سورة الانعام
من الآية 122 إلى الآية 124
الآيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍۢ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 122-124]
معاني المفردات
{جعلنا}: حكمنا حكماً تكوينياً بحسب النظام الكونيّ والأسباب والمسببات وصراع الإرادات.
{أكابر}: جمع الأكبر، وقد قالوا: الأكابرة والأصاغرة، كما قالوا: الأساورة والأحامرة.
{ليمكروا} أصل المكر: الفتل، ومنه: جارية ممكورة، أي: مفتلة البدن، فكان الكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد.
{أجرموا}: الإجرام: الإقدام على القبيح بالانقطاع إليه، لأنّ أصل الجرم القطع، فكأنّه قطع ما يجب أن يوصل من العمل. ومنه قيل للذنب: الجريمة.
{صغار}: ذل وهوان. والصاغر: الراضي بالمنزلة الدنيّة.
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول ـ للواحديّ ـ قال ابن عباس في آية: {أومن كان ميتاً فأحييناه} يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل، ذلك أن أبا جهل رمى رسول الله (ص) بفرث، وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجه من قنصه، وبيده قوس، فأقبل غضباناً حتّى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه، ويقول يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا وسبّ آلهتنا ووخالف آباءنا؟ قال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لالا إله إلاّ الله لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فانزل الله تعالى هذه الآية. [1]
وقيل ـ كما جاء في مجمع البيان ـ إنّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل، عن عكرمة، وهو المرويّ عن أبي جعفر (ع). قيل:
نزلت في عمر الخطاب، عن الضحاك، وقيل: إنّها في كلّ مؤمن وكافر عن الحسن وجماعة، قال الطبرسيّ: وهذا أولى لأنّه أعمّ فائدة فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة.[2]
والظاهر أنّ ما ذكره الطبرسيّ في المجمع هو الأقرب، وذلك لأنّ الروايات الواردة في منايبة النزول ليس فيها ما يدلّ على وجود مشكلة في التساوي والتفاضل بين شخص وآخر، لتكون الآية متعرّضة لتفضيل هذا الشخص المؤمن على ذلك الشخص الكافر. فإنّ الروايات جاءت لتتحدّث عن صراع بين شخصين أحدهما في موقع الكفر والآخر في موقع الإيمان من دون وجود أيّ حديث آخر حول نسبة أحد الموقعين إلى الموقع الآخر، ولهذا فإنّنا نتصوّر أنّها واردة في مورد الآيات التي تفضل الإيمان على الكفر، كقوله تعالى {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة:18] أو التي تفضّل العالمين على الجاهلين، كما في قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون} [الزمر:9] في سياق الحديث عن القاعدة الحاكمة على الواقع من حيث المبدأ، والله العالم.
وجاء في مجمّع البيان في نزول قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آيةٌ} قال: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال: والله لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأنّي أكبر منك سنّاً وأكثر منك مالاً.[3]
ونلاحظ على هذه الرواية أنّها تتحدّث عن كبر السن أساساً للتفضيل في إنزال النبوّة عليه، ولا تتحدّث عن إنزال الوحي عليه كشرط للإيمان بما جاء به النبيّ.
وقيل نزلت في أبي جهل بن هشام قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى صرنا كفرسيّ رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه، عن مقاتل.[4]
انفتاح المؤمن على الله وانغلاق الكافر على ذاته
{أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} في هذه الآيات وما بعدها، حديث عن الجوّ الداخليّ الذي يعيشه الإنسان المؤمن، في الانفتاح على الحياة من خلال الانفتاح على الله، في مقابل الجوّ المنغلق الذي يعيشه الإنسان الكافر، وذلك من خلال الحديث عن الإنسان الذي كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس، ولكن كيف نتمثّل هذه الصورة؟
إن الموت هنا لا يعني الموت الماديّ، وهو انعدام الحياة في الجسد بل هو فراغ الإنسان من حركة الفكر والشعور والإيمان، وذلك عندما يعيش بدون فكرة أو قضيّة، ولا يعرف ما يريد، ولا ماذا يراد به، فلا مجال لأيّة حركة للحياة في أعماقه ولا من حوله، لأنّ قضيّة الحياة والموت في الجانب الروحي والفكريّ في الإنسان تتمثّل في ما ينطلق به من آفاق وأوضاع وأفكار ومشارع وعلاقات، فإنّه ينفتح على الله، وعلى كلّ المعاني الخيّرة، والقيم الكبيرة، والآفاق الروحيّة، في حركة الامتداد والعمق، أمّا إذا كان كافراً، فإنّه ينغلق على ذاته، ولا ينفتح على أيّ شيء آخر، إلاّ من خلال المادة، فهي ساحة الحركة الضيّقة عنده، لأنّه لا يملك الفكرة الكبيرة التي تربطه بتلك الآفاق، فالمادّة هي كلّ طموحاته، وكلّ شيء في الحياة يخضع للحسابات الماديّة، حتى العواطف والمشاعر والعلاقات، فلا يعطي إلاّ بمقدار ما يأخذ. إنّه يستمر في الدوران حول نفسه، فيختنق ـ في النهاية ـ داخل ذاته.
ثم إنّ الإيمان ـ في شخصيّة المؤمن ـ يوحي له بأنّه لا يمثّل ـ كما لا يمثّل ـ كما لا يمثّل أيّ شيء في الحياة ـ كياناً مستقلّاً منفصلاً عن الله، بل يعتبر كلّ شيء موصولاً به، ومنطلقاً منه. وبذلك كانت الحياة ساحة خاضعة لله ومشدودة في علاقاتها إليه، فإذا فكّر الإنسان، فإن الفكر يتحرّك من حيث يريد الله له ان يتحرّك، ليكون الفكر المسؤول، كما ان العمل يتحرّك في خطّ المسؤوليّة العامة في حياة الناس، كلّ شيء عنده بحساب، ولكنها ليست حسابات التبادل الماديّ التجاري مع الناس، بل هي حسابات الإنسان مع الله، وبذلك لا تكون التضحية حركة ضائعة في الفراغ، بل هي انطلاقة في علاقة الدنيا بالآخرة، في حسابات الله.
وفي ضوء ذلك، كانت الحياة عنده تعني الرسالة التي هي الهدف الكبير، فلا ضياع ولا فراغ، ولا قلق لأنّ الإنسان المؤمن يعتقد أنّ بداية الحياة من الله، ونهايتها إليه، وبين البداية والنهاية هناك خطٌّ واضحٌ للمسؤوليّة، وبرنامجٌ عمليّ للإنسان، ينير له الطريق، ويخط له حدود المستقبل على الصراط المستقيم، وذلك ما تعنيه الكلمة القرآنية: {إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت:30] التي تسير فيها نقطة البداية إلى خطّ السير وذلك هو ما تعنيه كلمة النور الذي يمشي به بين الناس، فهو الذي يحقّق له الوضوح في كلّ أوضاعه وعلاقاته العامة والخاصّة، فلا ظلام ولا ضباب، بل هي الإشراقة الدائمة في روحه وقلبه وخطاه.
أمّا الإنسان الكافر، فمثله مثل الإنسان الذي يعيش في الظلمات، فلا يخرج من ظلمة إلاّ إلى أخرى.. ليس هناك نافذةٌ واحدة يطلّ منها على النور.. فقد أغلق جميع نوافذ النور على نفسه.. وبقي يتخبّط في متاهات الظلام.. فليس عنده أيّ تصوّر يحدّد له نقطة الانطلاق، ونقطة الانتهاء.. فهو لا يدري كيف نشأت الحياة، ولا يدري كيف ستنتهي، وما بعد ذلك، ولا يعرف الأساس الذي يحدّد من خلال برنامجه لأنّ خطّة الحياة تخضع للأهواء وللشهوات التي تتغيّر وتتبدّل تبعاً للظروف، من العدم انطلق، وإلى العدم يعود.. ويتحرّك الوجود معه في أجواء العدم.
وفي كلّ يوم شهوة جديدة، وهوى جديد، فإذا أقبلت الأزمات والمشاكل في ظلمات بعضها فوق بعض، فإنّه يعيش معها التخبّط والقلق والعقد النفسيّة، لأنّه لا يملك نوراً يملأ قلبه ويضيء طريقه.. وهكذا تنطبق عليه الآية: {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.
ولكن مشكلته أنّه لا يعي معنى النور ليفهم معنى وجوده في الظلام، فهو يملك صورة خاطئةً عن النور والظلام، فقد يحسب النور ظلاماً، كما يحسب الظلام نوراً، لأنّ القضيّة ليست قضيَة الوجود الماديّ لهما ليستطيع أن يحدّد طبيعة ما هو فيه، على أساس إشراقة النور في عينيه، وإحساسه به في وجوده، ولكن القضيّة قضيّة الوجود المعنويّ، الذي قد يختلط فيه الأمر، على أساس المفاهيم التي يحملها، كما نلاحظ في ما نواجهه في عصرنا هذا، من التسمية المعروفة عنه بأنّه عصر النور، على أساس انطلاق الرؤية فيه من اتجاه واحد دون بقيّة الاتجاهات، مما قد يختلط فيه ميزان العقل بميزان الشهوة، فيخيّل للإنسان أنّه يتحرّك بعقله وفكره، بينما هو يتحرّك بشهوته ومزاجه، وبذلك يختلط لديه عنصر الظلمة بعنصر النور.
زين للكافرين ما كانوا يعملون
وهذا ما توحيه الفقرة التالية في الآية: {كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون} فإنّ الإنسان إذا اعتقد شيئاً أحبّه وأخلص له، وإذا اندمج فيه، واستغرق في داخله، ولم يكتشف فيه الجانب الأسود السيّء، خيّل له أنّه الحسّ الذي لا قبح فيه، وتزيّن له كلّ شيء فيه، حتى لا يسمع فيه نقداً ولا يقبل فيه نقاشاً. وتلك هي الغريزة الإنسانيّة التي تتعامل في ما تصدره من أحكام سلبيّة أو إيجابيّة مع الجانب المشرق الذي تلتقي فيه الفكرة المحبّبة بالمشاعر الجميلة، بينما ترتبط المشاعر السيّئة، بالفكرة البغيضة.
ولكن الغريزة لا تلغي في الإنسان إرادة التغيير، لأنّ الله جعل العقل قائداً لها ومنظّماً لمشاعرها وحركاتها وحرّك الإرادة لتقف بها في نقطة التوازن، فإذا أهمل الإنسان عقله، وجمّد إرادته، فإنّه يهمل مصيره من حيث يقيم الله الحجّة عليه في ذلك، ومن هنا كانت عمليّة التزيين هذه التي تشير إليها الآية، لا تعني الجانب المباشر من الفعل، بل تعني الجانب الطبيعيّ في ركب الإنسان من طبائع وغرائز، من أجل أن تبني له حياته، كما يحبّ ويريد، مع التأكيد على المسؤوليّة في الجانب العقليّ والإراديّ منها.
وفي هذه الآية إيحاء للإنسان بأنّ عليه ان يثير الحياة في نفسه، ويخرجها من الموت الفكريّ والروحيّ الذي يجرّه إلى تخيّل أنّ قيمة الإنسان في أطماعه وشهواته، وذلك بأن يعيش الإيمان بعمقٍ ليشعر بامتداد الحياة في نفسه إلى كلّ شيء حوله، من خلال إحساسه بالمسؤوليّة عن الأرض والناس، وعن النبات وغير ذلك في المدى الذي تتسع فيه قدرته.. وبهذا يحصل الإنسان على نوع فريد من التفاعل بين الإيمان وسعة الشخصيّة. فكلّما عاش الإيمان أكثر، كلّما تحركت شخصيّته في الجانب السليم أكثر. أمّا إذا غفل عن إيمانه، واستسلم لما حوله ولمن حوله، فإنّه يستسلم للجانب السلبيّ من حركة الواقع في ما يعيشه من حالة القلق والضياع والارتباك والتخبّط التي تفرزها مفاهيم الكفر في عقل الإنسان.
وهذا هو العنصر الذي يقود إلى الخبث والمكر والجريمة، وغير ذلك من المعاني التي تتمثّل في الشخصيّات التي تعيش لذاتها، فلا تتفتق عبقريتها إلاّ عن أفكار الشرّ، ولا تتحرّك قوّتها إلا في طريق الصدّ عن الخير وعن سبيل الله فيفسدون الحياة بمكرهم. ولكن القضيّة ترتدّ عليهم، وفي نهاية المطاف، لأنّ الله لم يجعل لهم السلطة المطلقة التي يحقّقون فيها لأنفسهم ما يشتهون وما يريدون، بل وضع لهم حدّاً مقيّداً يقفون فيه حيث تقف حدود قدرتهم، وحيث تبدأ العناصر الأخرى في الساحة بمواجهة فلسادهم قويّة حاسمة.
في كلّ مجتمع مترفون يمكرون فيها
{وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها} ففي كلّ مجتمع صغير أو كبير فئة من المترفين الذين يعتبرون أنفسهم في الطبقة العليا من المجتمع، ويرون لأنفسهم الحقّ في أن يخطّطوا للناس حياتهم ويفرضوا عليهم سلطتهم، ولذلك فهم يعملون للجريمة في نطاق الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بكلّ مل يملكون من وسائل المكر الذي يعبّر عن التدبير الخفيّ الذي يوهم الآخرين بأنّه خير، في الوقت الذي يمثل أبشع أنواع الشرّ، {وما يمكرون إلاّ بأنفسهم} لأنّ الجريمة إذا تحوّلت إلى تيّار اجتماعيّ، فإنّها تتسع في حركتها حتى تعود لتفتك بالناس الذين دبّروها، فهي لا تتجمّد في أيدي صانعيها، بل تمتد لتنتقل إلى أيدي الناس الذين لا تتفق أطماعهم ومصالحهم مع الناس الآخرين، فيرتدون عليهم ليصنعوا بهم ما صنعوه بغيرهم.
ثمّ ماذا بعد الجريمة؟ فليذهب هؤلاء يميناً وشمالاً، وليربحوا ما شاءت لهم أطماعهم من أرباح الحياة الدنيا، فإنّهم سيقفون أمام الله، عاجلاً أو آجلاً، وسيشعرون هناك بأنّهم خسروا أنفسهم، وأنّ مكرهم الذي صنعوا منه الجريمة قد تحوّل إليهم ليجدوا أنفسهم ـ معه ـ وجهاً لوجه أمام النار ـ وبئس المصير.. وتلك هي الحقيقة التي ستواجههم غداً نتيجة ما فعلوه، ولكنهم يفعلون ما يفعلون بأنفسهم {وما يشعرون} بالنتائج التي ستتمخّض عنها في الدنيا والآخرة.
ويأتي السؤال في كلّ آية ممائلة جاء فيها قوله تعالى: {وكذلك جعلنا في كلّ قرية} فإذا كان الله هو الذي يجعل، فأين يكمن عنصر الاختيار الإنسانيّ في صنع الجريمة؟
وقد أجبنا عن ذلك، بأن الجعل هنا ليس بالطريقة المباشرة، ولكن بالطريقة غير المباشرة الموجودة في النظام الكونيّ الذي أودعه الله في الكون وربط فيه الأسباب بمسبباتها، وجعل من بين الأسباب إرادة الإنسان واختياره بالإضافة إلى الظروف الموضوعية المحيطة به، مما لا يشلّ قدرته، ولا يعطّل إرادته، وبذلك صحّت نسبة الجعل إلى الله، باعتبار علاقة الفعل بالنظام العام الذي خلقه الله وترك للإنسان أن يتحرّك في نطاقه بملء إرادته وحرّيته.
أساليب الكافرين في المكر
ويتحدّث الله لنا في الآية الثالثة عن بعض أساليبهم في المكر، فهم لا يرتبطون إلاّ بالجانب الحسّي في حياتهم، أمّا العقل والفكر وما يتطلّبانه من تأمّل وحوار، فليس لهما مكان في حياتهم. ولذلك فهم لا يطلبون الإيمان من خلال حركة الكفر، بل من خلال حركة الحسّ، وإذا طلبوه من خلال الحسّ، فإنّهم يطلبون الشيء الذي اعتادوه أو سمعوا عنه، فلا يقبلون نموذجاً آخر، مما لم يمرّ عليهم، ولم يحدّثهم الآخرون عنه، {وإذا جاءتهم آية} من معجزة ترتكز على الجانب العقليّ، أو تتفق مع طبيعة الظروف والأوضاع المحيطة بهم، {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} فقد سمعوا أنّ موسى (ع) جاء بالعصا، وأنّ عيسى (ع)، جاء بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فأرادوا آيات كهذه، ولكنّهم لم يفكّروا لحظة واحدة، في أنّ قصة المعاجز ليست موضوعاً خاضعاً للتمنيات والافتراضات، وليست عمليّة منفصلة عن طبيعة التحدّي التي تواجهها الرسالات، فقد أرسل الله موسى (ع)، بالعصا ردّاً على التحدّي الكبير لفرعون الذي استعمل وسائل السحر، كما أنّ الله أرسل عيسى (ع) بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ردّاً على التحدّي الذي كان فيه الطبّ يشكّل نوعاً من أنواع التحدّي. وليست المعاجز سبيل الهدى، فللهدى وسائله تنفذ إلى العقل، ولكنّها سبيل قوّة في مواجهة القوّة المضادة، ولهذا فلا معنى لما طلبوه، بل عليهم أن يفكّروا في ما قدمه إليهم الرسول (ص) مما يبعثهم على التفكير، ويدعوهم إلى المناقشة والحوار.
الله أعلم حيث يجعل رسالته
وهذا الوجه الذي ذكرناه مبنيّ على القول الذي فسّر الآية، بأنّ أكابر المجرمين من العرب اقترحوا على النبيّ محمّد (ص) أن يأتيهم من المعجزات مثل ما أوتي موسى (ع)، من فلق البحر وعيسى (ع)، من إحياء الموتى، وهناك قول آخر إنّهم قالوا له: لن نؤمن حتى ينزل علينا الوحي كما نزل على الأنبياء، وربما كان هذا القول أقرب إلى جوّ الآية في ما جاء بعد هذه الجملة التي أراد الله رداً عليهم: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فليست قضيّة الرسالة امتيازاً ذاتياً يمنحه الله لأيّ شخص كان، بل هي قضيّة اصطفاء واختيار وكفاءة، في ما يعلمه الله من قابليّات عباده وقدرتهم، فمنهم الذي تميّز بسعة الفكر، وصفاء الروح وطيبة القلب وقوّة الإرادة، وعناصر القيادة، ومنهم الذي تميّز بضيق الأفق، وقلق الروح، خبث النيّة، وضعف الإرادة، فاختار من النموذج الأول أنبياءه ورسله، وترك الآخرين في موقع القاعدة وأرادهم ان يهتدوا بهدى الأنبياء وأن يجاهدوا في سبيل الوصول إلى ذلك، وسهّل لهم سبيل الإيمان، بما يتفق مع قابلياتهم وإمكاناتهم، فليس لهم أن يطلبوا لأنفسهم ما لا يملكون عناصره، لأنّ الرسالة ليست مجرّد كلمات يتلقفها الإنسان ويحفظها ثم يبلّغها للآخرين، بل هي قضيّة قيادة الحياة في جانبها الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وتغيير الإنسان على أساس هدى الله، بالكلمة وبالأسلوب وبالقدوة الحسنة، بحيث تعيش الرسالة في شخصيّة الرسول جسداً يتحرّك بكلّ أخلاقيّاتها ومعانيها، وروحاً تصفو وتهفو وتحنو وترقّ وترعى، فيحسّ الناس معها بالرحمة التي تحيط بهم من كلّ جوانب حياتهم، ويعيشون معها برد السلام وهدوء الطمأنينة.
إنّ حركة الرسالة في شخصيّة الرسول تعني أن يعيش هذا الإنسان في فكره وروحه وكيانه كلّه مع الله، ليستطيع ـ من خلال ذلك ـ ان يحتوي كلّ آفاق الرسالة ومعانيها في كلّ مراحل حياته في الدعوة وفي الحكم وفي الجهاد، وبذلك كان الرسول يأخذ من الرسالة وحياً تنفتح منه نفسه على الله، ويعطيها من طاقاته الروحيّة والفكريّة، وقوّة إرادته عنصر قوّة يدفعها إلى الأمام، ولذلك لم تكن الرسالة خاضعةً لإرادة الله واختياره، فهو {أعلم حيث يجعل رسالته}، في ما يعلمه من الطاقات الروحية والفكريّة و والعمليّة والقياديّة الكامنة في ذواتهم مما لا يعلمه الناس من أنفسهم، ولا يعلمه غيرهم منهم.
فأين يذهب هؤلاء في تفكيرهم؟ إنّها عقدة الكبرياء التي تكبر في صدورهم عندما يتطلّعون إلى الأنبياء فيجدونهم في الطبقة السلفى، من الهرم الاجتماعيّ فيدفعهم ذلك إلى احتقارهم، واحتقار دورهم، وتكذيبهم ومحاولة تحدّيهم بأيّة طريقة، حتى بالأمور التي لا تثبت أمام النقد، ولذلك فإنّ الله سيجزيهم عن هذه المشاعر وهذه الادعاءات وذلك الكبرياء، صغاراً وذلاًّ واحتقاراً وعذاباً، {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله} في ما يظهرهم به أمام الخلائق يوم القيامة من حال الذلّ والانسحاق {وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} لأنّ مكرهم وانحرافهم لم ينطلق من حالة فكريّة، قد تبرر لهم ذلك، بل من حالة شيطانيّة، يفهمون كلّ خطواتها ومنطلقاتها ودوافعها، مما يجعل من تصرفاتهم، حالةً إجراميّةً معقدّة تستوجب العقوبة الشديدة والعذاب والأليم.
وقد يلاحظ البعض أن الصغار الذي يصيب المستكبرين في الحياة الدنيا هو بلحاظ أنّ الآية تتحدّث عن الحياة الدنيا ونتيجة الصراع في الأرض، ولا مانع من أن يكون عامّاً في الدنيا والآخرة، مما يفرض التركيز على واقع الحياة الدنيا في نتائج الأفعال، حيث يُنزل الله الهوان والعذاب بمعنى البلاء الذي يصيبهم بفعل سلوكهم المنحرف وموقفهم المضاد.
وإنّنا في الوقت الذي لا نجد مانعاً من استنطاق هذه الآية في المعنى الشموليّ للصّغار الدنيويّ والأخرويّ من حيث المبدأ في نتائج المواقف التي يتمثّل فيها التمرّد على العدوان على رسله ورسالته من موقع الاستكبار الذاتيّ الذي يحكم كلّ أقوالهم وأفعالهم، ولكن ظاهر الآية في الحديث عن الصغار والعذاب على مستوى المستقبل قد يوحي بأنّ المسألة تتحدّث عن الآخرة في ما يلاقونه في يوم القيامة، وقد جاء عن الزجّاج في تفسيره لهذه الفقرة، قال: أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا[5]. انتهى.
وهذا ما يؤكّد أن المراد به هو المقابلة بين كبريائهم في الدنيا الذي يدفعهم إلى إنكار الحقّ والاستعلاء على أهله، وصغارهم في الآخرة بما يلاقونه من الهوان والعذاب بين الخلائق. وفي بعض الروايات، كما جاء في تفسير الكاشف: أن المتكبّرين يحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم جزاء على تعاظمهم في الدنيا[6]. والله أعلم.
***********
[1] - أسباب النزول، ص 125.
[2] - مجمع البيان، ج4، ص446.
[3] - م.ن ج:4، ص:449.
[4] - م.س، ج4، ص449.- م.س، ج4، ص449.
[5] - مجمع البيان، ج4، ص:450.
[6] - تفسير الكاشف، م: 3، ص:260.