تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 91 إلى الآية 94

 من الآية 91 الى الآية 94
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ* وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تزعمُونَ}(91ـ94).

* * *

معاني المفردات

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: أي ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق عظمته، والقدر والتقدير تبيين كمية الشيء، وقدر الشيء كميته من عظم أو صغر ونحوهما واستعمل في المعاني بمعنى العطية. يقال: قدر فلان عند الناس يعني عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعه ويلزم ذلك الوصف والمعرفة.

{قَراطِيسَ}: جمع قرطاس: وهو ما يكتب فيه من ورق وجلد وغيرهما.

{مُبَارَكٌ}: جاء في مفردات الراغب: أصل البَرْكِ صدر البعير وإن استعمل في غيره، ويقال له: برْكَةٌ، وبَرَك البعير ألقى رُكَبَهُ واعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب وبَرَاكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال، وابتركت الدابة وقفت وقوفاً كالبروك، وسمّى محبس الماء بِركة. والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ} [الأعراف:96] وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير على ذلك {وَهَـذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} تنبيهاً على ما يفيض فيه من الخيرات الإلهية. قال: ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس وعلى وجهٍ لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بما روي أنه لا ينقص ماله من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال بيني وبينك الميزان. ثم أنهى كلامه أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات.

* * *

{أُمَّ الْقُرَى}: مكة، سميت بذلك إما لأنها قبلة أهل القرى أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس، فكأن القرى نشأت منها، أو لأن الدعوة ابتدأت منها، فكأن القرى في العالم تتفرع منها وترجع إليها كما هي الأم بالنسبة إلى أطفالها، ولهذا كانت مكة هي المركز، وتوصف المدن والبلدان بالأقصى والأولى تبعاً لدنوها وبعدها منها، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {ألـم*غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ} [الروم:1 ـ 3].

{افْتَرَى}: أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أفريه فرياً، فكأن الافتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له، والفترة الغشية، شدائد تحيط بصاحبها وتغمره فتولّد السكرات.

{غَمَرَاتِ}: جمع غمرة وغمرة كل شيء معظمه وغمرات الموت شدائده، وأصله الشيء يغمر الأشياء فيغطّيها، وجعل مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها «الجهل المطبق» وسمي من يرمي نفسه في الحرب مغامراً.

{الْهُونِ}: ـ بضم الهاء ـ الهوان، والهَوْن ـ بفتح الهاء: الدعة والرفق ومنه {يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63].

{فُرَادَى}: جمع فرد ـ وهو الذي لا يختلط به غيره، فهو أعم من الوتر وأخص من الواحد ـ كما يقول الراغب[1].

{خَوَّلْنَاكُمْ}: التخويل الإعطاء وأصله تمليك الخول كما أن التمويل تمليك الأموال، وخوّله الله أعطاه مالاً.

{بَيْنَكُمْ}: البين: مصدر بان يبين إذا فارق. قال أبو زيد: بان الحيُّ بينونة وبيناً إذا ظعنوا وتباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعاً.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ في الآية {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي(ص)، فقال له النبي(ص): أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟، وكان حبراً سميناً، فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية[2].

وقال ابن عباس ـ في رواية الوالبي ـ قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتاباً، قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} وقال محمد بن كعب القرظي: أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يسأل أهل الكتاب عن أمره وكيف يجدونه في كتبهم فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله، وقالوا: {مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} فأنزل الله تعالى هذه الآية[3]: وذكر في رواية أخرى أن آية {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} يعني مشركي قريش[4].

ونلاحظ أن اختلاف هذه الروايات يوحي بأن القضية لم تكن رواية عن الحسّ في حضورهم في وقت نزول الآية أو روايتهم عمن عاش في تلك الحالة، بل كانت اجتهاداً شخصياً في محاولة لتطبيق الآية على حادثة أو واقعة مفروضة عندهم، ويؤيد ذلك التكلف في أسلوب الروايات، والله العالم.

وقد نلاحظ على هذه الروايات أنه ليس من الطبيعي إنكار اليهود إنزال الكتاب على بشر في الوقت الذي يلتزمون التوراة ككتاب أنزله الله على موسى(ع). وقد ردّ العلامة الطباطبائي ـ قدس سره ـ في الميزان بأنه لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصّباً على الإسلام أو تهييجاً للمشركين على المسلمين، أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي(ص) يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين… إلى آخر ما قال[5].

ولكن هناك فرقاً بين الموقف من المسلمين أو من بعض التفاصيل وبين إنكار إنزال الكتاب على بشر أياً كان، فإن ذلك يؤدي إلى إنكار أساس دينهم مما لا يتناسب مع إصرارهم بأنهم هم الذين يمثلون الشرعية الدينية من قبل الله وأنهم وحدهم أهل الكتاب؛ والله العالم.

كما أن رواية القرظي لا تنسجم مع طبيعة الأمور إذ لا نعقل وجهاً لتكليف الله النبي(ص) لأن يسألهم عن صفته في كتبهم ليجيبوا بنفي وجود كتاب منزل من الله من حيث الأساس.

وقد جاء في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ} الآية، نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي كان يسجع ويتكهن ويدّعي النبوّة ويزعم أن الله أوحى إليه[6].

وجاء فيه في قوله تعالى: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد تكلم بالإسلام، فدعاه رسول الله(ص) ذات يوم يكتب له شيئاً، فلما نزلت الاية التي في المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلالَةٍ} أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون:14] عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله(ص): هكذا أنزلت عليّ، فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد قلت كما قال، وذلك قوله: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ}وارتدّ عن الإسلام، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي[7].

وجاء في مجمع البيان أن قوله: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي للنبي(ص) فكان إذا قال له: اكتب عليما حكيماً كتب غفوراً رحيماً، وإذا قال له: اكتب غفوراً رحيماً كتب عليماً حكيماً، وارتد ولحق بمكة وقال: إني أنزل مثل ما أنزل الله، عن عكرمة وابن عباس ومجاهد والسدّي، وإليه ذهب الفراء والزجاج والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر(ع)[8].

وقد نلاحظ على رواية مسيلمة أنه لم يكن في مستوى يشكل خطورة على الدعوة البارزة التي تؤدي إلى الخطورة بحيث ينزل الله فيه قرآناً ليردّ عليه قوله أو ليبعد الناس عنه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه السورة مكية بينما ظهر مسيلمة في آخر حياة الرسول(ص) في المدينة، إلا أن يقال: إن هذه الآية نزلت في المدينة ثم ضُمّت إلى السورة بأمر رسول الله(ص) كما قال بذلك بعض القائلين.

وهكذا نتساءل عن شخصية عبد الله بن أبي سرح كيف اعتمده النبي كاتباً للوحي في الوقت الذي لم يكن مؤتمناً على الوحي، وكيف يمكن أن ينطق بآية قرآنية قبل أن يلقيها النبي(ص) عليه، لتكون المسألة من قبيل توارد الخاطر بينه وبين الوحي. إن هذه الملاحظات تبعث على الاستغراب؛ والله العالم.

وجاء في مجمع البيان أن آية {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حين قال: سوف يشفع لي اللات والعزى، عن عكرمة[9].

ونلاحظ على ذلك، أن سياق الآية وارد في تحديد النتائج النهائية للمستقبل الذي يواجهه المشركون بشكل عام من خلال المنطق الذي يثير في شفاعة الأصنام لهم على طريقة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فهو منطقٌ عام وليس حديثاً فردياً ليكون حدثاً بارزاً يؤدي إلى نزول الآية؛ والله العالم.

* * *

وما قدروا الله حق قدره

وهذا حديث مع اليهود، ومع جميع المنحرفين عن خط الدعوة إلى الله، في ما كانوا يثيرون من كلماتٍ غير مسؤولةٍ، لا ترتكز على أساسٍ من فكرٍ وعقلٍ. وسنلاحظ أنّ هذه الآيات تتنوّع في مناقشة بعض الأفكار، وإثارة بعض علامات الاستفهام التي لا يقصد منها السؤال الساذج، بل التسجيل الدقيق للمعلومات الحقيقيّة التي يتنكّر لها هؤلاء، ثم إدخالٌ إلى الجو في روحيّة الموعظة التي تفتح القلب على الله في أجواء التأملات الذاتية الهادئة أمام قضية المصير.

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} بل وقفوا أمامه وقفة الإنسان الذي لا يحس بأجواء العظمة في ما توحيه ذاته من الخشية والرهبة والخضوع، فكانوا ـ في موقفهم هذا ـ كمن يستهين بعظمة الله وسطوته وقوّته وقدرته، فلم يشعروا بالمسؤولية في ما يواجهون به رسله من التحديات، أو يؤمنون به من أفكار، وفي ما يثيرونه من شبهاتٍ ويتخذونه من مواقف، ولم يخافوا من نتائج مواقفهم تلك.

إن الذين يخافون الله هُمُ الذين يقدّرون تصرفاتهم لجهة ما يأخذون وما يتركون، تبعاً للمواقع التي ينتظرونها في مواقفهم أمامه في اللحظات الحاسمة للحساب، أمّا الذين لا يبالون بما يصدر منهم من قولٍ أو فعل، من حيثُ ارتباطه بحركة المسؤولية في حياتهم، فهم الذين لا يقدرون الله حق قدره، وهذا ما يتمثَّل في موقف هؤلاء {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}، لأن مثل هذا القول يدلّل على افتقادهم للوعي المسؤول، لأنهم لا يملكون أيّة حجة عليه، ما يعرّضهم لسخط الله وعذابه الذي توعّد القائلين عليه بغير علم، بالعقاب والعذاب الأليم.

وكيف يملكون الحجة على النفي، في ما لا يستطيعون الإحاطة به من فعل الله؟! فإن صعوبة إقامة الحجة على النفي تزيد كثيراً عن إقامتها على الإثبات، لأن الإيجاب محدود بحدود الفعل من حيث الزمان والمكان، بينما يشمل السلب المطلق كل آفاق الموضوع.

وربما كان المعنى أن تقدير الله حق قدره يفرض إيمانهم بحقيقة الألوهية في خصائصها الربوبية من حيث إرسال الرسل وإنزال الكتب التي تقود الناس إلى ما يصلح أمرهم وشؤونهم الروحية والأخلاقية، والمعارف العالية التي لا يملكون الحصول عليها إلا من خلال وحي الله، لأن الله هو الهادي الذي يهدي خلقه إلى طريق سعادتهم، فإذا لم يفعل ذلك، فإنه يكون مقصراً في حركة لطفه ورحمته، وفي ضوء ذلك، فإن إنكار إرسال الرسل وإنزال الكتاب، يوحي بأن هؤلاء لا يعرفون قدر الله ومنزلته في مواقع رحمته وهدايته، والله العالم.

* * *

القرآن يواجه إنكار اليهود

ويتابع القرآن الموقف لمواجهتهم بالاحتجاج المضادّ، ولكن بصورة سؤالٍ صارخ: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} فهم يؤمنون بالتوراة، أو هكذا توحي به الآية، وربما كان هؤلاء من اليهود الذين ينتسبون إلى التوراة، ولعل هذا ما جعل الآية تؤكد على هذا الكتاب دون الإنجيل الذي لا يؤمنون به، أو لأن النصرانية التي تتمسك بالإنجيل لم يكن لها تأثير في الذهنية العربية على أرض الدعوة، التي أراد القرآن أن يقتحمها ليغيّر تفكيرها أو طريقتها في التفكير.

وقد نستوحي من التأكيد القرآني على ما استهدفته توراة موسى(ع)، من النور الذي يضيء للناس آفاق المعرفة، والهدى الذي يدلّهم على طريق الحق والإيمان، أن الله يريد أن يوحي لهؤلاء بأن قضيّة الوحي ليست انتماءً تقليديّاً لا يغيِّر شيئاً من واقع الشخصية، بل هي قصة الانفتاح على إشراقة الحق وهداه، التي تجعل من الإنسان كياناً واعياً جادّاً، في ما يخطّط من طريق، ويسير إليه من هدف.

ولكن هؤلاء لم يحصلوا من ذلك على شيء، بل اتخذوه وسيلةً لشهواتهم وأطماعهم، وهذا ما أشارت إليه الآية {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا} في ما لا يضرّ مكاسبهم وامتيازاتهم {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} مما يكون حجةً عليهم، ممّا يثبت صحة الإسلام وواقعية النبوّة لمحمد(ص).

لعلّ من الواضح أن الذمّ لليهود لم يكن لكتابتهم التوراة في القراطيس، بل إن المسألة تتّصل بهذا النوع من توزيع آيات التوراة على القراطيس المتفرقة لا في كتاب واحدٍ، مما يمكنهم من إبداء البعض وإخفاء الآخر إذا طالبهم الناس بالحجة على بعض ما يختلفون فيه معهم مما أثبتته التوراة وأنكروه.

{وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} فقد جاء الكتاب ليضع بين أيديهم الأسس الصحيحة للعلم الذي لا يملكون هم وآباؤهم فرصةً ذاتيةً له، لأن هذه المعارف والعلوم والأخلاق والشرائع تنظم للإنسان حياته من خلال عمق مصالحه الحيوية التي يملك الإنسان بحسب تجاربه الذاتية أن يصل إليها، ولكن الوحي هو الذي يعلمهم ذلك بكل قواعده وتفاصيله. ولكنهم لم ينتفعوا بذلك، في ما توحي به كلماتهم هذه. وقيل: إنه خطابٌ للمسلمين يذكّرهم بما أنعم به عليهم، ولكنه خلاف ظاهر السياق الوارد مورد الاحتجاج لا على نحو الجملة المعترضة التي لا ظهور للكلام فيها، مع ملاحظة أن هذا القول يفرض تغيير مورد الخطاب من اليهود إلى المسلمين ولا قرينة عليه ـ كما جاء في تفسير الميزان ـ[10] .

ويفرض السؤال نفسه عليهم، فلا يجيبون عليه، أو هكذا يريد القرآن أن يوحي، في ما يهدف أن يوحي إلينا به عن حالهم، ولكنها الحقيقة التي تفرض نفسها على الجواب، {قُلِ اللَّهُ} فهو الذي خلق الناس ليرتفعوا بالحياة إلى المستوى الذي يريده ويرضاه، وهو الذي يُرسل الرسل، ويُنزل الكتب، ليعلّمهم كيف يكونون أحسن عملاً، وأكثر جديةً، وأشدَّ قوَّةً وآثاراً، وهو الذي يفتح قلوب الواعين على الإيمان به.

قل الكلمة الحاسمة ـ يا محمد ـ ودع الحقيقة تفرض نفسها على الأفكار والأسماع والقلوب، ولا تتعقّد أمام أيّة وقفةٍ مضادّةٍ، أو شبهةٍ حادّة، ولا تعبأ بما يقولون وما يخوضون فيه من أحاديث وتفاهات، وما يمارسونه من ألعاب الغوايات.. {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لأنهم لا يواجهون الحياة بالعقليّة الجادّة، بل يواجهونها بالعقلية اللاهية اللاعبة التي تعبث بالكلمات والمواقف بعيداً عن حركة المسؤولية ووعي الإيمان، ولهذا أنكروا ما أنكروه وابتعدوا عما ابتعدوا عنه.

* * *

هذا كتاب أنزلناه مبارك

{وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} كما أنزلنا الكتاب الذي جاء به موسى(ع) على نهج الكتب التي أوحى بها الله إلى رسله، فهو الذي يتضمّن كل ألوان البركة وما يفتح الخير على الناس، لأنه يهديهم إلى سبل السلام إذا اتّبعوه، ويمنحهم الصفاء الروحي والنموّ العقلي. وهي الصفات التي تجعله مباركاً في آياته ومفاهيمه وشرائعه وحركيته في واقع الحياة والإنسان، كما تجعله مصدقاً لما بين يديه من الكتب التي يصدّق بعضها بعضاً، والتي تخاطب إنسانية الإنسان في كل زمانٍ ومكانٍ {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وهي مكة {وَمَنْ حَوْلَهَا} من القرى في ما تتسع له الدعوة، ويتحرّك فيه الإنذار.. وليس معنى ذلك أن الدعوة الإسلاميّة تنطلق في أجواء محليّةٍ محدودة، بل إن معناه الانطلاقة الأولى للدعوة في نطاق حركة الرسول(ص)، من خلال ما تسمح به إمكانات التحرّك الأوّل في نطاق الجزيرة العربية، كمرحلةٍ رائدةٍ للدعوة، ثم تتحرك في سائر أقطار الأرض في المراحل الأخرى، إذ لا وجه لهذه المحدوديّة في أفكار الدعوة التي لا تمثل أيّة حالةٍ محليّةٍ في مفاهيمها وقضاياها المطروحة وما تتضمنه من قضايا إنسانية عامّة.

وربّما كان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشارةً إلى أنّ قضيّة الإيمان به موجّهة إلى كل المؤمنين بالآخرة الذين يواجهون آياته بالإيمان من موقع الشعور بالمسؤوليّة في ما يرجون من ثواب الله وعقابه. وقد يكون قوله تعالى: {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} إيحاءً بالروح الإيمانية الفاعلة المتحركة، في ما تمثله الصلاة من التزامٍ روحيٍّ وعمليٍّ في علاقة الإنسان بالله، وفي انسجامه مع الأجواء التي تثيرها الدعوة إلى الله في فكر الإنسان وضميره. وقد أثار بعض المفسرين احتمال، أن يكون المراد من كلمة {وَمَنْ حَوْلَهَا} سائر أقطار الأرض على أساس إحاطتها بمكة، ولكنه بعيد عن طبيعة الكلمة التي تعني المناطق المجاورة للبلد، والله العالم.

* * *

افتراء الكذب على الله أكبر الظلم

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} إن خطورة الظلم تتحدد بنقطتين:

النقطة الأولى: الآثار السلبية للفعل أو للكلمة الصادرة من الإنسان، في ما تثيره من أوضاعٍ سيّئةٍ في حياة الناس.

النقطة الثانية: الجهة التي يمثّل الظلم معنى التحدّي العملي لحقّها وسلطتها ومكانتها في ما تمثله من موقعٍ كبير في قداسته وعظمته وحرمته.

وفي ضوء ذلك، نفهم كيف تمثّل هذه النماذج التي تتحدث عنها الآية، المرتبة العليا من الظلم.. ففي الكلمة الأولى، نواجه الذي افترى على الله كذباً بسبب ما ينسبه إلى الله من كلمات وشرائع ومفاهيم مما لم يقله الله ولم يشرّعه ولم يوح به..

وفي الكلمة الثانية، نواجه الذي ادّعى نزول الوحي عليه زوراً وبهتاناً، لأنه لم يوح إليه بشيء، لأن للوحي علامات ودلالات لا يملكها في ما يملكه أنبياء الله من ذلك.

وفي الكلمة الثالثة: نواجه الذي يقول:{سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} في ما يعبّر عنه ذلك من استهانةٍ بالوحي، وغرورٍ يتحرك في خطّ الاستعلاء، وتحدٍّ لرسل الله بدون حق أو سلطان..

.. وفي كل هذه النماذج، نجد الخطورة الكبرى تتمثّل في التعدّي على مقام الله سبحانه، والانتقاص من حرمته، عندما يقف هذا الإنسان الضعيف في قوّته، الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ليتحدّى الله بكلامه، فيفتري عليه الكذب، ويدّعي لنفسه الصلة به بطريق الوحي من دون حق، ويستهين بما أنزله الله على رسله، فيزعم لنفسه القدرة على أن يُنزل مثله.. وأيُّ ظلمٍ أبشع من هذا الظلم بما يمثّله من اعتداءٍ على حرمات الله، لأن الظلم لا يعني الاعتداء من موقع القوة، بل يشمل العدوان من موقع التمرّد والافتراء والعصيان.

أما الآثار السلبية الناتجة عن هذه الكلمات في ما تمثله من انحراف، فهي تزييف الوجه المشرق للحياة في فكرها وشريعتها وموقعها وصورتها الحقيقيّة، ما يؤدي إلى تحريف الخط الفكريّ والعملي للإنسان، وإلى تخريب المسيرة الصادقة، في ما تثيره هذه النماذج أمامها من عقباتٍ ومشاكل وتحدّيات، الأمر الذي يحوّل الطاقات إلى ساحات للصراع، بدلاً من تحريكها في خط البناء والتأسيس.

وإننا لنعرف أن مشكلة الإنسان في الحياة هي مشكلة هؤلاء الذين لا يرضون للصدق وللحق أن يفرض مفاهيمه وشعاراته وسلطته على الساحة، فيقفون أمامه، ليواجهوه بالعنف والقوة، وليفسحوا المجال للباطل وللكذب أن يركِّز قواعده في داخلها. وبذلك تتحطّم القيم الكبيرة، وتتهدّم القواعد الثابتة، ويسير الإنسان في طريق الضياع نحو المجهول. وفي ذلك الظلم كل الظلم، لأنه ليس ظلم الفرد في ماله أو في جسده، بل هو ظلم الإنسان في حاضره ومستقبله، وظلم الحياة في حركتها وقوّتها، وفي انفتاحها على إشراقات الحق في ينابيع الضياء.

ومن هنا نستطيع أن نقرّر أن الذين يظلمون الحياة والإنسان في حرمان الساحة من حركة الحقيقة، هم أشدّ من الذين يتعسّفون في استعراض عضلاتهم ضد الضعفاء، لأن ظلم الفكرة يلغي معنى الحياة في إحساس الإنسان، أمّا ظلم الجسد، فإنه قد يثير الألم ولكنه يعمّق إحساس الروح بانطلاقة الحياة ويثيرها نحو عالم جديد حُرٍّ.

ولهذا، فإن قضية الحرية في الفكر، تأخذ الدور الأكبر والأوسع من قضية الإنسان في جهاده من أجل أن يحقق إنسانيته، تماماً كما هي قصة الحرية في الجوانب الأخرى في الحياة، فإن الإنسان قد يصبر على الحدّ من حريته في أن يأكل كما يشاء أو يلبس كما يريد، ولكنه لا يصبر كثيراً على الحدّ من حريته في أن يفكر ويحسّ بانفتاح، ولهذا وجدنا الإسلام يثير في وجدان الإنسان إرادة التفكير، ويمنحه حريّة الفكر، ويحاول أن يحيط ذلك بضوابط من خلال ما يريد أن يوجهه إليه من مناهج الفكر، ويحركه نحو انطلاقة الحوار، لئلا تتحول نزعة الحريّة إلى ما يشبه الفوضى.

* * *

الذل والهوان والعذاب جزاء للظالمين

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} وهذه الصورة الحيّة المعبّرة التي يعرضها القرآن لحالة الضعف المدمّر الذي ينتهي إليه هؤلاء المتمرّدون على الله ورسوله، في ما أعطوه لأنفسهم من حجمٍ كبيرٍ، يوحي للآخرين بالقوّة التي يملكونها في مواجهة رسالات الله.

فها هم الآن في غمرات الموت، ينتقلون من شدّةٍ إلى شدّة.. في إحساس عميقٍ بالألم، وشعورٍ مريرٍ بالضياع، وانسحاقٍ ذليل أمام الضعف المطلق الذي تمثله حالة انتزاع الحياة من أجسادهم، عند اقتراب الموت منهم، في هذا الجو الكئيب الذي يقف فيه الملائكة في صورة الجماعة المكلّفة بمهمّةٍ محدّدةٍ، ولهذا، فإنهم يبسطون أيديهم لإتمام عملية التسلّم، في أسلوب يوحي بأن على هؤلاء الظالمين أن يخرجوا أنفسهم باختيارهم ليسلّموها، من دون أن يملكوا فرصةً أخرى للتردد أو للرفض، ما يخلق ـ في وعيهم ـ الشعور بتفاهة دورهم ووجودهم وضعف قوتهم أمام الله...

ولا يقف الملائكة عند هذا الحدّ، بل يعلنون لهم كيف تكون النهاية لهذا الاستكبار والتمرّد على الله ورسله.. فليست القضية قضية نقلٍ للروح من مكانٍ إلى مكان، ولكنها قضية عذاب الذلّ والهوان الذي يواجههم عند الله بسبب أعمالهم وأقوالهم {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} بما كنتم تفترون وتكذبون وتمنحون أنفسكم صلاحية التنظير والتشريع بغير علمٍ أو حجة، {وَكُنتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} في ما توحون به لأنفسكم من الشعور بالكبرياء، وفي ما تمارسونه في سلوككم من الاستعلاء على الآخرين من عباد الله الضعفاء، وفي ما تواجهون به الأنبياء من استهزاءٍ وتمرّدٍ.

وقد نستوحي من تأكيد الآية على {عَذَابَ الْهُونِ} أن الله يريد أن يثير في نفس الإنسان الشعور بأن العذاب الأخرويّ يواجه الإنسان بالإذلال، بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من آلام.. ليحرّك فيه مشاعر العزّة، كأسلوب يوجهه إلى الابتعاد عما يجلب إليه الذل الذي لا ذلّ مثله، لأنه يمثّل حالة الانسحاق الكلي الذي لا يملك الإنسان ـ معه ـ لنفسه أيّة قوَّة أو ثباتٍ، وليركز في نفسه قيمة البحث عن العزّة في الآخرة، إذا كان يفكر بهذه القيمة الإنسانية، لأنها ترتكز على قاعدةٍ قويّة في ما ترتبط به من رضوان الله من جهةٍ، وما تنطلق به من العمل الصالح من جهةٍ أخرى..

أمّا عزّة الدنيا فإنها لم ترتكز على هذين العاملين، فهي لا تملك قيمة ذاتية تذكر، لأنها ترجع إلى عوامل طارئة، في ما يملكه الإنسان من مالٍ، وفي ما يعيشه من علاقاتٍ وأوضاعٍ ومواقف، بعيداً عن العمق الروحي الذي يهيمن على كل أبعاد النفس، فلا يترك فيها أيّ موقفٍ للذل أمام نزوةٍ أو شهوةٍ أو طمعٍ طارىء..

وقد نتوقف عند كلمة {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} فنرى أن إعطاء الشرك هذا العنوان، وهو القول على الله بغير الحق، يدلّ على أن الله يريد من الإنسان أن يكون صادقاً معه، في ما يعتقده من عقائد، وفي ما يثيره من أفكار، أو يقفه من مواقف.. فلا بدَّ له من التأمّل والتركيز على العمق في سبيل الحصول على القناعات الإيمانية والفكرية والعمليّة، لأن أيّ فكر حقّ هو قول على الله بالحق، بينما يكون الفكر الباطل قولاً عليه بغير الحق في ما يمثله الحق من ارتباطٍ بالله، الأمر الذي يبعد القناعة بالحق والباطل أن تكون حالةً ذاتية شخصيةً مرتبطة بالشخص، فيجعلها حديثاً مرتبطاً بالله ومنسوباً إليه، فتكون النسبة إليه صدقاً في حالةٍ، وافتراءً في حالةٍ أخرى.

وقد نتوقف عند كلمة {عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} فهي توحي أنّ موقف الكفر أو الابتعاد عن الحق لا يمثّل حالةً فكريةً موضوعيّةً مضادّة لخط الإيمان، بل يمثِّل ـ في عمقه ـ عقدةً ذاتيةً استعلائية تمنع الإنسان من الخضوع للحق، الذي يعتبرونه خضوعاً لدعاة الحقّ، وتنازلاً ذاتيّاً عن قناعاتهم التي يعتبرونها جزءاً من الذات، ما يجعل من التعصب لها تعصباً للذات، ومن الحفاظ عليها حفاظاً على الكرامة وعلى الوجود. ولعلنا نجد ذلك واضحاً في الكثير من الممارسات الفكرية والعملية المضادّة التي تنطلق من خلفيّات الاستكبار والاستعلاء، بعيداً عن أيّة قناعةٍ فكريةٍ أو روحيّة.

وقد نستوحي ـ من ذلك ـ أن التواضع، والعمل على بناء الشخصية الإنسانية عليه، لا يتصل بالجانب السلوكي العملي للإنسان، بل يمتد إلى الجانب الفكريّ منه، في ما يتركه من تأثير على مواجهته للأفكار بروحيَّةٍ متواضعةٍ للحقّ، فلا تتعقَّد من أيّ تغييرٍ في الفكر الذي تتبناه، لمصلحة فكرٍ آخر يتبناه آخرون، لأنها لا ترى الذات صنماً تتعبد له، لتحافظ على موقعها من ناحيةٍ مزاجيةٍ، بل ترى فيها كياناً يعيش الإنسان مسؤوليته من أجل أن يرتفع به إلى مستوى التكامل الفكري والروحي والعملي، وبذلك فإنه لا يرى في الفكر الذي يتبناه أو يتبناه الآخرون، شيئاً يمثل الانتماء الذاتي للشخص، بل هو الخط الذي ينتمي إليه الآخرون بدلاً من أن ينتمي إليهم، في عمليّة التقييم، فإن قيمة الإنسان السلبية والإيجابية تتحدد بالفكر الحق، أو بالفكر الباطل الذي ينتمي إليه، في ما يمثِّله من وعيٍ سلبيٍّ أو إيجابيّ، وبذلك يمكن أن نقول أن هذا الإنسان واعٍ أو ليس بواعٍ..

وفي ضوء ذلك، لا يعتبر التنازل عن أيّ فكرٍ لمصلحة فكر آخر تنازلاً للذين يتبنونه؛ وهذا ما يجب أن نؤكد عليه في خط التربية الأخلاقية في الإيحاء بالمدلول الواسع للنتائج الإيجابية في مجال الفكر والعمل، لأن حركة الشخصية لا تختلف في ما ترتكز عليه من القاعدة الأخلاقية الواحدة.

* * *

بعث الإنسان يوم القيامة فرداً

ويستمر الأسلوب الذي يريد الله ـ من خلاله ـ تصوير حالة الضعف المطلق، التي تحيط بالإنسان من كل جهةٍ، ليوحي إليه بأنه لا يملك شيئاً إلا بالله، فهو الفقير في وجوده، وهو الفقير في ما يحقق له استمرار ذاك الوجود في تفاصيل أوضاعه، فلا حول له ولا قوّة إلا بالله..

ونرى في هذه الآية كيف أن الله يصوِّر له الوضع الذي يبعثه فيه إليه فرداً ليس معه أحد، كما خلقه من العدم وليس معه أحد..{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} وإذا كان قد حصل في وجوده الأوّل على بعض القوة، في ما يحيط به من الناس القريبين منه أو البعيدين عنه، أو في ما يملكه من المال، فإن الله هو الذي أعطاه ذلك، وأراد له أن يحصل عليه ويتنعم به، فهو الذي رزقه الإخوان والأولاد، وهو الذي خوّله المال... حتى إذا شاءت إرادة الله أن يترك ذلك كله، ويرجع كما كان من دون مالٍ أو إخوان، أخذه إليه أخذ عزيزٍ مقتدر.. فها هو يقف الآن أمام الله، فرداً ضعيفاً وحيداً فقيراً لا يملك شيئاً ولا يملك أحدٌ أن ينفعه بشيء، أو يعرف عنه أيّ شيء..

إن الله يريد للإنسان أن يختزن في ذهنه الصورة التي توحي بأن كل شيء لديه هو من الله، فلا يجوز له أن يفكر بأيّ تصرف ينحرف به عنه، وبأيّ إنسان يطيعه من دونه، لأن مثل هذا الإنسان لن يقف معه عند الشدّة، ولن يجده في موقف القيامة.

وهذا ما أراد الله أن يثيره في ذهن الإنسان من هذه الصورة الأخرويّة التي يشاهد فيها نفسه، وهو يتلفت يميناً وشمالاً، ليبحث عن هؤلاء الذين أطاعهم ـ في الدنيا ـ في معصية الله، وخضع لهم، وتمرّد على الله لأجلهم ممن كان ينتمي إلى خطّهم، ويسير في طريقهم، فلا يجد أحداً منهم.. ويأتيهم النداء من الله في أسلوب السخرية والتبكيت: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ} في ما تشركونهم به في العبادة، أو في العقيدة، فإذا كانوا شركاء ـ كما تزعمون ـ فلا بد لهم من أن يكونوا معكم، ليمنحوكم الحماية في ما يملكون من القوة.. ولكن الحقيقة المرّة تفرض نفسها عليهم {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} لأن الروابط التي كانت بينكم لم تكن قويّة شديدة، فلم تتماسك بل تقطعت لدى أوّل تحدٍّ، وأصبحت هباءً.. {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} لأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فكيف يملكونه لكم.

وهكذا ينتهي هذا الفصل بالموقف المرير الذي يثير مشاعر الحسرة والألم في نفس هذا الإنسان، ليكون ذلك عبرةً له، من أجل أن يجنّب نفسه صعوبته وحراجته، فيتفادى أسبابه العملية في الدنيا، قبل أن ينتقل إلى الآخرة.

* * *

البركة في التصور القرآني

لقد جاء في الآيات السابقة كلمة {مُبَارَكٌ} وصفاً للقرآن، وقد أثير الحديث حول طبيعة هذه البركة هل هي حسية خاضعة للأسباب والمعطيات العادية في علاقة المسببات بأسبابها بمعنى الزيادة والنموّ المادي والنفع العملي، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} [مريم:31] أي نفاعاً للناس، أو هي معنوية روحية تنفتح على الجانب الروحي للإنسان من خلال الله سبحانه الذي يفيض الخيرات والبركات على الناس من لطفه ورحمته كما في قوله تعالى حاكياً عن الملائكة في حديثهم مع إبراهيم {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ}؟!

والظاهر أنّ الله يفيض البركة على الحياة وعلى عباده بالخيرات المتنوعة في الجانب الماديّ والمعنويّ بما يمنحهم من نعم الحياة الدنيا التي تتوقف عليها شروط حياتهم ونموها أو زيادة لذائذها وشهواتها، ومما يعطيهم من سعادة الروح ونموّ القلب وصفاء الروح والرضوان منه والطمأنينة والسكينة النفسية.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل أن البركات الإلهية النازلة من الله تتجاوز الأسباب والقوانين الطبيعية المتصلة بوجود الأشياء، فلو أراد الله أن يبارك للإنسان في رزقه، فهل يعني ذلك أنه يرزقه من غير أسباب الرزق التي خلقها الله في الحياة، أم أنها تتحرك من خلال الأسباب، بمعنى أن الله سبحانه يحرّك هذه الأسباب لتؤدي دورها في إنتاج الخير للإنسان بالطريقة التي تنسجم مع حاجاته الجسدية والمعنوية وتتحقق بها أغراضه من دون فسادٍ ولا ضياع؟

إنَّ تدخّل الله في حركة البركة في حياة الإنسان لا يلغي الأسباب ولا يبطلها عن التأثير، لأنها جزءٌ من قانونه الذي أودع في داخله سرّ حركة الأشياء ووجودها، بل إنه يمنحها قوّة وحيويّة وأسباباً خفيّة في بعض الحالات، فالمسألة ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يؤول الأمر إلى تزاحم أو إبطال[11].

فهناك شيء من المادية للبركة في طبيعة الأشياء، وهناك شيء من الروحية الإلهية في حركة السببية في داخل أوضاعها وشؤونها.

إن الله سبحانه هو ولي الأشياء، وهو مبدع نموّها وزيادتها وسعتها في الحسيات والمعنويات، ولهذا فإن البركة مظهر من مظاهر رحمته ولطفه ورعايته للواقع الإنساني الذي هو أثر من آثار ربوبيته للكون كله، وهو القادر على إيجادها بالأسباب الطبيعية وغيرها بحسب حكمته في تقدير الأمور ورعايته للإنسان والحياة.

ـــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:389.

(2) أسباب النزول، ص:122.

(3) م.ن، ص:122.

(4) انظر: الدر المنثور، ج:3، ص:314.

(5) تفسير الميزان، ج:7، ص:280.

(6) أسباب النزول، ص:122.

(7) م.س، ص:122 ـ 123.

(8) مجمع البيان، ج:4، ص:417.

(9) م.س، ج:4، ص:420.

(10) انظر: تفسير الميزان، ج:7، ص:285.

(11) تفسير الميزان، ج:7، ص:291.