تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 95 إلى الآية 99

 من الآية 95 الى الآية 99
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّليْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ* وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لاَْيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(95ـ99).

* * *

معاني المفردات

{فَالِقُ}: الفلق: شقّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض: يقال: فلقه فانفلق، والفلق: الصبح لأن الظلام ينفلق عنه. والفلق: المطمئن من الأرض بين ربوتين كأنّه منشقّ عنها.

{الْحَبِّ}: جمع حبّة، وهو ما لا يكون له نوى كالبُرّ والشعير.

{وَالنَّوَى}: جمع نواة.

{الإِصْبَاحِ}: والصبح واحد، وهو مصدر أصبحنا صباحاً. وقد روي عن الحسن أنه قرأ فالق الأصباح بالفتح يريد صبح كل يوم، وما قرأ به غيره[1].

{سَكَناً}: الذي يسكن إليه.

{حُسْبَاناً}: جمع حساب، وهو استعمال العدد.

{فَمُسْتَقَرٌّ}: المستقر الوجود الفعلي الذي تحرك واستقر في الأرض المتمثل بالمخلوقات الإنسانية.

{وَمُسْتَوْدَعٌ}: الوجود الكامن في الأصلاب وفي الأرحام والذي يمثّل الوديعة التي تنتظر خروجها بتوفّر شروطها بإرادة الله، فيكون معنى {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} مستقرٌّ في الأرض ومستودع في الأصلاب. وقيل: مستقر في الأرض ومستودعٌ في القبور، وقيل أيضاً: مستقرٌّ في الآخرة ومستودع في الدنيا[2].

{مُّتَرَاكِباً}: متفاعل من الركوب، أي: تركب بعضه على بعض.

{طَلْعِهَا}: طلع النخل أول ما يبدو من ثمره وقد أطلع النخل.

{قِنْوانٌ}: أعذاق الرُّطب. جمع قنو، وهو عذق البلح الذي يشبه عنقود العنب.

{مُشْتَبِهاً}: يشبه بعضه بعضاً في النوع والشكل وغيرهما.

{وَيَنْعِهِ}: نضجه واكتماله، وقيل: جمع يانع.

* * *

الله فالق الحب والنوى

وهذه جولةٌ قرآنيّةٌ في رحاب الكون، يريد الله من خلالها حث وعي الإنسان على التأمّل والتفكير في عظمته من خلال الإحساس بعظمة مخلوقاته، ليشعر بارتباط كل شيءٍ به، ورجوع كل مخلوقٍ إليه، فيجد كل شيء صغيراً من خلال حاجته إليه..

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} إننا نقف أمام هذه الحبة الجامدة، من الحنطة، أو الشعير، أو الأرز، وهذه النواة من الثمر والزيتون وأمثالهما.. فلا نجد فيها أيّ مظهرٍ من مظاهر الحركة والحياة، حتّى إذا وضعناها في الأرض، ومسّها الماء، انشقّت من أسفلها وأعلاها، وخرجت من الشقّ الأسفل عروق تهبط في الأرض، لتمتصّ الماء وكل عناصر الحياة في التربة، في ما تشتمل عليه من خصائص، وخرجت من الشق الأعلى عروقٌ تتحوّل إلى شجرةٍ تمتد في الهواء، ثُم تذوب الحبّة والنواة، لتتحوّل إلى جسمٍ واحدٍ تمتدُّ عروقه في الأرض، وتنطلق أغصانه في الفضاء، فمن الذي أودع في هذه الحبة والنواة سرّ النمو والحياة؟ مَن الّذي حرّك فيها كل عناصر النمو تلك؟ لا شيء تحمله في ذاتها يحتم ذلك كله، بل هو الله الذي أعطى لكل شيء سببيّته، وألهم كل شيء هداه.

* * *

مخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} إنها القدرة الإلهية العظيمة المبدعة، التي لا تتجمّد في حدود الحياة والموت، بل تحرك في إبداعها الحياة من قلب الموت، وتزرع الموت في قلب الحياة، فتخرج الميت من الحيّ، وتخرج الحيّ من الميت. وهكذا تريد هذه الآية أن توحي بالخط العام الذي تتمثل فيه القدرة في هذا التفاعل بين الحياة والموت، في الوقت الذي يوحي التقابل بينهما بالتضادّ.

وقد مثّلوا لإخراج الحيّ من الميّت، بالنبات الغضّ الطريّ الخضر المنبثق من الحبة اليابسة، ولإخراج الميت من الحيّ، بالحب اليابس من النبات الحي النامي، ومثَّل له آخرون بالإنسان أو الحيوان الذي يخرج من النطفة وهي موات، أو بالنطفة التي تخرج من الإنسان الحي وهي موات. ومثَّل له بعضٌ بغير ذلك. وربما كانت الكلمة شاملة للجميع، لأن الفكرة تتحرك من خلال المبدأ الذي يوحي بعظمة القدرة، بعيداً عن التفاصيل التي يريد الله للإنسان أن يبحث عنها في حركة الوجود المتنوعة على الأرض {ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي تصرفون عنه إلى غيره، ممن لا يملك أيّ شأنٍ من شؤون القدرة الخالقة المبدعة.

وقد علَّق صاحب الكشّاف على هذا الاختلاف في التعبير بين فقرة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} حيث جاءت بصيغة الفعل المضارع وبين فقرة {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} حيث جاءت بصيغة اسم الفاعل، فقال عن الفقرة الثانية: «عطفه ـ أي ومخرج ـ على فالق الحَبّ والنوى لا على الفعل، ويخرج الحي من الميت موقعه موقع الجملة المبيّنة لقوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيّ من الميت لأن النامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله: {وَيُحْيِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19][3].

* * *

سرّ النظام في قدرة الله الحكيمة

{فَالِقُ الإِصْبَاحِ} الذي أخرج النور من قلب الظلمة، وحرَّك الحياة من خلال ذلك، ليسعى فيه الإنسان إلى رزقه وتدبير أمره، ليبلغ غايته في الحصول على مبتغاه في الدنيا والآخرة، فكيف حدث ذلك، ومن هو الذي أودع في نظام الكون سرّ الضياء، وسرّ الحركة؟

{وَجَعَلَ الليلَ سَكَناً} ليستريح فيه الإنسان من جهد النهار، ويتخفّف من عناء الحركة، فيسترخي استرخاء المتعب الذي يبحث عن راحة يجدِّد فيها طاقته ليوم عملٍ جديدٍ، لتستمرّ الحياة في نظامها الطبيعيّ بين راحةٍ تتحرك نحو الجهد والتعب في النهار، وبين تعبٍ يبحث في هدوء الليل عن الراحة.. وذلك هو الدليل على أن الكون يرتكز على سرّ النظام في القدرة الحكيمة المبدعة، حيث يكتشف الإنسان فيه الله سبحانه وتعالى.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أي: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب لا يتجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، بحيث يكون للأرض حركتان: حركة تتم في أربع وعشرين ساعة، وعليها مدار الأيام، وحركة تتمّ في سنةٍ، ومنها تتكوّن الفصول الأربعة وعليها مدار حساب السنة كما عند بعض المفسرين انطلاقاً من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس5:].

{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في ما أراده من تنظيم الحياة على قواعد ثابتة يُصلح به حياة الإنسان في نفسه، وهو العزيز الذي إذا أراد شيئاً فلا يستطيع أحدٌ أن يعارض ما يريد، وهو العليم الذي يعرف أسرار خلقه في كلّ مقدِّماتها ونتائجها وتفاصيلها..

* * *

الاهتداء بالنجوم

{وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. وهذه النجوم التي تمثل عوالمَ كبيرةً ضخمةً، ما هي فائدتها للإنسان، وكيف يحس بارتباطه بها في حياته وفي أوضاعه؟ هل يكتفي بالمشاعر الذاتية التي تجعله يحلّق في جوٍّ شاعريٍّ في الليل عندما يتأملها، وهي تنتشر في السماء كنقاط نور صافية لامعة تجرح ظلمة الليل من بعيد، وتوحي للإنسان بأحلام السمر؟ أم يظلّ مشدوداً إليها في نظرة المشدوه المتعجب في ما تثيره في النفس من عوالم العظمة والجلال، أم هناك شيء يتحرك من خلالها في حياة الإنسان، ويتدخل في حركة أعماله وأشغاله؟

إن الآية تحدّد لنا أن الله قد جعلها لنا لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر عندما نفقد العلامات المميزة التي تدلّنا على الطريق، وتحدّد لنا وجهة السير، وتبعدنا عن الضياع، ونحن نعلم أن الناس كانت تهتدي بها في أسفارها قبل أن يكتشف المكتشفون الوسائل الحديثة التي تستطيع أن تحدّد للناس طريقهم في الصحاري الواسعة، وفي البحار الممتدّة..

وقد نقل صاحب كتاب «القرآن والعلم الحديث» في ما نقله عنه صاحب تفسير الكاشف ـ عن السير جيمس جننتز العالم الفلكي المعروف ـ قال: «إنه إذا أردنا أن نعرف مكان بيتٍ في المدينة فإننا نسأل عن اسم الشارع الذي يحتويه، ثم رقمه، فيقال رقم كذلك بشارع كذا، وكذلك الحال في النجوم، فإن منها ما هو معروفٌ بأسماء خاصة، وهي أهمّ علاماتٍ يهتدي بها الملاح في سفينته، والراكب في سيارته، والمرتحل على دابته، وكم قوافل في البحر سارت على خريطة السماء ومواقع النجوم عندما تعطلت البوصلة»[4].

* * *

الله أنشأكم من نفس واحدة

{وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} وهذا الوجود الإنساني المتنوّع في أشكاله وألوانه وطباعه ولغاته، كيف انطلق؟ ومن أين؟ ومن هو الذي أنشأه؟ إنه الله الذي أنشأه وأوجده من نفسٍ واحدةٍ، وهو آدم، الذي كان النفس الواحدة لبداية هذا الوجود المتكثر، ومن هنا، نعرف عظمة الإبداع في هذا التنوّع في الوحدة، فقد اختلفت الخصائص، وتنوعت مع وحدة النفس التي كانت أساس هذا الوجود كله، وما تزال حركة الوجود سائرةً في الاتجاه الذي أراده الله له، فهناك الوجود الذي تحرك واستقرّ في الأرض، في ما تمثله هذه المخلوقات الإنسانيّة التي تتحرك في الحياة، وهناك الوجود الذي لا يزال كامناً في الأصلاب أو في الأرحام، في انتظار توفّر الشروط الضروريّة لفعليّته وانطلاقه في حركة الحياة، وهو الوجود المستودع الذي يمثل الوديعة التي تنتظر خروجها بإرادة الله.

{قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وتلك هي من آيات الله التي فصّلها للقوم الذين يتدبرون ويفكرون من أجل الوصول إلى الفهم الواعي للأشياء، والفقه المنفتح للحياة، ليعرفوا بذلك عظمة الخالق العظيم.

* * *

إنزال الماء من السماء

{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} وذلك هو المطر الذي يعطي الأرض طراوتها وخصبها وحيويتها وينابيعها التي تتجمع في أعماقها، لتكوّن الخزانات الجوفيّة، فتتفجر منها الينابيع والأنهار، فتعطي الحياة للتراب وتحرك الحيويّة في البذور، وتمنح الجذور قابليّة النموّ والامتداد، وتلك هي قصّة العنصر الواحد الذي تتفرّع منه الخصائص المتنوعة، كما هو الإنسان الذي يختلف في أفراده ولكنه مخلوقٌ من نفسٍ واحدة، فكذلك الماء الذي لا يختلف في طبيعته، ولكن الله يخرج منه نبات كل شيء ما اختلفت ألوانه وخصائصه، مما يوحي بعظمة الإبداع في الخلق.

والمراد بقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أنّ الله أخرج النباتات المتنوّعة بأصنافها وأشكالها وألوانها وأثمارها من ماء واحد لا تنوع في خصائصه، ومن أرض واحدة لا تمايز بين مواقعها، ما يبعث على الدهشة والإعجاب والإحساس بعظمة الخالق.

وربما كان المراد بنبات كل شيء ما كان من غذاء الأنعام والطير والوحش ومن أرزاق الناس ومن سائر الحيوانات في البر والبحر، فإن النباتات المائية الطافية على سطح البحر لتكون غذاءً للأسماك، تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر، وإنّ تنوع هذه المخلوقات في حاجاتها الغذائية مع وحدة العنصر الذي تكونت منه هذه الأغذية يدل على عظمة الخلق التي توحي بعظمة الصانع.

{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} وهو النبات الأخضر، أو الطراوة والغضّ المتمثل بالأغصان الطريّة التي ينبثق عنها النبات. وربما كان العدول من كلمة الأخضر إلى كلمة الخضر، للإيحاء بالمظهر الحيّ للحياة في النبات، لا للشيء الذي تتمثل فيه، من أجل أن يتّجه النظر والفكر إلى العنصر الموحّد في كلّ النباتات..

{نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} يركب بعضه فوق بعض، ويبدو هذا في سنابل الحنطة أو الشعير وفي الرمان ونحو ذلك، وربما كان التأكيد على هذا النوع، لما فيه من الإبداع في تناسق الحبّات في التركيب الفني فيما بينها، ولما فيه من الروعة في تطور الحبّة الواحدة وتحوّلها إلى آلاف الحبّات، ليفكر الإنسان، ويتساءل عن السرّ في هذا التكاثر، فإذا كان ذلك من خلال العناصر الطبيعية الكامنة في قابلية الحبّة أو البذرة للنموّ والتكاثر، كما يقول علماء النبات، فيبقى السؤال يفرض نفسه على المسألة من جديد، فمن الذي أودع هذه العناصر في داخلها، أو خلقها على أساس وجود العناصر فيها بهذه الدقّة من النظام في حركة الحياة فيها، ما دامت لا تمتلك أساساً ذاتياً للحتميّة الطبيعيّة بعيداً عن خلق خالقٍ، أو تدبير مدبّرٍ؟

ثم ليبحث الإنسان عن الجواب الواعي الذي يؤكد له أنّ الله هو الذي أودع القوانين في حركة الحياة في النبات، كما أودعها في حركتها في الإنسان وفي الحياة وفي كل شيءٍ، ما يوحي بملاحقة هذه الظواهر الطبيعية لاكتشاف قوانينها الداخليّة والخارجيّة، من أجل أن يتعرّف العلاقة الحيّة بين قضية الإيمان، وقضية الحياة في نموّها وتطورها، فلا مجال لابتعاد الإيمان عن حركة الحياة في عالم التطوّر والنموّ والإبداع، كما لا مجال لابتعاد الحياة عن روح الإيمان وحركته في وعي الإنسان وتفكيره.

{وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا} وهو الذي يشبه الأكمام في الزهر {قِنْوَنٌ} سهلة الاجتناء لأنها قريبة من تناول اليد عند الصعود إليها، {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} وهاتان الكلمتان بمعنًى واحدٍ، لأن التشابه في الأشياء قد يؤدي إلى الاشتباه في التمييز بينها من خلال خفاء الخصائص المميّزة بين هذا الفرد أو ذاك.

ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير عن المعنى الواحد بكلمتين متعدّدتين يرجع إلى ناحيةٍ فنيّةٍ، في ما يوحيه التنوّع من اللطف والبراعة {انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} أي: لاحظوا حالة هذا النبات المتنوع قبل أن يثمر، ولاحظوه بعد أن يثمر لتتعرفوا مراحل نموّه وتطوّره، وما يوحيه لكم ذلك من أسرار الإيمان بالله، ولاحظوا {وَيَنْعِهِ} وهو حالة نضج الثمر، مأخوذ من اليناعة {إِنَّ فِي ذلِكُمْ لاَْيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في ما توحي به من قدرة الخالق وحكمته، ما يدفع إلى الإيمان به، بأوضح برهان، وأقرب طريقٍ، لمن يتطلب الإيمان بفكره، ويبحث عن الحقيقة بروحه، فهو الذي يعي حركة الخلق في ارتباطها بعظمة الخالق، عندما يلاحق كل علامات الاستفهام في ما تثيره المظاهر التي حوله منها، ولا يتجمّد أمام الأشكال البسيطة الساذجة فيها التي قد تشغل النظر من دون أن تثير الفكر.. أمّا الإنسان الذي يعيش اللامبالاة، أو العناد والتعصب في قصة الإيمان، فإنه لا يستفيد شيئاً من ذلك، لأنه لا يجهد نفسه بأيّ فكر مسؤول، أو أيّة خطوةٍ محسوبةٍ.

وهكذا نجد من خلال هذه الجولة القرآنية مع النظام الكوني، في النبات والإنسان وفي النجوم وحركة الزمن، أن بإمكان الباحث عن الحقيقة أن يجد الله في كل شيءٍ من حوله، لأنها تمثِّل الآيات البارزة الواضحة في الدلالة على وجوده وقدرته وحكمته، وبذلك تتحرك العقيدة في وعي الإنسان، مع كل الظواهر الكونية والحياتية التي تحيط به، أو تتمثل في كيانه، بما يجعل من قضية الإلحاد والشرك، قضية جهلٍ، أو تجاهلٍ، أو هروبٍ من الجوّ الفكري المسؤول الذي يدفع إلى التفكير ويوحي بالحقّ، لأنه لا يستند إلى أساسٍ، أيّ أساسٍ كان.

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:421 ـ 422.

(2) انظر: م.ن، ج:4، ص:424.

(3) تفسير الكشاف، ج:2، ص:37.

(4) مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، ط:4، حزيران 1990، م:3، ص:234.