من الآية 118 الى الآية 121
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ* وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ* وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ* وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(118ـ121).
* * *
معاني المفردات
{لَمُشْرِكُونَ}: لمشركون بطاعتهم لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله فتكونون منهم {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. فإن الشرك لا يقتصر على العبادة المعروفة لغير الله، بل يشمل مجالاتٍ أوسع، حتى أن أكثر المؤمنين مشركون {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف:106] فهو شرك الطاعة وشرك الأسباب.
* * *
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي: في قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال المشركون: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: الله قتلها. قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة: إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تحريم الميتة، كتبوا إلى مشركي قريش، وكانوا أولياءهم في الجاهلية، وكانت بينهم مكاتبة، أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتّبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبح الله فهو حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية[1].
ونلاحظ على هاتين الروايتين، أنّ المطروح في هذه الآيات ليس هو مشكلة حلية الميتة أو حلية الذبيحة لتنزل هذه الآيات فتؤكد الحل للمشكلة، بل المطروح هو ذكر اسم الله على الذبيحة وعدمه أو ذكر اسم غيره كالذبح على النصب، فلا تناسب بين مضمون الآيات ومناسبة النزول مما تذكره الروايتان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن أكل الميتة ـ بمعنى ما مات حتف أنفه ـ لم يكن معهوداً عند العرب أو عند الفرس ليسجّلوا اعتراضهم على الإسلام في تحريمها، ولهذا فقد يكون ما ذكر اجتهاداً من الرواة في مناسبة النزول، لا برواية عن الواقع في نزول الآية.
* * *
أنموذج من نماذج الالتزام بالخط الإلهي
وهذا أنموذجٌ من نماذج الالتزام بالخط الإلهيّ، بعيداً عن أكثر مَنْ في الأرض الذين يضلّون عن سبيل الله، وذلك لأن المؤمن الحق هو الذي يقف عند حدود الله، في ما حلّله وحرّمه، بعيداً عن أيّ اعتراضٍ مما قد يعترض به الآخرون وعن أيّ سوء فهمٍ مما قد يخطر في البال، أو عدم فهم مما قد تشتبه فيه الأمور، لأنه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فهو التسليم المطلق لله. فإذا كان الله قد رخّص في شيءٍ، فإنّ علينا أن نستجيب لرُخصه، من دون أن نتعقّد من ذلك، وإذا كان قد حرّم شيئاً، فإن علينا أن نمتثل لنهيه من دون أن نعترض على ذلك، ثم نحاول أن نفهم سرّ الرخصة هنا وسرّ التحريم هناك، على أن لا يغيّر ذلك شيئاً من طبيعة الأمور، في خطّ التزام الإيمان.
وقد أراد الله للمؤمنين التحرك في هذا الاتجاه في بعض الأمور التي كانت تقع موضعاً للجدل بين المؤمنين والمشركين، وربما أحس المسلمون، أو بعضهم، بشيء من الضعف في موقفهم أو في موقف الدفاع عن الحكم الشرعي الذي يلتزمون به، فقد كان المشركون يعلّقون على ما يلتزم به المسلمون من أكل الحيوان المذكّى الذي ذكر اسم الله عليه، وامتناعهم عن أكل الميتة، فيقولون لهم: أتأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ وكأنّهم ـ بذلك ـ يعترضون على إخلاصهم لقضية الإيمان بالله، لأن ما يعملونه قد يعني ـ في ما يعنيه ـ أنهم يحترمون شرعيّة أفعالهم أكثر مما يحترمون شرعية فعل الله، فكانوا يحسّون بشيءٍ من عقدة القلق الخفيف، في هذا الجو.
وقد جاءت هذه الآيات لتبعد عنهم هذه الأوهام التي أثارها المشركون في أنفسهم، فهم لا يستحلّون ما يستحلّونه مما يذبحون من الحيوان احتراماً لفعلهم، بل تعظيماً لله في ما شرّعه لأنه أباح لهم أكل الحيوان الذي ذبح على اسمه، فكانت شرعيته منطلقةً من اسم الله الذي يوحي لهم بالشرعية، باعتبار أنه بداية كل شيءٍ في حياة المؤمن ونهايته، ولذلك حرّم عليهم ما لم يذكر اسمه عليه، أو ذكر اسم غيره عليه، لأنّه مما لم يأذن به الله.. وهكذا نعرف معنى تحريم الميتة، لأن فعل الله في إماتته للحيوان، لا يعطي للأكل منه شرعيّةً، ما لم يصدر منه الإذن في ذلك، في ما يوحيه الإذن من وجود منفعة للإنسان فيه.
* * *
الأكل مما ذكر اسم الله عليه
أمّا أسلوب الآيات، فقد عالج المسألة من خلال الخطّ الذي ينبغي للمؤمن أن يتحرك فيه، وهو خط الالتزام بما شرّعه الله، حراماً أو حلالاً، لأن ذلك هو علامة الإيمان: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} لأن الإيمان بآياته يفرض العمل بمضمونها، فإذا جاءت الآيات بتحليل شيءٍ فإن من المفترض على المؤمن أن يمارسه في عمله من موقع هذا الحكم، ثم لا يمتنع عنه تحت تأثير أيّة شبهةٍ؛ {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} في ما فصله من المحرمات في كتابه، فإنه لم يذكر فيها تحريم ذلك، فكيف تتوقفون فيه لمجرّد كلمةٍ تسمعونها من مشركٍ؟! {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وهذا هو الاستثناء من كل ما حرّمه الله، لأن قضية الاضطرار تعني الحالة التي تتوقف عليها حياته، بحيث لو لم يفعل هذا أو يترك ذاك لهلك، فإن قيمة الحياة في استمرارها تعلو كل قيمةٍ أخرى سلبيّةٍ أو إيجابية، لأن الله قد حرّم ما حرّم من أجل الحفاظ على سلامة حياة الإنسان، فإذا كان الالتزام بالحلال يهدد حياته، فلا بد من الالتزام به أن يتأخر، لتتقدم حياة الإنسان.
وربما يخطر في البال أن معنى الاضطرار لا يتوقف على أن يصل الأمر إلى حدّ الهلاك، فيمكن أن يشمل صورة وصوله إلى حدّ الحرج الذي يواجه فيه الإنسان وضعاً غير محتملٍ، من ناحيةٍ صحيّةٍ أو عمليّةٍ، في نطاق الظروف المحيطة به، وهذا ما يمكن أن يصدق عليه الاضطرار في مفهوم العرف. وقد نستطيع تأكيد ذلك في ما تحدثت عنه الآية الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] و{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة:185] فإننا نستبعد أن يكون هناك تعدّد في العناوين الرافعة للتحريم، لا سيما بلحاظ اقتراب المفهومين من بعضهما البعض، وتلاقيهما في أكثر من مورد، إننا نسجل هذا الاحتمال، من أجل أن نضعه موضع التفكير في خطّ الاجتهاد الفقهي، لأن الوصول به إلى نتيجةٍ حاسمةٍ، قد يحقق لنا الكثير من النتائج الفقهية على مستوى حياة الناس العمليّة.
{وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيثيرون الشبهات أمام أحكام الله وتعاليمه، لمجرّد إرباك الموقف، وتضليل الخطى، ولا مانع من الشبهات إذا كانت منطلقة من قاعدةٍ علميّةٍ مستندةٍ إلى تحليلٍ فكريٍّ للأشياء، لأنّ المنطق العلميّ يمكن أن يؤدّي إلى نتيجةٍ إيجابيّةٍ في مجال الحوار، لأن هناك قاعدةً محددةً يمكن أن يلتقي عليها المتحاورون، في ما يمكن أن يتحاوروا فيه من موازين العلم وقضاياه، أمّا الشبهات التي تثار على أساس الأهواء والشهوات، فلا مجال لإدارة الحوار حولها، لأنها لا تستند إلى أساسٍ للأخذ والردّ، بل كل ما يحمله دخولها هو المزيد من الأوهام والضباب والدخان، الذي يحجب الرؤية قليلاً، ثم يضيع في الهواء.
وفي هذه الحالة، لا بدّ من أن يرجع الإنسان إلى قاعدة إيمانه وفكره، فيخلو إلى نفسه، ليعرف ـ من خلال ذلك ـ كيف تتبخّر كل هذه الشبهات في الفضاء من دون حاجةٍ إلى جهدٍ كبير، لأن المسألة تتحوّل ـ في حركة الساحة ـ إلى عدوانٍ على الحق، لا إلى فكرةٍ تبحث من خلال الشبهات عما هو الحق، في هذا الجانب أو ذاك؛ وإذا كانت القضية قضية عدوان على حدود الله.. فإن على المؤمن أن لا يتراجع عن خط الدفاع عن إيمانه وعما يفرضه هذا الإيمان من حدود، ولن يضرّه أحد ـ في ذلك ـ شيئاً، لأن كل ما يحدث هو في علم الله {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } وهو الذي يتولّى حسابهم في الآخرة.
* * *
ترك الإثم قاعدة إيمانية
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وتلك هي القاعدة الإيمانية التي تؤكد للإنسان أن يدع الإثم كله، في ما يمثله من المحرمات، لأن إرادة الله تفرض عليه ذلك، سواء كان هذا الإثم ظاهراً واضحاً لا يمكن أن تقترب إليه الاحتمالات الخفيّة، أو كان باطناً يعرفه بعض الناس وينكره بعضٌ آخر، فإنَّ مثل هذا اللّون من الاختلاف لا يغيّر شيئاً من طبيعة الإثم من حيث ما يتمثل فيه من مضرّةٍ للإنسان وسخطٍ لله.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ} الذي توحي به شهواتهم، وتدعوهم إليه أطماعهم، فينسون الله وينسون أنفسهم، حتى يظنوا أنهم بعيدون عن سيطرة الله الواحد القاهر، فيأخذون حرّيتهم، ويمتدُّون في الإثم كما يشاءون، ويكسبونه بكل جهدهم وطاقتهم، فيحسبون أن المسألة قد انتهت تماماً، فلا عقاب ولا عذاب، ولكن الله لا ينسى إذا نسوا، ولا يغفل إذا غفلوا في ما اقترفوا {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} من ظاهر الإثم وباطنه.
* * *
خط فاصل بين الحرام والحلال
ويعود الحديث من جديد إلى المسألة التي أثارها المشركون في موضوع الذبائح {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وهذا ما يؤكّد الخط الأساس في موضوع حلّ الذبيحة، حيث يكون الخط الفاصل بين الحرام والحلال ذكر اسم الله وعدمه، {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} لأنه يمثل التجاوز عن خط الشريعة التي أنزلها الله على رسوله. وذلك هو مظهر الفسق في حياة الناس، والمعصية لله من موقع الإصرار عليها، وهناك عدة أحاديث فقهية حول هذه المسألة، من حيث كفاية ذكر اسم الله في حلّية الذبيحة، أو إضافة شرط إسلام الذابح إلى ذلك، ونحو ذلك من الأمور التي أفاض فيها الفقهاء، مما لا نجد مجالاً للحديث عنه في التفسير، فليترك ذلك إلى كتب الفقه.
* * *
إطاعة أولياء الشياطين شرك
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} من الكافرين والمشركين الذين يتقنون إثارة الشبهات في ما يمكن أن يستلب الشعور ويأخذ العقل، لا لشيءٍ إلا لما يعيشونه من عقدةٍ مَرَضيّةٍ تجاه الإيمان {لِيُجَادِلُوكُمْ} بأسلوب مماثل للذي ألمحنا إليه، حيث كانوا يحاولون الإيحاء إليهم أن قتيل الله أولى بالأكل من قتيلهم.
وربما كان من بين أساليبهم إثارة الشبهة حول ما يعنيه اسم الله في موضوع الحلّ، ما دام ذلك لا يغيّر شيئاً من طبيعة الذبيحة وعناصرها النافعة والضارّة، ولكنهم ينظرون إلى القضية من جانبها المادي الذي يتعامل مع الأشياء من منظورٍ مادّيٍّ لا مكان للروح فيه، ولكن الإسلام يريد أن يربِّي الإنسان على وجود جانب فوق المادة لا بد من أن يمارسه في مأكله ومشربه ومطعمه وملذاته، فإذا أراد أن يذبح الحيوان ويأكله، وهو مخلوقٌ مثله، فعليه أن يتحسَّس في ذلك أنه لا يأكله من خلال صفة الحاجة الطبيعية فيه فحسب، بل من خلال إذن الله وأمره له بذلك، فهو يتحرَّك في كل مجالاته بإذن الله وأمره، ليتأكد فيه هذا الإحساس العميق بعلاقته بالله. وبهذا نفهم كيف تحرَّك الأدب الإسلامي في استحباب ذكر اسم الله على كل بدايةٍ أو نهايةٍ في قضايا الطعام والشراب والجنس والعلاقات العامة للإنسان... حتى يكون ذلك بمثابة إيحاء دائم للإنسان بعلاقته بالله، وبارتباطه به في كل شيء. وبذلك يكون الشيء خبيثاً عندما يفقد اسم الله، وطيِّباً عندما يذكر اسم الله عليه.
{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إشراك العبادة الذي يعني الطاعة والخضوع. فإذا كان هناك وحي الله ووحي الشيطان، واختار الإنسان غير وحي الله، فإن ذلك يعني التمرد على الله والخضوع لغيره، وذلك هو الشرك غير المباشر، لأن قضية التوحيد ليست مجرد فكرةٍ تعيش في العقل، كما تعيش المعادلات الرياضية المجرّدة، بل هي فعل إيمانٍ يتحرك في الفكر ليحرِّك المشاعر والأفعال والأقوال والمواقف، لتكون ـ كلها ـ صورة حيّةً له، لتتحول الحياة من حوله إلى فعل إيمان بالله وبطريقه.
ـــــــــــــــــــ
(1) أسباب النزول، ص:124.
تفسير القرآن