تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 109 إلى الآية 111


من الآية 109 الى الآية 111

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}(109ـ111).

* * *

معاني المفردات

{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: أي : باذلين منتهى جهدهم ووسعهم فيها، مجتهدين مظهرين الوفاء بها. قال الراغب: الجَهد والجُهد الطاقة والمشقة. وقيل: الجَهد بالفتح: المشقة، والجهد: الواسع[1]. وقال صاحب المجمع: الجَهد بالفتح: المشقة، والجُهد بالضم: الطاقة، وقيل: الجَهد بالفتح المبالغة، فقوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: بالغوا في اليمين واجتهدوا فيه[2].

{وَنُقَلِّبُ}: نصرّفها من رأي إلى رأي، حيرة واضطراباً، فلا تدرك الحق، وقلب الشيء: تصريفه، وصرفه من وجه إلى وجه.

{يَعْمَهُونَ}: يترددون حيرةً. والعمه ـ كما قال الراغب ـ التردد في الأمر من التحير[3]. وقد مر سابقاً.

{وَحَشَرْنَا}: الحشر: الجمع مع سوق، وكل جمع حشر.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده إلى محمد بن كعب قال: كلمت رسول الله(ص) قريش، فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى(ع) كانت معه عصا ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وأن عيسى(ع) كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيّ شيء تحبون أن آتيكم به، فقالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين، فقام رسول الله(ص) يدعو، فجاءه جبريل(ع) وقال: إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولكني لم أرسل آية فلم يصدّق بها إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله(ص): اتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} إلى قوله {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}[4].

ونلاحظ، أن النبي(ص) كان يعلم ـ من الله ـ أنه لم يُرسَل ليستجيب لمقترحاتهم مما يطلبونه من المعجزات، فإن الله ينزل المعجزة على رسله من خلال الحاجة الملحّة التي يفرضها واقع التحدي من دون أن يطلبوا ذلك منه، وهذا ما نلاحظه في المعجزات التي جاء بها الأنبياء.

ولذلك فقد لا يكون من الطبيعي أن يستجيب النبي(ص) لطلبهم قبل أن يستشير الله في ذلك حتى لا يكون موقفه موقف ضعف أمامهم عندما يتراجع عن ذلك بعد أن أخذ منهم موثقاً أن يصدّقوا به إذا جاءهم بهذه الآية، الأمر الذي يجعل الحجة لهم في عدم الإيمان به، لأنه ـ حسب الرواية ـ لم يحقق لهم ما وعدهم به، والله العالم.

* * *

تعليق صاحب الميزان على رواية النزول

وقد جاء في تفسير الميزان ـ تعليقاً على هذه الرواية ـ قال: القصة المذكورة سبباً للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات، فقد تقدم أن ظاهرها الإخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، وأنهم ليسوا بمفارقي الشرك وإن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإيمان ولم يشأ ذلك، وإذا كان هذا هو الظاهر من الآيات، فكيف ينطبق على ما جاء في الرواية من قول جبرئيل: إن شئت صار ذهباً فإن لم يؤمنوا عذبوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم؟

فالظاهر أن الآيات في معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فكذّبهم الله بهذه الآيات وأخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالاً عليهم[5].

* * *

منطق الكافرين الزائف

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاَْيَاتُ عِندَ اللَّهِ}. تعكس هذه الآية صورة حيّة من صور أولئك الكافرين الذين رفضوا الإيمان كمبدأ، ولكنهم ما زالوا يحاولون تسجيل المواقف ضد الرسالة والرسول، من أجل الإيحاء للبسطاء من النّاس، بأنّهم ممن يبحثون عن الحقيقة من خلال البحث عن الدليل، ولذلك فإنهم يقدّمون الاقتراحات التي تطلب من الرسول أن يأتيهم بآيةٍ ليؤمنوا بها، تماماً كأيّ إنسان خالص النيّة، مفتوح العقل، فليس بينه وبين الإيمان إلاّ أن يرى الآية ليؤمن..

ولكنّ القرآن يطرح القضيّة بكل بساطة ليتساءل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فما هو الأساس في ذلك، وما هو الضمان؟ ولماذا يطرح القرآن هذا السؤال؟ لأن تاريخهم لا يوحي بمثل هذه الجديّة في طلب المعرفة من أجل الإيمان. فهل يملك النبيّ أمر تقديم آيةٍ يوميّةٍ، يغيّر فيها النظام المألوف للكون، لكل مقترح؟ وهل كانت المعجزات حاجةً شخصيةً لكل من يطلبها، أم أن أمر ذلك بيد الله، فهو الذي يحرّك الآيات في حركة النبوّات تبعاً لحكمته؟ ولماذا يريد هؤلاء الآية؟ أليؤمنوا؟ وهل يتوقف الإيمان على ذلك؟ إن النبي يقدّم لهم في القرآن آيةً تطرح التحدي، ويقدّم لهم المنهج العقلي الذي يريد للعقيدة أن تتحرك من مواقع التفكير، مما لو انطلقوا معه لاستطاعوا أن يصلوا إلى الحقيقة من أقرب طريق، فلماذا لم يفكروا في ذلك كله، ولماذا لم يدخلوا الحوار الهادىء الذي طرحه الرسول أمامهم كوسيلةٍ من وسائل الوصول إلى النتيجة الحاسمة في العقيدة؟.

إن ذلك دليل على أنَّهم يحاولون القفز على المواقع، لينتقلوا من موقعٍ إلى موقعٍ تبعاً للحاجة، فإذا شعروا بأنهم مكشوفون في موقعٍ حاولوا أن ينتقلوا إلى موقعٍ آخر يختفون وراءه، ليسجلوا نقطةً هنا ونقطة هناك.

* * *

ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، ويكشف الله لنا الواقع الداخلي لهؤلاء، فيحدِّثنا أنه يقلّب أفئدتهم فتتحرك هنا وهناك، ولكن من دون جدوى، ويقلّب أبصارهم، فيتطلعون في هذا الجانب أو ذاك، في ما يمكن أن يكشف وجه الحق في العقيدة، ولكن من دون فائدة، لأنهم لم يفتحوا قلوبهم ليتأملوا أو ليفكروا أو ليناقشوا، ولم يفتحوا عيونهم ليشاهدوا أو لينظروا أو ليتطلعوا، بل عملوا على أن يجمِّدوا حركة الفكر في عقولهم، وحركة النور في أبصارهم.. ليبقى لهم الموقف المتعنِّت الجامد الذي وقفوه في البداية من الدعوة عند نزول القرآن.

{وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ويتركهم الله لضلالهم الذي اختاروه لأنفسهم، ويدعهم لطغيانهم الذي يتحيرون فيه ويتخبطون، فلا يلجأون إلى قاعدة، ولا يسكنون إلى طمأنينة، بل هو القلق المدمّر الذي يفترس أعماقهم، وإن حاولوا الظهور بمظهر الإنسان الواثق بنفسه الراضي بموقفه.

وقد جاء في تفسير القمّي في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} الآية، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ـ محمد الباقر(ع) ـ في الآية، يقول: وننكّس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، وتعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدئ، وقال علي بن أبي طالب(ع): إن ما تقبلون عليه من الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيراً أبداً[6].

* * *

قرار الكافرين الحاسم بعدم الإيمان

وتزداد الصورة وضوحاً.. فهناك قرارٌ حاسمٌ بعدم الإيمان، لا مجال للتراجع عنه، مهما قُدّم إليهم من براهين: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي: معاينةً ومشاهدة، مما طلبوه وسألوه {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} لأنهم لم يكونوا بصدد الإيمان، لتكون هذه الآيات أساساً لما يريدونه من الإيمان، {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} بأن يجبرهم على الإيمان، أو يهيّىء لهم الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} سنن الله في قضية الإيمان والكفر، ومشيئته في مجال الهدى والضلال، وقدرته على كل شيء مما يتصل بشؤون خلقه.

ونلاحظ أن مثل هذه الصورة ـ النموذج لا تمثل نموذجاً تاريخيّاً فريداً، لتكون مجرد حديث من أحاديث التاريخ، وصورةً من صوره، بل تمثل نموذجاً حيّاً متحركاً في كل زمانٍ ومكان، وهو الإنسان الذي يتحول الانتماء عنده إلى مزاجٍ، أو حالةٍ ذاتيةٍ، فهو يؤمن لأن مزاجه يرتاح للإيمان، لا لأنّ عقله يقتنع به، وهو يكفر، لأن الكفر يمثل في مزاجه حالة تمرّد ترضي بعض نزواته، لا لأنه يفقد القاعدة الفكرية والروحية للإيمان، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ قد يشعر بالحرج أمام مجتمعه، لأنه لا يملك المبرّر المعقول لإيمانه، فيحاول أن يبحث عن المبرّرات التي يصرُّ على صفتها التبريريّة، مهما كانت وسائله ضعيفة، وحججه غير مقنعة، لأنه لا يبحث عن وسائل الاقتناع، فهو ليس بصدد ذلك كله، بل يبحث عن وسائل التبرير لمجرد التبرير، ولذلك فإنه إذا أفنى أحدوثةً مطَّها بأخرى، وإذا سقطت لديه حجّةٌ حاول أن يتعلق بحجة أخرى، فقد اتخذ قراره من البداية، وليس مستعدّاً أن يرجع عنه مهما كانت الظروف والنتائج.

ـــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:99.

(2) مجمع البيان، ج:4، ص:434 ـ 435.

(3) مفردات الراغب، ص:360.

(4) أسباب النزول، ص:124.

(5) تفسير الميزان، ج :7، ص:335 ـ 336.

(6) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:7، ص:336.