من الآية 112 الى الآية 113
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتــان
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ* وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}(112ـ113).
* * *
معاني المفردات
{جَعَلْنَا}: حكمنا حكماً تكوينياً بحسب سنن الصراع وقوانين التغيير، وليس فعلاً تشريعياً، وجَعَل ـ كما يقول الراغب ـ لفظٌ عام في الأفعال كلها، وهو أعمّ من فَعَلَ وصَنَعَ وسائر أخواتها. ويتصرف على خمسة أوجه حيث يجري مجرى صار وطفق، وأوجد، وفي إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه. وفي تصيير الشيء على حالةٍ دون حالةٍ، وفي الحكم بالشيء على الشيء حقاً كان أو باطلاً[1].
{زُخْرُفَ الْقَوْلِ}: القول المموّه، المزيّن الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل، والكلمات الحلوة المعسولة المزوّقة التي تنفذ إلى القلب في أعمق مشاعره لتحرّك نوازع الشر فيه، قال الراغب: الزخرف: الزينة المزوّقة[2]. وقال صاحب المجمع: الزخرف: المزيّن، يقال: زخرفه زخرفة إذا زينه[3].
{غُرُوراً}: لأجل الغرور والخداع الذي يجعل الإنسان يسعى من أجل هلاكه، وهو يظن أن فيه خيره وصلاحه. والغرور: ما له ظاهر تحبه وفيه باطن مكروه، والغِرّة: غفلة في اليقظة، ويقال: غررت فلاناً إذا أصبت غرّته ونلت منه ما أريد.
والشيطان غرور لأنه يحمل على محابّ النفس ووراءه سوء العاقبة، وبيع الغرر: ما لا يكون على ثقةٍ.
{وَلِتَصْغَى}: الصغو: الميل، يقال: صغتِ النجوم والشمس صغواً: مالت للغروب، وأصغيت إلى فلان: ملت بسمعي نحوه.
{وَلِيَقْتَرِفُواْ} الاقتراف: اكتساب الإثم، ويقال: خرج يقترف لأهله، أي: يكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله.
* * *
لكل نبيّ عدوّ من الإنس والجن
وجاءت الآية الأولى لتتحدث عن هذه السلسلة التاريخية الطويلة من أعداد الرسل والرسالات، فقد أشارت إلى رسول الله في ما واجهه من مظاهر العداوة من جحود وكفر ونكران، ومحاولة لإضلال المؤمنين به، وبيّنت له أن المسألة لا تختص به، بل تشمل كل الأنبياء من قبله، لأنها سنة الله التي أودعها في نظام المجتمعات وحركتها..
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} فهناك الذين ينسجمون مع الخط الرساليّ، وينفتحون على جميع معانيه ومفاهيمه، وهناك الذين يتنكرون له ويتمردون عليه ما يجعلهم معقدين أمامه، ليتحوّل ـ بعد ذلك ـ إلى عقدةٍ ضدّ صاحب الخط ورسوله، سواءٌ في ذلك شياطين الإنس الذين يعملون في السرّ والعلن من أجل التخطيط للقضاء على الرسول والرسالة، أو شياطين الجنّ الذين يتبعون سبيل الوسوسة في إبعاد الإنسان عن الحق والعدل، وتزيين الباطل له، وتشويه القيم الروحية والأخلاقية في الحياة، وإثارة الشهوات من أجل تحريك كل نقاط الضعف فيه.
ويتلاقى هؤلاء الشياطين في اجتماعات صغيرةٍ أو كبيرةٍ، مغلقةٍ أو مفتوحةٍ، ليتحدثوا فيما بينهم في أقرب الوسائل للضغط على الرسول، وفي أفضل الكلمات التي تحرِّك النوازع السيّئة الخبيثة التي تمنع الإنسان من الانفتاح على الله، وفي أكثر الأساليب خداعاً وتغريراً..
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في عملية إيحاءٍ بالشر والضلال في أجواءٍ حميمة محبّبةٍ إلى النفس، وفي كلماتٍ حلوةً تنفذ إلى القلب في أعمق مشاعره وأدقّ نبضاته، وهكذا يبدأ الضلال في عقول الناس، كلماتٍ حلوةٍ، وأساليب جميلة، وأجواء حالمة، وشهوات محمومة، مما تزينه الشياطين وتثيره وتحركه في حياة الناس البسطاء الطيبين الساذجين الذين لا يعرفون فنون الحيل وأساليب الخداع، بل يقبلون على كل ما يسمعونه بالطيبة التي توحي بالثقة، وبالطهارة التي تقود إلى الاستسلام.. حتى إذا اكتشفوا وجه الحيلة في نهاية المطاف، أصابتهم الدهشة، وأثارهم العجب، وتساءلوا: كيف يمكن أن يوجد في الكون مثل هؤلاء الناس الذين يخدعون عباد الله ولا يخافون الله في ما يقولون وفي ما يفعلون، وفي ما يدبرون من مكائد ومصائد؟
وقد كان للأنبياء أعداءٌ لا يعرفون من الحيلة إلاّ الأساليب الخفية التي سرعان ما تنكشف للناس، فيبطل مفعولها من خلال ذلك، كما تحدث لنا القرآن عن صاحب اَبراهيم(ع) عندما قال ـ على ملأٍ من قومه ـ جواباً لإبراهيم(ع) الذي قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ} [البقرة:258] قال: {أَنَا أُحْيِ وَأُمِيتُ} كأسلوبٍ من أساليب تضليل البسطاء من الناس الذين يرون أن أمر الحياة والموت بيد الملوك الذين يستطيعون أن يهبوا الحياة للمجرم فيرفعوا عنه القتل، وأن يسلبوا منه الحياة ليحكموا عليه بالموت.. {قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهكذا رأينا كيف كانت أساليب فرعون الظاهرة والخفيّة، في الكيد لموسى(ع). وتتوالى الأحداث مع الأنبياء.. ويكون الحل الأخير لأعدائهم هو القوة التي قد تنجح أحياناً، وقد تفشل في كثيرٍ من الحالات عندما تتدخل القوة الغيبيّة لتنقذ النبيّ من كيدهم وطغيانهم..
* * *
في كل زمان قافلة مؤمنة تواجه أعداء الله
ومرت قافلة الأنبياء.. وجاء بعدها الأئمة والأولياء والعلماء الذين حملوا الرسالات بقوّةٍ وصدق.. ووقفت قافلة أعداء الله في الطريق.. تواصل مسيرة التصدي والتحدي والكيد والتخريب، وتنوّعت وسائل ذلك، فاستخدمت كل أدوات العلم والفنّ والإعلام في سبيل المزيد من سياسة التشويه والتمويه والترغيب والترهيب، والتخييل والإيهام، وتغيير الواقع بما يتناسب مع أفكار الكفر والضلال.. وما زالت المؤامرة على الإسلام والمسلمين مستمرةً.. وما زال الناس يتساقطون، في دينهم وعقيدتهم وسلوكهم أمام عناصر المؤامرة وأساليبها، بفعل القوّة المدمّرة، والاحتواء الشامل لكل الساحة، في جميع أوضاعها ومجالاتها.. وما زال المجاهدون الدعاة إلى الله في قلب المعركة، معركة الأنبياء مع شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً..
* * *
دور أعداء الرسالات في الحياة
وتلك هي إرادة الله في ما أقام الكون عليه من سننه الحتمية التي تترك للناس أن يختاروا ما يحلو لهم، فلا يشلّ قدرتهم على الاختيار، بل يوجهها في نطاق الحرية المسؤولة، فإذا انحرفوا عن الطريق، لم يتدخل بإرادته الفاعلة ليمنعهم عن الانحراف، وذلك هو مفهوم الآية الكريمة: { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} لأنهم لم يتمردوا على أنبياء الله ورسله من موقع قوّةٍ ذاتيةٍ يملكون ـ من خلالها ـ مجابهة الله في سلطانه، وإنما فعلوا ذلك في نطاق السنن الكونية التي أودعها الله في الكون، فهم يتصرفون في نطاق حركة القدرة الإلهية، في ما أعطاهم الله من حرية الإرادة، وحركة الاختيار.
{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ودعهم، لا تلتفتْ إليهم، لأنَّهم لن يضرّوك شيئاً، ما دمت سائراً في طريق الله بقوّةٍ وعزيمةٍ وإخلاصٍ، إنهم يعيشون مع أفكارهم الشيطانية، ويحسبون أنها تجلب لهم الفلاح والنجاح.. ولكنها لن تفيدهم شيئاً ولن تغيّر شيئاً من مصيرهم، فذرهم وما يفترون من أفكار وآراء.. فإن وحي الله معك.. فهو النور، وهو الحقيقة.. {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}. وهذه هي النتائج التي ينتظرها عدوّ النبيّ في كل زمان ومكان.. أن يجد أذناً تصغي إليه، وقلباً يرضى بزخرفه وغروره، وأناساً يسيرون على خطته، ويقترفون الجرائم التي يأمرهم بارتكابها.
إن دوره أن يحرّك الساحة لمصلحة الكفر، ويحقّق لها شروط نموّها وتطوّرها في الاتجاه الذي يريده، فقد نجد في بعض الحالات مجموعةً من الناس تعيش في أجواء الكفر، ولكنها لا تجد القيادة التي تستفيد من هذه الأجواء من أجل الحصول على نتائج كبيرة، ولا تجد الظروف الموضوعية التي تنمّي فيها قابلية الانطلاق.. فتقف في الظل طويلاً تتطلع إلى الفرص القادمة. فإذا جاءها ذلك كله، تحوّلت إلى حركةٍ قويّةٍ متمرّدة، في ما تسمع وفي ما تؤيّد وفي ما تعمل.. وتلك هي سنّة الله في الحياة.. في ما أراده من تنظيمٍ للكون في أن يمارس الإنسان عملية الإرادة من موقع الحريّة.. وأن تتحرك الحرية في الأجواء التي تحمل في ساحاتها فرص الهدى.. وفرص الضلال.
* * *
خلق الإرادة الحرة في الإنسان
أمّا كيف يجعل الله لكل نبيٍّ عدوّاً، وكيف ينسجم ذلك مع فكرة الحريّة، فهذا حديثٌ قد كررنا الإشارة إليه، في ما ألمحنا إليه وأوضحناه في هذا التفسير، من أن الله عندما يتحدث عن نسبة أيّ فعلٍ من أفعال الخير أو الشر إلى ذاته المقدّسة.. فإنه لا يتحدث عن ذلك بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، يلغي فيه دور الإرادة الإنسانية في الفعل، بل يتحدث عنه في الإطار العام للخلق في ما أودعه فيه من النظم الكونية والحياتية التي تتحرك في نطاق قانون السببيّة. فلكل فعلٍ سببه الذي لا يوجد إلاّ به، وإذا كانت الإرادة الإنسانية هي أحد أسباب وجود الفعل الإنساني، فإنها تؤكد عملية الاختيار ولا تلغيها، وبذلك كانت نسبة جعل الأعداء للنبي إلى الله، منطلقةً من أن طبيعة الرسالة التي أرسلها الله إلى الناس، تفرض أن يكون لها أناسٌ يؤمنون بها، وأناسٌ يكفرون بها، وذلك بالنظر إلى اختيارهم الشخصي في قضية الإيمان والكفر، ما يجعل القضية مرتبطة بالله من جهة، من خلال خلقه للإرادة الحرّة في الإنسان، وبالمكلّف من جهة أخرى، من خلال مباشرته لعملية الاختيار بحريته، وهذا الأسلوب ليس ببعيد عن عالم الإسناد المجازي في اللغة العربية.
ــــــــــــــــ
(1) انظر: مفردات الراغب، ص:92.
(2) مفردات الراغب، ص:216.
(3) مجمع البيان، ج:4، ص:437.
تفسير القرآن