تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 100 إلى الآية 104

 من الآية 100 الى الآية 104
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَـواتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ* قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (100ـ104).

* * *

معاني المفردات

{وَخَرَقُواْ}: أي: ابتدعوا له كذباً.

{بَدِيعُ}: البديع: بمعنى المبدع، والفرق بين الإبداع والاختراع، أن الإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله، والاختراع فعل ما لم يوجد سببٌ له، ولذلك يقال: البدعة لما خالفت السنّة، لأنه إحداث ما لم يسبق إليه. ولا يقدر أحد على الاختراع غير الله تعالى، لأن حدّه ما ابتدىء في غير محل القدرة عليه، والقادر بقدرة إما أن يفعل مباشراً، وهو ما ابتدىء في محل القدرة، أو متولداً وهو ما يوقع بحسب غيره ولا يقدر على الاختراع أصلاً.

{وَكِيلٌ}: الوكيل على الشيء الحافظ الذي يحوطه ويدفع الضرر عنه، وإنما وصف سبحانه نفسه بأنه وكيل مع أنه مالك الأشياء لأنه لما كانت منافعها لغيره لاستحالة المنافع عليه والمضار صحت هذه الصفة له، وقيل: الوكيل من توكل إليه الأمور، يقال: وكّلت إليه هذا الأمر أي ولّيته تدبيره، والمؤمن يتوكل على الله أي يفوّض أمره إليه.

{لاَّ تُدْرِكُهُ}: الإدراك: اللحاق، يقال: أدرك فلان فلاناً إذا لحقه، وأدرك الطعام: نضج، وأدرك الزرع: بلغ منتهاه، وأدرك الغلام: بلغ ولحق حال الرجولية، وأدركته ببصري: لحقته ببصري، وتدارك القوم: تلاحقوا، ولا يكون الإدراك بمعنى الإحاطة لأن الجدار محيطٌ بالدار وليس بمدرك لها.

{الأبصار}: جمع بصر وهي الحاسة التي تقع بها الرؤية.

{اللَّطِيفُ}: إذا وصف به الجسم فضدّ الجثل وهو الثقيل. يقال: شعرٌ جثل أي: كثير. ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأمور الدقيقة، وقد يعبّر باللطائف عما لا تدركه الحاسّة، ويصحّ أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفته بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم.

وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع): «.. إنما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف، أولا ترى ـ وفقك الله وثبتك ـ إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان لصغره، الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم، فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرةً مع صفرة وبياضاً مع خضرة وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمامة خلقها ولا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع من شيء[1].

وقد جاء في الحديث المروي عن الإمام الرضا(ع): «وأما اللطيف فليس على قلة وقضافة وصغر، ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك، كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه، وقوله: يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقاً متلطفاً لا يدركه الوهم، فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحدّ أو يحد بوصف واللطافة منا الصغر والقلة فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى[2].

{بَصَآئِرُ}: بينات ودلالات تدرك بها الحقائق، ولعل المراد بها وسائل الوعي الفكري والبصيرة القلبية مما أوحى به الله إلى رسله من كتب وتعاليم ودلائل، والبصيرة البينة والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به.

* * *

جولة في واقع المجتمع الجاهلي المنحرف

وهذه جولةٌ جديدةٌ في واقع المجتمع الجاهلي المنحرف أمام قضية التوحيد والشرك، هدفها قيادة الإنسان إلى الاستقامة في خط العقيدة، عبر الإيحاء بالمعاني الرحبة الصافية التي تدعو إليها الفطرة، ويتفاعل معها الوجدان، ليعرف في هدى الفكر والتأمّل أن كلّ ما اختلقه المنحرفون من عقائد وأفكار، لا تثبت أمام النقد، ولا تستقيم مع التفكير الدقيق، بل يشعر الإنسان معها بأنه يعيش في أجواء الخرافة والتفاهة الفكرية .

* * *

جعلوا الله شركاء الجن

{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} من هم هؤلاء الجنّ؟ هناك من يقول: إن المراد بهم الملائكة الذين كان العرب يعتقدون أنهم بنات الله، وربما كانت التسمية منطلقة من اشتقاق كلمة «الجنّ» من الاجتنان وهو الاختفاء، أو لأن هناك عقيدةً تقول: إن الله قد صاهر الجنّ، فكانت الملائكة نتيجة هذه المصاهرة، ما يجعل من مسألة التسمية عمليّةً تتصل بالمعنى الحقيقي الشائع للكلمة.

وهناك من يقول: إن المراد بهم خلق الجنّ أنفسهم، وبذلك يكون الشرك شركاً في العبادة في ما كان العرب وغيرهم يحملونه من خضوع لهم، ولمن يملكون الصلة بهم في عقيدة الناس، وفي ما كانوا يعتقدونه فيهم من طاقاتٍ خفيّةٍ خارقةٍ، يملكون من خلالها أن يجلبوا النفع لمن يشاءون، أو إيقاع الضرر بمن يريدون، وبذلك استطاع الكثير من هؤلاء المتاجرين بأحلام الناس وآلامهم، وبعقائدهم الخرافية، أن يسيطروا على مجريات حياتهم، ويتصرفوا بحركتها كما يحبون..

ولكن الله أراد أن يوجّه أصحاب هذه الاتجاهات المنحرفة إلى التفكير بما هم فيه، في قوله تعالى: {وَخَلَقَهُمْ} في ما توحيه بأن الله إذا كان قد خلق هؤلاء الملائكة ـ على التفسير الأول ـ أو الجن ـ على التفسير الثاني، فكيف يمكن أن يكونوا شركاء له في أيّ شيء؟ وكيف يستطيعون أن يتحركوا في أيّة قوّة بعيداً عنه، لأن عملية الخلق تفرض أن تكون كل الطاقات التي يملكها المخلوق مستمدّةً من الخالق، ومتحركةً بإرادته، فلا يملك منها إلا ما أراد له أن يملكه، ولا يتصرف فيها إلا بالمقدار الذي يأذن له ـ من ناحية تكوينيّةٍ ـ بالتصرف فيه. وبذلك يكون الخضوع وتقديم أشكال العبادة لهم، شيئاً لا معنى له، عندما يدرك الإنسان أنهم ظلالٌ للقدرة المطلقة تماماً كما هي الظلال التي لا تملك أيّ استقلالٍ أو أصالةٍ في ذاتها وعن مصيرها من الأشياء. إن الله أثار هذه الكلمة ليصل إلى صفاء التوحيد من خلال الفكر..

{وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} فقالوا: إن الملائكة بنات الله، وقالوا: إن عزير ابن الله، وإن المسيح ابن الله. وربما قالوا غير ذلك مما لم يصل إلينا علمه، وصنعوا واختلقوا ذلك كله من أوهامهم، منطلقين من حالة التخلف التي كانوا يعيشونها، لأن الناس الذين لا يملكون المعرفة الأصيلة، ويعيشون الأوهام الغامضة، يقفون غالباً أمام بعض مظاهر القدرة الإلهية في ما تشتمل عليه من أسرار، أو في ما يبدو فيها من أشياء غير مألوفة لهم، فيحاولون أن يصنعوا لها بعض الصلة العضوية بالله، على أساس أن مثل هذه الصلة هي التي تبرّر هذه الأسرار الكامنة فيها، كأن الله يمنح بعض مخلوقاته شيئاً معيناً مما لا يمنحه للبعض الآخر، ليتصوروا ـ من ذلك ـ أن المسألة لا تتصل بالقرابة بقدر ما تتصل باختلاف مظاهر القدرة لدى الله، في المألوف وفي غير المألوف.

وهذا هو السرّ في الكثير مما عاشته الشعوب المتخلِّفة، فكانوا يخضعون لبعض الأشياء، أو لبعض الأشخاص، فيعبدونهم لأنهم وجدوا فيهم شيئاً لم يألفوه، أو لأنهم توهموا فيهم ذلك.. ولكن الله يوحي بأن مشكلة هؤلاء كمشكلة كثيرٍ من الكافرين، أنهم يعتقدون ما يعتقدونه من عقائد وأفكار {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ولا حجّةٍ من فكرٍ، لأن العلم لا يحترم مثل هذه الاتجاهات التي لا تنطلق من قاعدةٍ فكريةٍ في طبيعتها وفي جميع تفاصيلها.

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ *بَدِيعُ السَّمَـواتِ وَالأرْضِ} فإذا كان الله قد أبدع السموات والأرض، في ما يعنيه الإبداع من القدرة المطلقة والغنى المطلق، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟! {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} لما يمثله الولد من حاجةٍ وضعف، فإن الإنسان، في تمنيه للولد، ينطلق من حاجة خفيّةٍ إلى الخلود، وهو ما لا يستطيع تحقيقه غالباً إلا عبر أولاده الذين تمثل حياتهم امتداداً لحياته، والله هو الخالق الحي الأبدي السرمديّ الذي لا معنى للحاجة لديه ولا معنى لمجرّد تصورّها فيه.

وإذا كان الولد ـ في مفهوم الناس ـ هو نتيجة العلاقة بين الرجل والمرأة، فكيف يمكن نسبته إلى الله {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبه}؟ فذلك لا معنى له أيضاً، لأن الحاجة إلى الصاحبة، في مسألة الولد، تنطلق من كونها وسيلة لإنجابه، فكيف يتصوّر ذلك في الله الخالق لكل شيءٍ الذي يخلق ما يريده بشكل مباشرٍ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ما يوحي بالسيطرة المطلقة لما تعنيه الإحاطة بخفايا الأشياء والقدرة عليها.

{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} في التصور الصافي الذي توحي به الفطرة، ويستقلّ به الوجدان، فلا ينحرف بكم التصور إلى الأوهام من الخرافات.. وربما كان اسم الإشارة {ذلِكُمُ} من أجل تأكيد الصورة الواحدة للعقيدة البارزة في حركة الحقيقة في الفكر، حتى لا يضيع الإنسان في متاهات التصوّر بين الصور المتعدّدة، فيعرف الإنسان ربّه كما لو كان في متناول الحس، في ما يعنيه الوضوح الصافي، الذي يبرّر التعبير عن غير المحسوس بأسلوب التعبير عن المحسوس.. {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أمّا هؤلاء الذين لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون، فهم مظاهر قدرته، فمنه يستمدّون الحياة في كل شيءٍ، فكيف تتخذونهم أرباباً من دون الله؟!

* * *

علاقة الآية بمسألة الجبر والحرية

وجاء المتكلمون ليفلسفوا هذه الآية، هل الله خالق كل شيء دون استثناء؛ الخير والشرّ، العدل والظلم، الكفر والإيمان؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين هو موقع حرية الإنسان في ما يريد ويختار؟ وإذا لم يكن كذلك؟ فأين هي القدرة المطلقة التي يتصف بها الله، عندما تخرجون بعضاً من حركة الوجود في هذا الكون عن مجال قدرته؟

ولكن المسألة في هذه الفقرة لا تتجه باتجاه الشمول والسعة، فهي تريد تقرير المبدأ في مواجهة الآخرين الذين يشركون بعبادة الله من هو مخلوقٌ له، وليست في صدد الحديث عن تفاصيل المخلوقات الموجودة في عالم التكوين وفي حركة فعل الإنسان.

وربما كان من المناسب لجوّ الآية، أن يكون الحديث فيها عن جانب التكوين في الأشياء، لأنه الذي يتعلق به الخلق، أمّا الصفات والعناوين التي تتعلّق بفعل الإنسان، فإنها لا ترتبط بالجانب الذاتي للفعل، بل ترتبط بالجانب الاعتباري، فإن الفعل الصادر من الإنسان لا يتغيّر في صفاته الذاتية، عندما يكون ظلماً أو عدلاً، بل هو فعلٌ واحدٌ، في كلتا الحالتين، لأن معنى أن يكون ظلماً، أن يكون صادراً على خلاف وجه الحق، كما أن معنى أن يكون عدلاً، هو أن يكون صادراً عن وجه حق. وهو من الأمور التي تدخل في عملية الإرادة الإنسانية التي تعطي للفعل وجهه الحسن أو القبيح، ولا تدخل في عملية الخلق والتكوين، فالظلم يبدأ فكرةً في عقل الإنسان، إلى جانب العدل كفكرةٍ تعيش في تفكيره، وكذلك كل أفكار الخير والشرّ، ثم تتحول الفكرة هنا وهناك إلى حركةٍ في الفعل، لتتحول إلى واقع حيٍّ، يدفع بالحياة إلى السلبية أو الإيجابيّة من خلال إرادة الإنسان.

ولكن ليس معنى ذلك أن الله قد اعتزل قضية الإنسان بعدما خلقه، فلا علاقة له بوجوده، أو بتفاصيل حركة الوجود هذه، ليكون الأمر على وفق نظرية التفويض المطلق، فإننا لا نريد أن ننفي فكرة الجبريّة لنستبدل بها فكرة التفويض، بل ما نريده هو أن ننفي الفكرتين معاً لتكون النظرية عند حد الوسط «الأمر بين الأمرين» التي تعني أن الله أعطى للإنسان خلقه وزوّده بالوسائل اللازمة التي تكفل له استمرار الحياة، وهو قادرٌ على أن يسلب ذلك منه في كل لحظة. ومنحه، في نطاق ذلك، الإرادة الحرّة التي يستطيع من خلالها أن يمارس حريته في سلوك الطريق الذي يحلو له بعيداً عن كل ضغطٍ تكويني..

فإذا اختار الشرّ كان الشرّ فعله، من خلال الأدوات التي منحها الله له، فليس الشر مخلوقاً لله بنحو المباشرة، وليس مراداً له بنحو الرضى، ولكنه فعل الإنسان، من خلال إرادة الله التي تربط بين السبب والمسبب، فتقتضي أن يوجد المسبّب وهو الفعل إذا تعلقت إرادة الفاعل المختار به، مع توفر الشروط الأخرى لوجوده، وبذلك كانت علاقة الله بالأشياء من خلال خلقه للقوانين التي تنتجها، ومن جملتها، إرادة الإنسان واختياره، فلا جبر للإنسان، لأن الخيط الأول في المسألة مربوطٌ بيده وهو حرية الإرادة، ولا تفويض له، لأن الخيط الثاني، وهو وسائل القدرة بيد الله، فهو القادر أن يبقيها حيث شاء، وأن يزيلها حيث يريد.

وفي ضوء ذلك، لا نستطيع أن نوافق على الفكرة التي تقول: إن الله قد خلق الشرّ والخير، على أساس أن أفعال العباد مخلوقة له، لأنّ الله خالق كل شيءٍ، فهو لم يخلق للعبد فعله، كما يخلق الأشياء الأخرى، بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، من دون إرادةٍ أو اختيار لغيره، بل إنه خلق العبد وخلق إرادته، وترك له أن يتصرّف بإرادته كما يحلو له، بعد أن حدّد له ما يرضاه وما لا يرضاه من ذلك، فإن أراد القائلون بخلق الله للشر هذا المعنى، فلا مشكلة، من ناحيةٍ فكرية، ولكن التعبير يُعتبر سيئاً لا يُعبر عن الفكرة بوضوح.. وإن أرادوا المعنى الذي يرتبط بالجبر، كان الموضوع محل مناقشةٍ واعتراضٍ من ناحيةٍ فكريّةٍ؛ والله العالم.

* * *

خلق الله وقانون السببية

وإذا كانت الآية تنسب خلق كل الأشياء إلى الله، فكيف نفهم مسألة السببيّة في الأشياء؟ فإذا كان الله خالق كل شيء، فمعنى ذلك أنّه علّة كل شيء، فلا معنى ـ من خلال هذا ـ لارتباط الأشياء بعللها الطبيعيّة.

ويجاب عن ذلك بأن عليّة الله للأشياء، لا تعني إلغاء عللها المباشرة التي ترتبط بها ارتباطاً عضويّاً، لأن الله يخلق الأشياء حين يخلقها، على أساس قانون السببيّة الذي يجعل الظواهر الكونية وغيرها خاضعةً لأسبابٍ محدودةٍ منظمةٍ مخلوقةٍ له في ذاتها وفي ما أودعه فيها من خصائص التأثير والتسبيب، فهو الخالق للأشياء، من خلال إيجاده لها من العدم، بطريقةٍ معينة تلغي تأثّر الأشياء ببعضها البعض في نطاق النظام الكوني الذي وضع كل شيءٍ في موضعه في علاقاتٍ شاملة، تجعل من الكون كله وحدةً شاملةً مترابطةً في حركة الوجود كله، وذلك لا يلغي السببيّة بل يؤكدها.

وقد تحدَّث بعض الباحثين في الفلسفة في هذا المجال، عن مصطلح «العلة الفاعلية»، وأراد منها، ما منه الوجود، أي: ما يصدر منه، و«العلّة المادية» ما به يوجد الشيء، أي: ما يتأثّر به وجوده، ولا تنافي بين الأولى والثانية، بل الثابت هو الانسجام والتلاؤم، فإن دور العلة الفاعلية هو إصدار الوجود بواسطة العلة الماديّة، لا بشكل مباشر، ونحن لا نريد أن نذهب بعيداً في التأكيد على طبيعة هذه المصطلحات كأسلوبٍ من أساليب البحث القرآني، لأننا نعتقد أن الأسلوب القرآني يعالج الفكرة بطريقةٍ لا تحتاج إلى مثل هذا التعقيد.

* * *

حركة العبادة في اتجاه التوحيد

{فَاعْبُدُوهُ} وإذا كان الله خالق كل شيء، كانت الأشياء مملوكةً له وخاضعةٌ بوجودها خضوع العبودية لقدرته وسلطانه، في ما تملكه من وسائل التعبير عن العبودية، لأن ذلك هو الذي يحقق لها معناها في الشعور بالفقر المطلق أمام الغنى المطلق، وهو الذي يعمّق في ذاتها الإحساس بدورها في الحياة أمام الله، لأنَّ وعي الإنسان لدوره ينطلق من وعيه لصفته التي يتحرك بها في الكون، فإذا كان غير واعٍ لذلك، أو كان يملك وعياً مضادّاً، كانت ممارساته وتصوراته منحرفةً عن الاتجاه السليم الذي يمثله الخط المستقيم في العقيدة والحياة. ولهذا كان القرآن يؤكد دائماً على الربط بين التصور الصحيح والممارسة الصحيحة، في عملية تقويم خط السير للإنسان.. وهذا هو ما نستوحيه من هذه الفقرة من الآية الكريمة: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} في تعميق الشعور بربوبية الله للإنسان، وما توحيه من وعيٍ لمعنى العبودية في نفسه، وتوجيه الممارسة إلى القيام بدور العبادة لله، كتعبيرٍ روحيٍّ عن أصالة الإيمان في نفسه، بطريقةٍ عملية واقعيّةٍ.

إن العبادة ـ في مفهومها العميق الشامل ـ تعني الخضوع في كل شيءٍ، في ما يمثله ذلك من استسلام مطلق يطال كل المواقف والأوضاع، بحيث لا يتحرك الإنسان في أيّة كلمة، أو أيّ موقف أو علاقة، إلا عندما يربطها بالله سبحانه وتعالى.. أن تكون حياته كلها لله لأن ذلك ما ينسجم مع خط العبودية المطلقة..

وفي ضوء ذلك، فإن الإخلاص لأيّ رمز من الرموز التي اعتبرها الناس رمزاً لحياتهم ولوحدتهم، لا بد من أن يرتبط بالله، ليكون الإخلاص له، من خلال الإخلاص للمعنى الذي يرمز له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الرمز شخصاً أو أرضاً، أو مؤسسةً أو وطناً أو قوميّةً أو لوناً، فإن الإخلاص في هذه الأمور وغيرها يعتبر نوعاً من أنواع الشرك الخفيّ، إذا لم يتحرك من خط المفاهيم المنسجمة مع خط الله.

إنّنا نخلص لرسول الله(ص)، من خلال صفة الرسالة فيه، كما نخلص لأولياء الله من خلال صفة الولاية لله في أنفسهم، فلا نخلص لذواتهم، ولا نستغرق في أشخاصهم، ولذلك فإن طريقة تعبيرنا عن هذه العلاقة، لا بد من أن تكون منسجمة مع أحكام الله وتعاليمه، فلا تدفعنا العاطفة إلى أن نمارس من ذلك ما لا يرضى به الله في قولٍ ولا في فعل، بل يجب أن نقف عند حدوده ـ سبحانه ـ لئلاّ تجرّنا العاطفة إلى الغلوّ الذي ينتهي بنا إلى الكفر أو إلى ما يقرب من الكفر..

ونحن عندما نقدِّس أرضاً أو نحترمها، فإننا لا نقدّس ترابها وحجارتها، باعتبار أنها تحتوي على الأسرار الخفيّة القدسية الكامنة فيها، بل نتحرك في ذلك من الخط الشرعيّ الذي تعبَّدنا الله بالسير عليه، في ما تعبَّدنا به من احترام أرض معينة، أو بنيّةٍ معيّنة كما في احترامنا لأرض مكة، لأن الله جعلها حرماً آمناً يأمن فيها الناس على أموالهم ونفوسهم وأعراضهم، وكما في تعظيمنا للكعبة، لأنها بيت الله الذي تعبَّد خلقه بالطواف حوله والحجّ إليه، واستقباله في كل مكان في العالم في الصلاة وفي أمثالها، مما أراد الله استقبال القبلة فيه، ولذلك فلا بد لنا من الاقتصار على تنفيذ أحكام الله التي شرّعها في ذلك كله.

* * *

المفهوم الإسلامي للارتباط بالأرض

ومن ذلك نعرف أنَّ الارتباط بالأرض باعتبارها وطناً تعارف الناس على الإخلاص له والدفاع عنه، لا يمثِّل شيئاً في مفهوم الإسلام، إلاّ بقدر ما تمثِّل الأرض من رمزٍ روحي، كأن تكون أرض المسلمين والمؤمنين، لتصبح المسؤولية عنها مسؤوليةً عن المسلمين والمؤمنين، في ما يمثِّله الاعتداء عليها من اعتداء عليهم، والحفاظ عليها من حفاظ على وجودهم وعزتهم وكرامتهم. أمّا إذا انفصلت عن المعاني والقيم الإنسانية الإيمانيّة، وتحوّلت إلى مجرد رمزٍ جامد يخضع له الناس كقيمةٍ ذاتيّةٍ، فإنها تتحول إلى صنمٍ يُعبد من دون الله، تماماً كأيِّ صنم آخر، لأن الصنميّة لا تتمثل في أشكالٍ معينة، بل تتمثل في الرموز التي لا تحمل أيَّ معنى يتصل بالله.

ولهذا، فإن علينا ـ في إخلاصنا لحركة التوحيد في عقيدتنا وحياتنا ـ أن نناقش كل ما يستحدثه الناس من رموزٍ ماديةٍ أو معنويةٍ يريد الناس الخضوع لها، لنجد مدى ارتباطها أو عدم ارتباطها بالله، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، مثل الإنسان، النسب، الأرض، اللغة، الوطن، النظام، وغيرها مما أريد للناس أن يعتبروه أساساً للوحدة والخضوع والطاعة. وبذلك يمكن لنا أن نستوحي من قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أن هذه الرموز ليست ربكم، لأنها مثلكم مخلوقةٌ لله، أو لأنها مصنوعة من أفكاركم وأوهامكم، وليس لها أيّ امتياز يرفعها إلى هذا المستوى الذي ترفعونها إليه، فلا تجعلوا لله منها أنداداً تحبونها كحبه، لأن الحب لله وحده، وكل حبٍّ لأيّ شيءٍ لا يرتبط به، فهو عبادة لغيره بشكل غير مباشر..

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يرعاه ويحوطه برحمته ولطفه، فهو مشرفٌ على جميع مخلوقاته ومهيمنٌ عليها في كل أمور الحياة والموت وقضية المصير.

* * *

الله مدرك الأبصار ومحيط بها

{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} لا تبلغه ولا تصل إليه أبصار الناس، لأن الله ليس جسماً لتبصره العيون، وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا التفسير، كيف يذهب بعض المفكرين من المسلمين إلى إمكان رؤية الناس لله يوم القيامة انطلاقاً من الظواهر القرآنية، وكيف يردّ عليهم مفكرون آخرون باستحالة ذلك، وبتوجيه الظواهر القرآنية بما لا يتنافى مع ذلك من حمل التعابير القرآنية على أسلوب الاستعارة والكناية والمجاز، على ما جرى عليه القرآن من التحدّث عن القضايا المعنوية بالطرق الحسّية..

وربما كانت هذه الفقرة دليلاً على ذلك في مدلولها الذي ينفي إدراك الأبصار له، وإن كان من الممكن أن تكون واردةً على سبيل الكناية عن علوّه وعظمة شأنه بالمستوى الذي لا يمكن أن تحيط به الأبصار، مهما بلغت درجة الرؤية لديها {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} لأن الأشياء كلها خاضعةٌ له، حاضرةٌ لديه، وبذلك فإنه يدركها ويحيط بها مهما كانت دقيقةً وبعيدة، ولعل التعبير بقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} مع أن المقصود هو إدراكه للأشياء التي تدركها الأبصار، للإيحاء بإحاطته بكل شيء تحيط به، لأن الأبصار إذا كانت تحت إدراكه فإنه يدرك كل ما تدرك، ويصل إلى كل ما تصل إليه.

وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} ليس يعني بصر العيون {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ليس يعني من البصر بعينه {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم، كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب. الله أعظم من أن يرى بالعين[3].

وقد جاء عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) في حديثه مع أبي قرة، قال أبو قرّة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى(ع)، ولمحمد(ص) الرؤية، فقال أبو الحسن الرضا(ع) فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس: {لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ} {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[طه:110] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وليس كمثله شيء، أليس محمد(ص)؟ قال: بلى، قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، قال أبو قرّة: فإنه يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13] فقال أبو الحسن الرضا(ع): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى، حيث قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى، فقال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18] فآيات الله غير الله، وقد قال الله:{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة، فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن(ع): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء.

{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الذي ينفذ إلى عمق الأشياء دون أي عائق من خلال لطفه ودقته، الخبير بكل شيء فيها، وبذلك كان علوّ شأنه وسموّه عن الأشياء، غير مانع له عن النفاذ إليها وخبرته بكل ما تشتمل عليه من خصائص وأسرار.

* * *

الإنسان هو هدف الرسالات

{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} ولعل المراد بها وسائل الوعي الفكري والبصيرة القلبيّة، مما أوحى به الله إلى رسله، من كتب وتعاليم ودلائل، في ما أراد الله للإنسان أن يفكر فيه ويتأمّله ويتعمق في دقائقه ليصل من خلاله إلى الهدى الذي يفتح له نوافذ المعرفة الفكرية والروحية، ويقوده إلى الصراط المستقيم في مسيرته العملية في الحياة..

وبذلك كانت قضية الرسالات قضية الإنسان في ما تستهدفه من رفع مستواه وتدبير أموره، وتحديد دوره الطبيعي في تنظيم شؤون الكون من حوله، ليبلغ السعادة في الدنيا، على أساس راحة الفكر والعمل والشعور، وينال السعادة في الآخرة على أساس ما يحصل عليه من جنة الله ورضوانه.

{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} فإذا انطلق الإنسان، وفتح نوافذ قلبه على النور، ونظر بعين البصيرة إلى حقائق الكون والحياة، فإنه يحقق لنفسه الربح الكبير.. أمَّا إذا أغلق قلبه عن النور، وأعمى عينيه عن رؤية الحقيقة فإنه لن يضرّ أحداً في ذلك، بل يضرّ نفسه، لأنه حرمها من آفاق الخير والسعادة والسلام، وتركها تتخبط مثلما يتخبّط الأعمى عندما يسير في دربه، وذلك هو ما يؤكده القرآن في قضية العمى والبصر في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، لأن المسألة لديه هي مسألة الإنسان من الداخل، الإنسان، الفكر.. العقل.. الشعور، لا الإنسان الشكل ـ الجسد، لأن الله يريد للإنسان أن يتحرك بعقله ليحرّك الحياة من حوله على هداه، ولا بد للعقل من أن ينفتح على كل نوافذ المعرفة في ما منحه الله من مفرداتها المتنوّعة التي يدركها الحسّ، وفي ما أوحى الله به إلى رسله من رسالةٍ وكتابٍ، ليجتمع له من هذه وذاك الفكر الصائب المنفتح الذي يتفايض بالإشراق، وينطلق من منابع النور، ليخطط للحياة طريقها المستقيم كما يريده الله، وليثير ـ مع نفسه ـ آفاق الروح السابحة في آفاق الله.

وهذا ما ينبغي للمنهج التربوي الإسلامي أن يحركه بتوجيه الجهد الإنساني إلى تنمية العقل وتطويره، ليحلّق في الآفاق الشاسعة للمعرفة، ولا يقتصر على الضيّق منها.. وليعرف أن القضية، في جانبها السلبي والإيجابي، هي قضيته بالذات، في ما تمثله قضية المصير في نطاق الهدى والضلال، تماماً كما هو الإنسان الذي يملك العينين المفتوحتين المبصرتين عندما يهتدي في طريقه، وكما هو الإنسان الذي يملك العينين المطبقتين على الظلام العمياوين، عندما يتخبط في الطريق.

{وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وتلك هي مهمة النبي.. فهو لم يأت ليفتح قلوب الناس على الهدى، بالقوّة والمعجزة، بل جاء ليقدِّم لهم الدلائل والبيّنات التي تفتح عقولهم على الحق، بالفكر والتأمّل والإرادة الواعية المتحركة في خط الإيمان، وتلك هي مهمّة الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان، الكلمة الهادية، والأسلوب المشرق، والجوّ الهادىء الذي يوحي بالفكر والموضوعيّة، ويقود إلى الإيمان من أقرب طريق.

وربما أريد من هذه الفقرة، أن النبي ليس مسؤولاً عن مراقبتهم والمحافظة عليهم ولا الإشراف على أعمالهم ومحاسبتهم وثوابهم وعقابهم، فإن الله هو الذي يتولى ذلك كله، وليست مهمة النبي إلا إبلاغ الرسالة بكل الوسائل التي يملكها مما يبذله من جهد الدعوة والإقناع. وهذه هي مهمة الداعية في حركة الدعوة إلى الله، بتلاوة آيات الله وإبلاغ رسالته، وتبقى المهمة ـ في الدنيا ـ في ملاحقة حركتهم في الواقع لوليّ الأمر الذي يطبّق النظام ويحافظ على الحياة في واقع الإنسان وغيره، وفي الآخرة تكون القضية في يد الله في الحساب والعقاب والثواب.

وهذا هو الذي يحدّد للرسالة موقعها وخطوطها، وللرسالي مهمته ودوره.

ـــــــــــــــ

(1) الكافي، ج:1، ص:119، رواية:1.

(2) الكافي، ج:1، ص:120، رواية:2.

(3) الكافي، ج:1، ص:98، رواية9.