها، وتمرّد على كل هذه الاتجاهات الإشراكية، لأن الله لا يمكن أن يكون هذه الأشياء المحدودة، بل لا بد من أن يكون شيئاً أعظم من ذلك وأكبر، في القوّة والقدرة: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ}.

وهكذا تدفّقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحسّ بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته.. وأدرك أن الله لا يُحَسّ كما تحس الموجودات الآخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يُدرك بالعقل والقلب والشعور، من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون الكبير، من السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، فتترك لديه انطباعاً بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها، ومن خلال هذه الانطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والانفتاح، وقف بكل كيانه، ليحوّل كل وجهه ـ والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلعاتها ـ إلى الله، حنيفاً مخلصاً مائلاً عن خط الانحراف، فهو وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة المطلقة، بإحساس العبوديّة، وحركة الإيمان، الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة، التي تتألّه أو التي يحسبها الناس في عداد الآلهة: {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

* * *

رحلـة الإيمان

هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم، أو هي محاكاةٌ استعراضيّة للأجواء المحيطة به، في ما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر والشمس، في محاولةٍ إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، ما يعطي لموقفه بعض القوّة في الإيحاء، باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها، ثم تمرّد عليها؟

إننا نعتقد أن هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم(ع) في ما حدثنا القرآن عن حياته، فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ حالة تأثره بالجوّ المحيط به، بل ربما نرى الأمر ـ بالعكس من ذلك ـ حالة تمرّد على البيئة حتى في ما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم(ع) منه، وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم لأبيه حول الأصنام التي يعبدها أن هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائد.. هذا بالإضافة إلى أن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السموات والأرض، لا بدَّ من أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية الساذجة، لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على الحياة ليتطلع إلى ما فيها من موجودات يدركها البصر.

وربما كانت كلمة {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} إشارةً إلى ذلك، لتلتقي بكلمة {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله أفكاره وإيمانه، بكل الأشياء التي تركز للفكرة قوّتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحديات التي تواجهها، حتى في ما يشبه الأوهام، ليواجه الصراع الذي يعيشه، بانفتاحٍ وقناعةٍ وقوّةٍ لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات.

أمّا الاحتمال الأوّل، فقد يقرّبه القائلون، أن تكون الحادثة قد حصلت في بداية طفولته، عندما بدأ يتطلع إلى الأشياء، ويتأمل في الخلق. ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية. فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب البعيد في السماء ولكنه يشرق في قلب الظلام، فيشعر بالرهبة والروعة، فيصرخ ـ في مثل اللهفة ـ {هَـذَا رَبِّي}، انطلاقاً مما كان يسمعه بأن الإله بعيدٌ بعيدٌ عن الإنسان، فلمّا أفل أحس بالانقباض وقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، فقد نجد في كلمة {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} بعض كلمات الطفولة البريئة، التي تحبّ أو لا تحبُّ من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء، وتتكرر التجربة مع القمر، وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد، تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه، أو شيئاً قد طلبه.. وتتكرر خيبة الأمل من جديد.

ولكن الوعي يتنامى هنا، فلا نجد ردّ الفعل طفولياً، بل نلاحظ في ردّة الفعل حالة حيرةٍ وذهول وتوسّل إلى هذا الرب المجهول الذي يتمثله في وعيه هادياً لعباده، أن يهديه إلى الحق لئلا يكون من القوم الضالين.. وتشرق الشمس في هذا الدفق اللاهب من النور الذهبي في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق، فتكبر الصرخة في طفوليةٍ ظاهرة: {هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ} ويكون الاعتبار هذه المرة للحجم، في ما لا توحي به إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل، لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة، بما لا توحي به الأشياء الأقل حجماً.. وتتجدد خيبة الأمل بالأفول، ولكن تلك الإشراقة الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في قلبه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه الأوهام والظنون، هذه هي وجهة نظر هؤلاء، ولكننا قدمنا أن الاحتمال الثاني أقرب، لأن حديث القرآن عن إبراهيم(ع) لا يوحي بشيء من هذا القبيل، ما يدل على أنه كان موحداً بالفطرة منذ البداية.

وفي كلا الاحتمالين، يمكن للعاملين في حقل التوجيه، استيحاء الفكرة العملية في أسلوب التربية، من خلال الأسلوب الاستعراضي، في ما يتمثل فيه من مناجاةٍ ذاتية تجعل الإنسان يواجه الأفكار المطروحة في الساحة، مواجهة المؤمن بها، ثم يقوم بمناقشتها بالطريقة التي توحي باكتشاف مواطن الضعف والخلل فيها، بالمستوى الذي يجعلها بعيدةً عن الحقيقة، وعن إمكان اعتبارها عقيدةً ترتبط بها قضيّة المصير.. ولا يختص الأمر بالأفكار المتصلة بالعقيدة الإلهية، بل يمتد إلى جميع المجالات التي تمثل الخط العملي للحياة. ويمكن لنا ممارسة هذا الأسلوب في القصة والمسرح والسينما وغيرها من الأساليب التي تخاطب الجمهور لتوجيه قناعاته. وقد لا نحتاج إلى التأكيد على ضرورة دراسة المستوى العقلي والروحي للناس من أجل تركيز هذا الاتجاه على قاعدةٍ متحركة في الفكرة والأسلوب، كما يمكن استيحاء القصة في مدلولها الرسالي في عدم خضوع الإنسان للبيئة في ما تحمل من أفكار وعاداتٍ ومشاعر، بل يعمل على ممارسة دوره الذاتي المستقلّ، كإنسانٍ يفكّر بحريّةٍ، ويقتنع على أساس الدليل.

* * *

أخذ العبرة من براءة إبراهيم الفكرية والروحية

وتبقى لنا ـ في هذا المجال ـ هذه البراءة الفكرية من إبراهيم، حيث نتمثله إنساناً يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية، والعفوية الروحية، التي تلتقي بالقضايا من وحي الفطرة لا من وحي التكلف والتعقيد، ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على الله ـ سبحانه ـ عند اكتشافه للحقيقة والإقبال عليه بكل وجهه، وبكل فكره وروحه وانطلاقه العملي في الحياة، لأن توجيه الوجه لله، لا يعني ـ في مدلوله العميق ـ هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرةٍ حائرةٍ، بل يعني انطلاقة حياة الإنسان وكيانه مع الله في ما يحمل من عقيدة، وفي ما يرتبط به من فكر، ويتحرك معه من خط، وفي ما يستهدفه من أهداف، وفي ما يعيشه من علاقات وأوضاعٍ وتطلّعات، إنه الاندماج بالحقيقة الإلهية، بأن تكون الحياة كلها لله، وفي خدمته.

ولعلّ قيمة هذه الفكرة، أننا لا نستوحي آفاقها وخطواتها العملية تجريداً ونظرياً لنعيش معها في متاهات التجريدية، بل هي حركة الإنسان ـ النبيّ الذي يعيش حركة الإيمان والفكر في حياته من موقع إنسانيته البسيطة، ليوحي بأن دور الإنسان الذي يريد أن يحقق إنسانيته، هو أن ينعزل عن كلّ الحدود المادية الضيقة التي تشده إلى الأرض في استسلامٍ ذليل، ويرتبط بالحقيقة المطلقة التي يحلِّق من خلالها مع الله.

* * *

مع العلامة الطباطبائي في الميزان

وهنا نقطتان، الأولى: وهي أن العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان حاول أن يجعل من استدلال إبراهيم(ع) على نفي ربوبية الكواكب بقوله {لا أُحِبُّ الآَفِلِينَ} بطريقةٍ أخرى، وهذا ما ذكره بنصه. قال: «وفيه إبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له، فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه ولا يستقيم تدبيرٌ كونيٌّ مع الانقطاع.

على أن الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب، وهو يؤدي إلى حب المربوب لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله، وما يشاهد من أن الإنسان يحب كثيراً الجمال المعجل والزينة الداثرة، فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه وزواله، فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوّقة التي تحيا وتموت وتثبت وتزول وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين، وهذا وجه برهاني وإن كان ربما يتخيّل أنه بيان خطابي أو شعري، فافهم ذلك.

وعلى أي حال فهو(ع) أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له، إما بالتكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لأن المربوبية والعبودية متقومة بالحب، فليس يسع من لا يحب شيئاً أن يعبده. وقد ورد في المروي عن الصادق(ع): «هل الدين إلا الحب؟»…

وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب، وإنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية، لأن الربوبية والألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية"[11].

ونلاحظ على ذلك، أن التركيز على مسألة الحب كعنصر أساس في الاستدلال، باعتبار اقتضاء الرابطة بين الرب والمربوب حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ليس دقيقاً، لأن قضية الحب هي قضية الأحاسيس والمشاعر التي تنفتح على المحبوب من خلال العناصر الموجودة فيه مما يحبه الإنسان كالجمال والقوة والعلم ونحو ذلك، بحيث يتأثر الشعور به فينجذب إليه في الحالة الفعلية التي هو عليها بقطع النظر عن طبيعة الفناء والبقاء فيه.

إن ما ذكره من أن حب الإنسان للجمال المعجّل ـ حسب تعبيره ـ ناشىء من استغراقه فيه وعدم التفاته إلى فنائه هو خلاف الوجدان، لأن الناس الذين يحبون بعضهم بعضاً ملتفتون إلى فناء المحبوب من خلال عروض العوارض التي تهدد حياته ومن خلال الفكرة المرتكزة في أذهانهم من شمول الفناء لكل الخلق.

إن الإنسان يتأثر بالصفات المحبوبة في الشخص المحبوب بلحاظ وجودها الفعلي الذي ينجذب إليه الإحساس من دون أن يكون للبقاء والزوال أيّ دخل فيه، بل إننا نرى أن الحب يبقى ـ حتى بعد فناء المحبوب ـ وهذا ما قد نلاحظه، في العشاق الذين بلغ بهم العشق حدّاً بحيث يصابون بالكثير من حالات الألم والحزن والمرض لموت المحبوب الذي يبقى حبه في قلوبهم.

أمّا كلام الإمام الصادق(ع): «وهل الدين إلا الحب»[12]، فقد يكون المقصود به التعبير عن الدرجة التي لا بد من أن يبلغها الإيمان في الجانب الشعوري، بحيث يتحوّل إلى حالةٍ من الحبّ لله من خلال معرفته به وانجذابه إليه، بمعنى أن الحالة العقلية تتحول إلى حالة شعورية، لأن ذلك هو الذي يحرّك الإنسان نحو الارتباط العملي بالدين، لأن هناك فرقاً بين الطاعة الصادرة عن خضوعٍ ناشىءٍ من خارج الذات، والطاعة الصادرة عن خضوع من داخل الذات.

إن المسألة لديه هي الحب الشعوري الخاص المنطلق من الحب العقلي الذي يرتكز على الاقتناع بالصفة التي تجذب إلى الحب، لا الحب الذي يتحرك من خلال العناصر الذاتية.

ومن خلال ذلك، يظهر أن الحجة هي الأفول الذي ينافي مقام الربوبية لا الحب، وهذا هو الذي يؤكد ما ذكره بعضهم ـ كما يقول صاحب الميزان ـ أن الكلام كان تعريضاً خفياً لا برهاناً نظرياً جلياً، يعرّض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدري شيئاً من أمر عبادتهم، وهذا هو السبب في جعله الأفول منافياً للربوبية دون البزوغ والظهور، بل بنى عليه القول بها، فإن من صفات الرب أن يكون ظاهراً وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه»[13].

ويرد عليه صاحب الميزان أن وضع قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} بين الآيات المتضمنة لحججه(ع) أدلُّ دليل على كون حججه مأخوذة من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله وآياته»[14] لأن إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض تحركت في نطاق مشاهداته وتأملاته التي عبّر عنها بطريقته الخاصة في مسألة الانفعال بالكوكب أو الشمس أو القمر الذي جعله مبهوراً بجمالها وعظمتها ليصرخ بكل ذهول:{هَـذَا رَبِّي} ثم يأتي الانفعال المضاد من خلال أفوله، لينتهي من خلال هذه الحركة التأملية إلى الإيمان بالله، الأمر الذي يؤكد أن مسألة الأفول كانت جزءاً من حجته على رفض الإيمان بما آمن به قومه من عبادة الكوكب الذي قيل إنه الزهرة والقمر والشمس لأنها لا تتمتع بسرّ الربوبية في وجودها.

وقد علل العلامة الطباطبائي أخذ الأفول في الحجة دون البزوغ بأن البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذي بنى الحجة عليه بخلاف الأفول، وهذا مبني على اعتبار عدم الحب هو الحجة وقد بينا فساده[15]، ولذلك فلا يرد على الزمخشري ما ذكره في تفسير الكشاف حيث قال: «فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حالٍ إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب»[16].

النقطة الثانية: إن إبراهيم(ع) كان يعيش التأملات الفكرية والروحية التي كانت تتحرك في ذاته بما يشبه القلق الباحث عن الحقيقة، فقد بدأ بالتعبير عن الضيق النفسي الذي أحسّ به بعد أفول الكوكب، في براءةٍ طفولية رافضةٍ لهذه الظاهرة التي تغيب وتفقد نورها، فلا تملك العنصر الذي تتميز به الربوبية في معناها المرتكز في ذهنه.

ثم كان الرفض الثاني لربوبية القمر الذي بهره نوره الهادىء فقال، وهو يعيش الحيرة القوية التي يخاف منها على نفسه من الضياع إذا لم يبلغ حقيقة اليقين: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} وانطلق الرفض الثالث لربوبية الشمس في النتيجة النهائية الحاسمة التي تحوّل فيها القلق إلى اقتناع ببطلان ربوبية هذه الظواهر الكونية، فلا مجال لإدخالها في فرضية الإله، لتبقى الحقيقة الوحيدة التي تفرض نفسها على العقل والوجدان من حيث إنها فرضت نفسها على الوجود كله وهي الله الواحد الذي لا شريك له، ولذلك قال في صرخة الوصول إلى الحقيقة: {قَالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً} فهو وحده الذي خلق الكون كله، ولذلك فإنه ـ وحده ـ الذي لا بد من أن يتوجه الخلق إليه بالعبادة والطاعة والخضوع.

وهكذا انطلق التوحيد إبراهيمياً، فكان {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا}[البقرة:135] لأنه تحرك في الوجدان من خلال المعاناة الفكرية والشعورية التي طرحت عن الإنسان كل الحواجز التي تحجزه عن اكتشاف الحقيقة من خلال الفطرة الصافية الكامنة في النفس التي توحي بالتوحيد ورفض الشرك.

ــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:3.

(2) مجمع البيان، ج :4، ص:401.

(3) انظر: تفسير الميزان، ج:7، ص:168.

(4) تفسير الميزان، ج:7، ص:169 ـ 170.

(5) ينقل الطبري في جامع البيان عن مجاهد أنه قال: ن آزر لم يكن والد إبراهيم [تفسير الطبري، م:5، ج:7، ص:316]. وقال الألوسي في روح المعاني: إن الشيعة ليسوا وحدهم الذين يعتقدون أن آزر لم يكن والد إبراهيم بل إن كثيراً من علماء المذاهب الأخرى يرون أن آزر عم إبراهيم، وينقل السيوطي عن الفخر الرازي في كتابه أسرار التنزيل: إن والدي رسول الله موحدون ولم يكونوا مشركين أبداً، وينقل أن هناك روايات تقول: إن آباء رسول الله(ص) موحدون وكانوا حتى آدم كان كل واحد منهم أفضل زمانه. وهناك رواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) عما قال: آزر عم إبراهيم، فإذا صحّ ذلك كله فإننا نلتزم بالمسألة من خلال الروايات لا من خلال القرآن الكريم ك ما جاء في الميزان [راجع، تفسير الميزان، ج:4، ص:401].

(6) مفردات الراغب، ص:295.

(7) م.س.، ص:17.

(8) م.ن.، ص:493.

(9) مجمع البيان، ج:4، ص:401.

(10) تفسير الميزان، ج:7، ص:177.

(11) تفسير الميزان، ج:7، ص:183.

(12) البحار، ج:27، باب:4، ص:95، رواية:57.

(13) تفسير الميزان، ج:7، ص:191.

(14) انظر: م.ن، ج:7، ص:191.

(15) م.ن.، ج:7، ص:192.

(16) الزمخشري، أبو القاسم، محمود بن عمر الخوارزمي، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ج :2، ص:32.