تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 105 إلى الآية 107

 من الآية 105 الى الآية 107
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}(105ـ107).

* * *

معاني المفردات

{نُصَرِّفُ الآيَاتِ}: نأتي بها بأساليب شتّى بحيث تنتقل من حالة إلى حالةٍ أخرى. قال علي بن عيسى: التصريف إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة لتجتمع فيه وجوه الفائدة[1].

{دَرَسْتَ}: أي: تعلّمت وقرأت، وذلك من خلال تلاوة الآيات التي يعتبرونها دليلاً على أنك تعلمتها من اليهود، والدرس: الانمحاء وبقاء الأثر. يقال: درس الكتاب، ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ، وعُبّر عن إدامة القراءة بالدرس.

* * *

إيمان الرسول لا يضيره كفر الجاحدين

{وَكَذلِكَ} كما قرأت وتلوت وحفظت مما أوحى به الله إليك، {نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نحوّلها من فكرةٍ إلى فكرةٍ ومن أسلوب إلى أسلوب.. وتتنوّع المفاهيم، وتختلف الصور، وتزداد الآفاق المنطلقة مع المعرفة رحابةً وامتداداً، وتنفتح الأفكار وتتكاثر عمقاً واتساعاً، فإذا بالثقافة تملأ الكون، وإذا بالرسالة تشمل الحياة، ويتحيّر هؤلاء الذين ينكرون رسالتك، ويبتعدون عن هداها، من أين لمحمد(ص) كل هذا الفكر وكلّ هذا العلم؟ ويغيب عنهم وجه الحق، في ما يملكون من وسائل التفكير.. فهم يجهلون عمق المعرفة التي جاءهم بها، وامتداد الأفكار التي أطلقها، مما لا يمكن أن يكون فكر بشرٍ، أو وحي إنسان {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} لأنهم لا يفهمون معنى أن ينزل الله وحيه على بشر منهم فيكون نبيّاً، فيحاولون إرجاع ذلك كله إلى دراسته على اليهود.

{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ويميّزون بين الوحي وبين كلام البشر، فيؤمنون به ويعملون بأحكامه، فهؤلاء هم الذي يعيشون مسؤولية المعرفة، فينتبهون لكل ما يسمعونه، فيفكرون فيه، من أجل الوصول إلى القناعات الحقيقية بالأشياء.

ليقل هؤلاء ما طاب لهم القول، ولينسبوا القرآن إلى ما تعلمه النبي من اليهود، فليس في ذلك مشكلةٌ بالنسبة للرسول، ما دام يؤمن بكل وجدانه وشعوره وكيانه أن القرآن وحيٌ من ربه. فإن المهمّ أن يؤمن صاحب الرسالة برسالته، ليقف معها بكل صدقٍ وبكل قوّة، فلا يزيده إيمان من آمن شدّة إيمان، ولا ينقصه في ذلك كفر من كفر، لأنه لا يستعير ثقته بقناعاته من إيمان المؤمنين، بل من ثقته بالرسالة التي يحمل، وهو ما يريد الله له أن يعيشه ويعزّزه في قوّة الموقف الرافض لكل ما حوله من أوهام الكفر وشبهات الضلال، فلا يتوقف على مشارف الطرق، بل يتقدم بكل وثوق وطمأنينة ليتابع سيره.

* * *

اتباع الرسول وحي الله

{اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} فلا تسقط ولا تتنازل، ولا تأخذ فكراً غير الفكر الذي يوحي به الله، ولا تسلك طريقاً غير طريقه، ولا تلتزم بشريعةٍ أخرى غير شريعته، {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} فهو الذي يستحق العبودية دون سواه، وهو الذي يملك التشريع دون غيره، أمَّا الآخرون كلُّ الآخرين، الذين يشرّعون الشرائع ويقنّنون القوانين، ويرون لهم الحق كل الحق في عبادة الناس لهم، فهم مخلوقون له، وهو الخالق لهم، فكيف يتبع الإنسان وحي المخلوقين ويترك وحي الخالق؟ {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ولا تلتفت إليهم، ولا تفكر كثيراً بهم، ولا تتعقد منهم.. إنهم مجرد مرحلةٍ صعبة من مراحل الدعوة، ثم يتراجعون ويتساقطون واحداً بعد الآخر.. وتنطلق المسيرة في موعد الشروق وتترك وراءها كل خطوات الظلام وتهاويله، فسر في طريقك، وواصل جهادك فإن الله بالغ أمره.

وهكذا تتنوع إيحاءات الإعراض عن المشركين، لتشمل كل أساليبهم في ما يتوعدون ويعدون، ولتحتوي كل المعوّقات والعقبات التي يضعونها في طريق الدعوة، فإن امتداد الدعوة في روح الرسول، وفي حركة الحياة، كفيل بأن يهزم ذلك كله، ولا يقتصر هذا الأمر على الرسول وحده، بل يشمل كل المسلمين من الدعاة والعاملين في سبيل الله الذين يواجهون تحدِّيات الشر والكفر والضلال والاستكبار، التي تحاول أن تضعف إرادتهم، وتهزم مسيرتهم، وتبعثر خطواتهم، إن الله يقول لهم: واصلوا طريقكم، لا يشغلنكم المشركون وأتباعهم، بكل ما يثيرونه حولكم من تخويفٍ ووعيد، ومن أساليب التجهيل والتمييع ووسائل الاضطهاد، لأن الطريق إلى الله مفتوحٌ أمامكم، بكل سعته وامتداده.

وهكذا أراد الله لرسوله، ولجميع الدعاة من بعده، أن ينتصروا على كل وسائل الهزيمة النفسية، وكل أساليب التراجع الفكري والروحي.. فأعرض عن المشركين، واتبع ما أوحى إليه ربّه، وتابع المسيرة، وواصل الدعوة إلى الله وجاهد في سبيله.. حتى واجه المشركين بالحرب.. وهزمهم شرّ هزيمة.. وفتح قلوبهم على الإيمان بالصبر والجهد والحكمة.. وبدأ الناس، من خلال ذلك، يدخلون في دين الله أفواجاً..

وهكذا ينبغي لنا أن نكون، فنقف أمام كل التيارات المعادية، الإلحادية والإشراكية والنفاقية، ونمسك بكتاب الله بين أيدينا، فنتبعه في كل شؤون حياتنا، وندعو إلى مفاهيمه في كل مجالاتنا.. حتى إذا واجهنا في الطريق بعض الصعوبات والتحديات، وبعض الذين يريدون الانحراف بنا عن طريق الله سبحانه، في ما يحملونه من أفكار، وفي ما يثيرونه من شبهات، وفي ما يقدّمونه من مغرياتٍ، لتخطينا كل ذلك، لأن الحياة كلها من حولنا أصبحت إسلاماً يتحرك ويثير وينير ويتحدى، ويواجه الإنسان بالحق والعدل والصراط المستقيم.. ويلتقي بالحياة، بين يدي الله، من أوسع طريق..

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ} فلا يعجزه إيمان الناس لو أراد الله أن يخلق الإيمان في قلوبهم، تماماً كما لم يعجزه أن يبعث الناس، فأحياهم بعد أن كانوا عدماً، وأماتهم بعد أن كانوا يملكون كل وسائل القوّة والحياة، ولكن الله أرادهم أن يؤمنوا به من خلال الفكر والإرادة، لأن الله ربط الإيمان بالعقل والتأمل والإرادة، ولهذا ضلّ من ضلَّ، وأشرك من أشرك، وآمن من آمن، فقد أقام الله الكون على السنن الطبيعية التي أقامها، سواءً كان ذلك في حركة الإنسان أو الحيوان أو النبات أو الجماد..

{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} فليست مسؤوليتك أن تدخل الإيمان إلى قلوبهم بالقوّة، وبالمعجزة، بل كل مسؤوليتك، أن تبلّغ ما أرادك الله أن تبلّغه.. بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن تتابع الدعوة إلى الله، حتى تستنفد كل التجارب، حتى إذا استنفدت كل التجارب الممكنة انتهت مسؤوليتك.. {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لأن الله سبحانه لم يجعل لك السيطرة التكوينية، والقدرة الغيبيّة التي تشلُّ إرادتهم، وتقهر تفكيرهم، بل جعل لك مهمة الرسالة والدعوة. وتلك هي البداية والنهاية في خط الرسالات.

ــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:431.