الآية 108
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـــة
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(108).
* * *
معاني المفردات
{تَسُبُّواْ}: تشتموا، والسبّ: الذكر بالقبيح، ومنه: الشتم والذم، وأصله: السبب، كأنه يتسّبب إلى ذكره بالقبيح، وقيل: أصل السبّ القطع.
{عَدْواً}: ظلماً وتجاوزاً عن الحق إلى الباطل، قال الراغب: العدو: التجاوز ومنافاة الالتئام، فتارةً يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارةً بالمشي فيقال له: العدو، وتارةً في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان والعدو[1].
{زَيَّنَّا}: حسنّا وجمّلنا، بحسب الطبائع والغرائز المفضية إلى حب الإنسان لعمله ورؤيته بصورةٍ حسنة، حتى لو كان سيّئاً وقبيحاً.
* * *
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي، قال ابن عباس في رواية الوالبي قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك. فنهى الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواً بغير علم.
وقال قتادة: كان المسلمون يسبّون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوماً جهلة لا علم لهم بالله.
وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي(ص) فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله(ص): ماذا يريدون؟ فقالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم.
فقال رسول الله(ص): أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله. فأبوا واشمأزّوا. فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فإن قومك قد فزعوا منها، فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. فقالوا: لتكفنَّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله تعالى هذه الآية[2].
* * *
ملاحظات حول مناسبة النزول
1 ـ إن أبا طالب لا يمكن أن يطلب من النبي(ع) أن يترك كلمة التوحيد وهو المؤمن بها وهي أساس دعوته ما يجعل التنازل عنها تنازلاً عن الدعوة كلها.
2 ـ إن الذي طلبه المشركون في البداية قد نزلت به الآية في النهاية، فلماذا كل هذا الجدل بينه وبينهم إلا أن تكون هذه الدعوة منهم مناسبة للنبي كي يدعوهم إلى التوحيد من جديد؟ والله العالم.
وذكر صاحب الميزان أن ذيل الرواية لا يلائم صدرها، لأن الصدر يوحي بأنهم طلبوا منه الكفّ عن آلهتهم، أي: لا يدعو الناس إلى رفضها وترك التقرب إليها، حتى إذا يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم، وكان مقتضى جر الكلام أن يهددوه على دعوته إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك ويذكروا شتمه ويهددوه على ذلك، وليس في الآية إشارة إلى صدر القصة وهو أصلها، على أن وقار النبوة وعظيم الخلق كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول، أما اللعن الصادر منه لآلهتهم فهو من قبيل الدعاء دون الشتم إلى آخر كلامه[3].
ونقل الميزان عن تفسير القمّي قال: حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله(ع) قال: سئل عن قول النبي(ص): إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء؟ فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون، فقال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}[4].
وهذه الرواية توحي بأن المؤمنين هم الذين كانوا يمارسون السب لا النبي، وذلك في أجواء الصراع والجدال القاسي مع المشركين.
* * *
القاعدة القرآنية في أسلوب الدعوة إلى الله
وهذه قاعدةٌ قرآنيةٌ إسلاميةٌ للسلوك في حركة الدعوة في الحياة، وهي القاعدة التي تريد إبعاد الجوّ العملي للدعاة عن أساليب السباب والشتائم، في ما يخوضون فيه من صراع الفكر والفكر المضادّ، سواءٌ في ما يختلفون فيه من تقييم للمبادىء وللمواقف، أو في ما يتنازعون فيه من تقييمٍ لرموزٍ أو أشخاص، فلم تُرد لهم أن يتحدثوا بهذه اللغة، لأن ذلك يجرّ إلى ردود فعلٍ تضع الموقف في نطاق المهاترات، وتبعده عن أجواء الحوار الهادىء الموضوعيّ الذي يوحي للفكر بالتأمل، وللقلب بالانفتاح، وللمشاعر بالصفاء، وينتهي الأمر بهم إلى الفراغ والضياع.
وقد تحدثت الآية عن هذه القاعدة من خلال نموذجٍ حيٍّ، مما كان يبتلى به المسلمون الأولون، عندما تتعقد في داخلهم الأزمات النفسية، في ما كانوا يواجهونه من حقد المشركين وعداوتهم وطغيانهم، فيجدون السبيل الوحيد للتنفيس في سبهم وشتمهم، كتعبيرٍ عن الرفض لكل ما يعبدون وما يشركون بالله، وربّما أدّى ذلك إلى أن يخلق في داخل المشركين لوناً من ألوان الإثارة التي توحي برد فعلٍ عنيفٍ، يحاول أن يتحدّى السابّ بأقدس ما لديه، فلا يوجّهون الشتائم إليه شخصياً، بل يوجّهون الشتائم إلى ما يقدّسه في عقيدته ودينه، مما لا طاقة للمؤمن على احتماله، فيتحوّل إلى صدمةٍ قاسيةٍ تهز كيانه وتستدرجه إلى الهزيمة والإحباط، فيشعر المشركون بأنهم قد استطاعوا أن يثأروا لأنفسهم، وينتقموا لكيانهم.
وقد نستوحي من جوّ الآية، أنَّهم كانوا يسبّون آلهة المشركين، على أساس أن ذلك يمثّل لوناً من ألوان السبّ لهم، لأن سبَّ الإنسان قد يتمثل في الإساءة إلى شخصه، وقد يتمثل في الإساءة إلى أبيه وسائر أقربائه، كما قد يتمثل في الإساءة إلى إلهه، أو الرموز التي يعظِّمها ويقدِّسها في دينه وعقيدته.. فيكون ردّ الفعل أن يواجهوا السبّ بسبٍّ مثله.. فيسبوا الله، تنفيساً عن غيظهم، وتعبيراً عن حقدهم، لأنهم يرون أن السبيل الوحيد لردّ الاعتبار لآلهتهم، هو مهاجمة اسم الله، في ما يمثله ذلك من تحقيرٍ للمؤمنين به.
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}.. وقد أراد الله ـ سبحانه ـ في هذه الآية، أن ينهى المسلمين عن المبادرة إلى سبّ الذين يدعون من دون الله بغير علم، أو سبّ آلهتهم في عملية المواجهة، لأنّ ذلك لن يحقّق أيّة نتيجةٍ إيجابيةٍ لمصلحة الإيمان، لأنه لن يستطيع إقناع شخصٍ واحدٍ بهذا الأسلوب، بل ربما أدّى إلى تعقيد الأمور بطريقةٍ أكبر، وإقامة الحواجز النفسية ضد الإيمان والمؤمنين، وتحويل الموقف إلى سبّ الله من قبل المشركين، {فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} لأن الله سبحانه قد خلق الإنسان وأودع فيه الغريزة التي توحي له بأن يحبّ عمله ويراه حسناً، فيخلص له ويدافع عنه، لإحساسه بأن قضية العمل ترتبط بقضية الذات، ما يجعل من الإساءة إليه إساءةً إليها، وكأن الآية تريد أن تحمّل المسلمين المسؤولية في سب المشركين لله، بالنظر إلى أن مبادرتهم بسبّ المشركين وآلهتهم هي التي أدّت إلى ذلك في عملية الفعل وردّ الفعل.
إن القضية ليست في كون المشركين وآلهتهم يستحقون السبّ أو لا يستحقونه لندخل في نزاعٍ وجدال حول ذلك، بل القضية هي أنّ على الإنسان عندما يقوم بعملٍ ما، أن يحدّد هدفه من خلاله في ما يتحرك فيه من أهدافٍ تتعلق بمصلحته الذاتية أو العقيدية أو الحياتية بشكل عام. فذلك هو ما يحقّق للإنسان مصداقيته الإنسانية، ومعناه الحقيقي. ولا يجوز للإنسان الذي يحترم نفسه ومصيره، أن يخضع لحالةٍ انفعاليّةٍ طارئةٍ، فتكون تصرفاته ردَّ فعلٍ عصبيٍّ لتلك الحالة. وهذا ما جاء في بعض كلمات الإمام علي(ع) في ما كتبه لعبد الله بن عباس: «فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّةٍ أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطلٍ أو إحياء حق...»[5] وعلى هذا، فإن السبّ الذي يستتبع مثل هذه النتيجة السيئة لن يشارك في إحياء الحق وإطفاء الباطل، بل يمثل مجرد حالةٍ ذاتيةٍ من بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، فلا يجوز للمسلم أن يبادر إلى ذلك، لأنه يسيء إلى الهدف، في ما يثيره من سلبياتٍ ضد قضية الإيمان، وفي ما يحققه من إيجابياتٍ لقضايا الكفر..
* * *
من وحي الآيـة
وإذا كانت الآية قد تعرضت لموضوع سب المشركين وآلهتهم، فإننا نستوحي منها المبدأ الذي يدعو إلى الكف عن أيّ نوعٍ من أنواع السباب الذي يؤدي إلى ردود فعلٍ سلبيّة، في أيّ موقعٍ من مواقع الصراع الفكري والديني والسياسي والاجتماعي، للحيثيات نفسها التي تفرض النهي في مورد الآية.
وفي ضوء ذلك، نحبُّ التأكيد على ما قد يحدث عند الخلافات الدائرة بين المسلمين حول تقييم بعض الشخصيات الإسلامية التاريخية أو المعاصرة، بين من يحترمها ويعظّمها، وبين من لا يحترمها ولا يعظمها، فقد نجد الخلاف يحمل في طريقة ممارسته بعض ألوان السبّ لهذه الجهة أو تلك، على أساس وجود حيثيةٍ في هذه الجهة أو تلك، ما يوجب مزيداً من العداوة والبغضاء والتمزّق والعصبية العمياء التي قد تؤدّي بالحياة الإسلامية إلى الضياع، كما قد يفرض على الساحة الإسلامية وضعاً منحرفاً يعيش المسلمون معه أجواء المهاترات والكلمات غير المسؤولة.. وقد جاء في نهج البلاغة، في ما يروى عن الإمام علي(ع) أنه سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، عندما كان يخوض المعركة في صفين ضد معاوية، فوقف فيهم خطيباً قائلاً:
«إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهُم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به»[6].
إننا نريد للمسلمين أن يرتفعوا إلى هذا المستوى الذي يعيشون من خلاله روحية الإسلام وانفتاحه ورحمته ومسؤوليته وواقعية أحكامه في الحياة، ليتمكنوا، في ذلك، من الوصول إلى النتائج الإيجابية الكبيرة على مستوى الوحدة، وعلى مستوى سلامة المصير وسلامة الدين.
* * *
بين سبّ المشركين الله وإيمانهم به
{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} وهنا ملاحظتان: الأولى: كيف ينسب الله التزيين في عمل الكافرين المشركين إلى ذاته المقدسة؟ والجواب: إننا بيّنا أكثر من مرة في هذا التفسير أن القضية تتصل بالمنهج القرآني الذي يريد ربط الأمور كلها من أشياء وأفعال بالله، وذلك لأنه مسبّب الأسباب، فهو الأساس في عمق كل الوجود، ولا ينافي ذلك أن يكون التزيين من الشيطان من خلال العناصر التي يستخدمها في إغواء الإنسان وفي نسبته إلى الإنسان باعتبار انطلاقه من إرادته واختياره.
الثانية: كيف يسبّ المشركون الله، وهم يؤمنون به، لأنهم يعتبرون أن الأصنام تقرّبهم إلى الله من موقع قربها منه، ما يجعلها في موقف الشفاعة؟
والجواب: إن ذلك قد يكون بالاستناد إلى أن المؤمنين يلتزمون الإيمان بالله كأساسٍ لعقيدتهم وخطٍّ لحياتهم، بحيث يكون في موقع الواجهة التي يلتزمونها ويتأثرون بها، بينما يستغرق المشركون في الأصنام فيعبدونها ويلتزمونها بحيث ينسون الله في ربوبيته وألوهيته، ولذلك فإنهم لا يتمثلونه في العبادة والسلوك وغيرهما، الأمر الذي يجعل رد فعلهم في سب الله منسجماً مع هذا النسيان والإهمال له والابتعاد عنه، بحيث لا يمثل سوى كلمةٍ يلفظونها، لا عقيدة يلتزمونها.
وربما كانت المسألة ناشئة من وحي العناد والتعصّب الذي يجعل المعاند أو المتعصب مشدوداً إلى الانتقام من الإنسان الآخر وإلى إنزال الأذى النفسي به أياً كانت المسألة بقطع النظر عن اعتقاده ببعض مقدساته، فيسب الله كردّ فعل لسب الأوثان وإن كانوا يؤمنون بالله، وهذا يشبه ما ينقله العلامة الألوسي في روح المعاني عن شخص من الشيعة سب الشيخين فما كان من السنّي الذي سمعه إلا أن بادر فسب علياً(ع) فقيل له: كيف تسب علياً وأنت تؤمن بأنه الخليفة الشرعي الرابع الذي يفرض عليك احترامه، فقال: كنت أريد الانتقام من الشيعي، ولم أجد ما يغضبه خيراً من هذا، ثم تاب عن ذلك[7].
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فمهما اختلفت السبل والأفكار أو انحرفت، فإن مصير الجميع إلى الله، حيث يقفون أمامه للحساب، فيعرّفهم ماذا كانوا يعملون، ليواجهوا نتائج ذلك كله، فليست الحياة الدنيا نهاية المطاف، لتتأزم نفس المسلم تأزماً يضطر للتنفيس عنها بهذا الأسلوب أو بذاك.. فليترك الآخرين لمصيرهم، بعد أن يقيم الحجة عليهم بما يملك من وسائل الإقناع، لأنه، بذلك، يكون قد أدى واجبه أمام الله، فلا يبقى لديه شيءٌ يتوقف عنده، أو يتعقد منه.
ـــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:338.
(2) أسباب النزول، ص:123 ـ 124.
(3) انظر: تفسير الميزان، ج:7، ص:334.
(4) م.ن، ج :7، ص:335.
(5) نهج البلاغة، الكتاب:66.
(6) نهج البلاغة، الخطبة/206.
(7) انظر: الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، مؤسسة التاريخ العربي، ص:4، 1405هـ ـ 1985م، ج:80، ص:251.
تفسير القرآن