من الآية 80 الى الآية 83
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}(80ـ83).
* * *
معاني المفردات
{وَحَآجَّهُ}: خاصمه، المحاجة: أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحجته، والحجة: الدلالة المبينة للمحجّة، أي: المقصد المستقيم الذي يقتضي صحة أحد النقيضين .
{وَلَمْ يَلْبِسُواْ}: لم يستروا ولم يخلطوا. واللبس: الستر، وأصل اللبس ستر الشيء، ويقال ذلك في المعاني. يقال: لبست عليه أمره.
{بِظُلْمٍ}: جاء في المجمع: قال الأصمعي: الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، قال الشاعر يمدح قوماً:
هرتُ الشقاشق ظلامون للجزر
يريد أنهم عرقبوها فوضعوا النحر في غير موضعه[1].
أما المراد بالظلم هنا، فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه الشرك انطلاقاً من قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:31] وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: "لما نزلت هذه الآية شقّ على الناس وقالوا: يا رسول الله، وأيّنا لم يظلم نفسه؟! فقال(ص) إنه ليس الذي تعنون ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح، يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. وقال الجبائي والبلخي: يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة"[2]، وجاء في الحديث عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ (ع) مما رواه أبو بصير قال: "سألت أبا عبد الله عن قول الله عز وجل {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: بشكّ، وفي رواية أخرى عنه أنه الشرك"[3].
والظاهر أن الكلمة تتسع لكل انحراف عن خط الإيمان بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن ذلك مصداق لوضع الشيء في غير موضعه بالانحراف بالعقيدة عن أصولها وتفاصيلها ومسارها الطبيعي وعن موقعها الحقيقي، بحيث تشمل ـ في بعض الحالات ـ الانحراف العملي الذي يتحرك في خط الانحراف العقيدي، كالذين ينحرفون عن ولاية الحق إلى ولاية الباطل، ومن ولاية الله إلى ولاية الشيطان، وهذا ما تحدثت به الروايات عن أهل البيت(ع) في تطبيق المسألة على الولاية بفروعها المتعددة.
* * *
المحاجّة بين إبراهيم وقومه
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} ودخل قوم إبراهيم معه في حوارٍ عاطفيٍّ ـ إن صح التعبير ـ فقد حاولوا التأثير عليه بأساليب التخويف من غضبة الأصنام عليه، كما يوحي جوابه في الآية، وما يظهر من الكلام الذي نقله الله ـ في آيةٍ أخرى عنهم ـ {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]. وربما يبدو من جوّ هذه الآيات أنهم لا ينكرون وجود الله، بل كانوا يشركون به في العقيدة والالتزام، إذ كانوا يريدون له أن يتفادى النتائج السلبية من كفره بالأصنام، بالانتقال إلى الإيمان بها كشركاء لله.
{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِى اللَّهِ} ووقف إبراهيم يناقشهم من موقع القوي في العقيدة والالتزام، فهو لا يعتبر قضية توحيد الله قضيةً فكريةً تأخذ مجالها في الحوار والنقاش، بل هي قضيةٌ وجدانيةٌ يحسّ بها الإنسان في فكره كما يحس ببديهيات الأمور، ويعيشها في إحساسه كما يحس بالأشياء من حوله، لأنها تتحرك في كيانه كإشراقة النور في العيون، فهي لا تحتاج إلا إلى الفطرة السليمة التي تواجه الأشياء من دون حجابٍ أو تعقيدٍ، لتوازن في يقظةٍ وجدانية بين ما هو الفقر المطلق في كل الموجودات، والغنى المطلق في ذات الله، لتخرج بنتيجة واضحة، أنه هو الخالق للكل، من دون أن يكون له منازعٌ يعادله ولا شبيهٌ يشاكله ولا ظهيرٌ يعاضده، هو مصدر الحياة والقوّة في كل شيءٍ.
وفي ضوء هذا، أراد إبراهيم(ع) أن يوحي إليهم بأن توحيده لله، لا يمكن أن يرقى إليه الشك ليدخل في حوارٍ حوله، لأن سبيله في الإيمان، ليس سبيل التقليد اللاّواعي، بل هو سبيل المعاناة الفكرية والروحية التي عاشت الهدى كله لله في وعيها للحقيقة المطلقة.
أمّا هم فمشكلتهم أنّهم لم يهتدوا، لأنهم عطّلوا إحساسهم عن الالتقاء ببديهيات الأفكار، وأغلقوا وجدانهم عن الحقيقة القادمة إليهم ببساطة، وجمّدوا فطرتهم عن الحركة في آفاق الحياة. ولذلك فإن عليهم الرجوع إلى فطرتهم، ورفع الغشاوة عن بصيرتهم، والانطلاق إلى الحقيقة بصفاء، ليجدوا الهدى بانتظارهم في بداية الطريق، لا في نهايته، وبذلك يكون قوله: {وَقَدْ هَدَانِي} وارداً على سبيل الإيحاء بالوضوح الذي يعيشه في مواجهة الضباب الذي يحيط بهم.
أمَّا الخوف من الأصنام، فهو من الأمور التي لم ترد في حسابه، لأنه يعرف جيّداً طبيعتها الخالية من كل حياة أو إحساسٍ أو قوّة.. {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فهي لا تملك لنفسها أيّة قوّة إيجابية أو سلبيّةٍ، فكيف تملك الإضرار بالآخرين؟ وهكذا يواجه موضوع التخويف باحتقار واستهانةٍ {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} ولكنه يخاف الله من خلال إدراكه لعظمته المطلقة {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
ولهذا أراد أن يوحي بأن هذا الإحساس بالأمن أمام الأصنام وغيرها لا ينطلق من الشعور بالقوّة الذاتية، بل من الإحساس بالرعاية الإلهية التي تحميه من كل ما يمكن أن يكون مصدراً للضرر، بشكل واقعي أو افتراضيّ من خلال ما يتوهمه الناس، فإذا أراد الله الإضرار به من خلال أيّ شيء منها، فلا مجال للدفاع، فهو مصدر الأمن عند إحساس الإنسان بالأمن، وهو مصدر الخوف في ما يمكن أن يكون أساساً للخوف، لأنه المحيط بكل شيء، فيعرف منها ما لا نعرف، فيسلّطها على من يشاء، ويمنعها عمّن يشاء، وهكذا نجد في هذا الاستثناء ما يشبه الاستثناء المنقطع الذي لا يرتبط بمدلول الكلمة بل يتصل بإيحاءاتها بما حولها من الأشياء والقضايا {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}.
ثم يختم الفكرة، بالدعوة إلى أن يتذكروا من خلال التفكير الواعي المستقل غير الخاضع للتقاليد، ليلتقوا بالحقيقة من أقرب طريق.
{وَكَيْفَ أَخَافُ ما أَشْرَكْتُمْ} ثم يبدأ عملية الهجوم بإثارة الخوف من غضب الله الذي لا تقوم له السماوات والأرض في ما أشركوا به، وفي ما تمرّدوا عليه، ليوحي إليهم بأن القضية عكسيَّة {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ}، فهم الذين يجب أن يخافوا، لا هو، لأنهم قد أشركوا بالله {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً}، من دون حجّةٍ ولا برهانٍ، أمَّا هو، فقد آمن به وأطاعه، فمن الذي يحميهم من الله، ومن هو الذي يعيش الإحساس بالأمن؟ هل هو الذي يرتبط بمصدر القوة المطلقة، أو هم الذين لا يرتبطون بأيّة قوّة؟ وتنتهي الآية بالاستنكار: {فَأيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ثم يحدد الفريق الآمن، إنهم {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ولم يخلطوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} هؤلاء هم أصحاب الإيمان الصافي الذي لا يشوبه شيء.
والظلم هنا في الآية ينطلق من خلال مفهومه العام الذي يمثل التصرف الذي لا يملك الإنسان معه أيّ حقٍّ أو شرعيّةٍ، وبهذا أطلق الظلم على الشرك في قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وأطلق على المعصية وعلى العدوان، لأن كل هذه الأمور تمثل التعدي على ما لله من حقٍّ في التوحيد وفي الطاعة، كما تمثل التعدي على حقوق العباد. أمّا مصداقه هنا ـ في موضوع الآية ـ فهو الشرك. ولكن الآية توحي بالمعنى الأوسع الذي يحتوي الموقف الإيماني كله في ما يريده الله من الصفاء والنقاء في العقيدة وفي العمل، فهذا هو الذي يوحي بالأمن، وهو الذي يلتقي بخطّ الهدى.
وتلك هي الحجة التي ألهمها الله لنبيّه إبراهيم {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} من أجل أن يثير في أنفسهم القلق الروحي الذي يدفعهم إلى البحث عن الحقيقة ليحصلوا على الأمن من خلال المعرفة المرتكزة على أساس من وعيٍ وفكر. وهكذا يريد الله لرسله أن يرتفعوا في درجات المعرفة والإيمان والمنزلة، في ما يحققه لهم من فرص، ويمنحه لهم من امتيازات، وفي ما يعيشونه من مواقف، ويحيطهم به من رعايته ورحمته ولطفه، وفي ما يقرّبهم إليه من مستوى النبوّة المتحركة في خط الحياة، لتجعلها قريبة إلى الله بالفكر والإيمان والعمل.
{نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ} وذلك هو فضل الله يؤتيه من يشاء فيرفع درجات من يشاء من عباده، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} تبعاً للحكمة فيما يريده للخلق من رفعة، ويهيّئء لهم من منزلة، {عَلِيمٌ} وما يعلمه مما يصلح أمورهم في جميع مجالات الحياة. وبذلك اصطفى من اصطفى من عباده ليكونوا الأنبياء الذين يحملون رسالته إلى الناس، بعد أن اطلع على صفاء أفكارهم، وعمق روحيتهم، وسعة آفاقهم، وطهارة قلوبهم وسلامة مواقفهم، لأن قضية الاختيار لدى الله لا تمثل امتيازاً ومنحةً للأنبياء، بل تمثّل المسؤولية في نطاق الحكمة، على أساسٍ من الحق الذي أقام عليه الخلق وبنى عليه الحياة.
وهنا قد يتساءل الإنسان: هل الخوف يمثل الحجة والدليل في ما أرادوه أو أراده إبراهيم(ع)؟ ونجيب: إن الخوف حالةٌ وجدانيةٌ انفعالية لا تحمل في داخلها فكراً معيّناً، ولكنها تحرك الفكر، من خلال ما تثيره في النفس من الشعور بالحاجة إلى الأمن مما يخاف منه، الأمر الذي يحرّك في الإنسان الإحساس بالمسؤولية ويحمله على ملاحقة الفكرة التي توحي بالخوف، بحثاً عن الأمن الذي ينشده، وبذلك كان الكفار يحاولون تخويف إبراهيم(ع) للضغط عليه نفسياً ومنعه من التمرد على الأصنام، بينما كان إبراهيم يدفعهم إلى مواجهة المسألة بفكرٍ مسؤول يحمل لهم الإيمان الذي يحقق لهم الأمن والسلام. وفي ضوء ذلك كان أسلوب التخويف حثّاً على التحرك باتجاه الوصول إلى الدليل، وليس هو الدليل.
وترشدنا هذه الآيات إلى مواجهة حملة التخويف والتهويل التي يثيرها المستكبرون في إعلامهم ضد المؤمنين الرافضين للأوضاع الاستكبارية من أجل إسقاط مواقفهم، وهزيمة نفسياتهم، وذلك من خلال تخويفهم بالقوة الضخمة التي يملكها الاستكبار في مواقعه من جهة، والاستهانة بالله في الواقع الإيماني الذي يعيشه المؤمنون من جهة أخرى.
إن على المؤمنين أن يقفوا موقف ابراهيم أمام الكفار من قومه في ثبات العقيدة وأصالتها والإحساس بالقوة والأمن من خلال الارتباط بالله، فهو الذي يملك الأمر كله ويوحي للإنسان بكل عناصر القوة التي يمدها بأسرار الغيب في صلابة الموقف وأصالة الإنسانية، فإذا أحسّ بالضعف في موقع، فإنه سوف يواجه القوة في إيحاءات الإيمان وحركة التوفيق الإلهي في موقع آخر، الأمر الذي يتحول فيه الارتباط بالله إلى عامل إيحاء بالقوة، كما حدثنا الله به عن موقف النبي(ص) في ليلة الهجرة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
وهذا ما نحتاجه في تأصيل عملية التربية الإسلامية لملء نفس الإنسان المؤمن ثقة بالله وتوكّلاً عليه، وإحساساً عميقاً بالأمن الروحي الذي لا يزحف الخوف إليه، لأن ذلك ما يركّز بناء الشخصية الإسلامية على الإحساس بالقوّة في ساحة التحدّي والصراع.
ـــــــــــــــ
(1) مجمع البيانن م:2، ص:408.
(2) (م.ن)، م:2، ص:408.
(3) البحار، م:23، ج:66، ص:569، باب:32، رواية:11.
تفسير القرآن