من الآية 125 الى الآية 127
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ* وَهَـذَا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(125ـ127).
* * *
معاني المفردات
{حَرَجاً}: الحرج: أضيق الضيق، وأصل الحرج والحراج: مجتمع الشيء وتُصُوِّرَ منه ضيق ما بينهما، فقيل للضيق حرج، وللإثم حرج.
{يَصَّعَّدُ}: يصعد بتكلّف ومشقّة. وأصله: يتصعّد، أي: يتكلّف الصعود. والصعود: الذهاب في المكان العالي. والصعود والصعد يقال للعقبة ويُستعار لكل أمر شاق. وهذا التعبير يرسم حالة الاختناق وتضايق الأنفاس كلما ارتفع في السماء بسبب خفة الضغط الجوّي.
{دَارُ السَّلامِ}: هي دار السلامة من المنغّصات والكروب، والمراد بها ـ هنا ـ الجنة.
{وَلِيُّهُم}: أي: من يتولّى أمورهم.
* * *
انشراح صدر المؤمن وضيق صدر الكافر
تصوّر لنا الآية الأولى شعور الإنسان المؤمن تجاه دعوة الإسلام قبل أن يلتزم بالإيمان، وشعور الإنسان الكافر في الموقف نفسه، بكل دقّة، {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} فنجد الإنسان المؤمن إنساناً منفتحاً لا يشعر بأيّة عقدة من أيّ فكر، مهما كان لونه، بل يشعر ـ بدلاً من ذلك ـ بالحاجة إلى الالتقاء بكل الأفكار والاتجاهات، ليتعرّف منها وجه الحق ووجه الباطل، ليدخل في أجواء الحوار الموضوعي الهادىء، ليؤمن استناداً إلى قناعة يقينية ركيزتها البرهان والحجة الواضحة، ويرفض ـ حين يرفض ـ للأساس نفسه، فكلما انفتحت أمامه أبواب المعرفة كلما انشرح عقله وفكره وصدره للحقيقة المتحركة منها.. وكلّما أحسّ بالفرح الروحي يأخذ عليه كل حواسّه ومشاعره، فإذا جاء الإسلام إليه من موقع الفكر الذي يقوده إلى الإيمان بالله وبرسله، ومن موقع الوحي الذي يؤكد له المفاهيم الإنسانية والقيم الروحية التي أوحى الله بها إلى أنبيائه، انفتح قلبه له، واهتزّت مشاعره لوحيه.. وعاش مع الله في نشوةٍ روحيّةٍ حقيقيّةٍ.
إنّه الإنسان الذي يعيش حريّة الفكر مع نفسه، فلا يغلق عليه أبواب الفكر ولا يتعقّد من أيّة دعوة، بل يعتبر كل شيء قابلاً للتفكير، كما يعيش حرية الفكر مع الآخرين، فكل شيء عنده قابلٌ للحوار، وبذلك فهو يعيش انشراح الصدر باعتباره انفتاحاً على العقل والروح والحياة.
{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} أمَّا نموذج الإنسان الكافر ـ الضالّ، فهو إنسانٌ معقّد، لا يطيق الفكر ولا يجد للمعرفة أيّة أهمية، ولا يشعر بالحاجة إلى أن يتعب نفسه في سبيل الإيمان، يتعامل مع العقيدة من موقع اللاّمبالاة، ويتناول الفكرة الجاهزة المتحرّكة في بيئته، تماماً كما يتناول المأكولات الجاهزة، فإذا التزم بشيءٍ من ذلك، أغلق فكره وقلبه عن أيّ شيء آخر، فلا يسمح لأيّة دعوةٍ أخرى أن تنفذ أو تحاول النفاذ إلى داخله، لأن القضية أصبحت منتهيةً بالنسبة إليه، فإذا جاءته دعوة الإسلام لتفتح قلبه على عقائدها ومفاهيمها وأحكامها، ولتدعوه إلى الحوار حولها، ليتعرف أيّ الفكرتين أفضل، وأيّ الموقفين أحسن، فإننا نفاجأ بأن صدره يضيق ووجهه يتقلَّص، وتحس به كما لو كان يعيش حالة الاختناق {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} فيحاول أن يتهرّب من إثارة الموضوع أو يخرج من المجلس أو يوحي للآخرين بالحرج الشديد من هذا الحديث.
وقد ذكر بعض الكتاب الغربيين أن هذا التعبير {يَصَّعَّدُ في السَّمَآءِ} يوحي بإعجاز القرآن، لأن حالة الاختناق التي يشعر بها الإنسان الذي يصعد في السماء لم تكن مكتشفةً في عصر النبي محمد(ص)، لأنه لم يكن يملك تجربةً حيّةً تؤكد هذه الحقيقة العلمية، التي لا يشعر بها إلا الذي يرتفع بعيداً في الفضاء.
وهذا ممّا لم يتحقق في البيئة التي عاشها النبي(ص)، فالجبال التي ارتقاها لا تعطي مثل هذه الحالة، لأنها لا تبلغ ـ في ارتفاعها ـ حدّاً كبيراً يبلغ الصاعد إليها حالة الاختناق.
وقد ذكر في سبب هذه الظاهرة الاختناقية للصاعد إلى السماء، أن الهواء المحيط بالأرض صالحٌ لتنفّس الإنسان، ولكن الإنسان كلما ارتفع في الفضاء، قلّت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث إننا إذا ارتفعنا أكثر بضع كيلو مترات، أصبح من الصعب أن نتنفس بغير قناع الأوكسجين، وإذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفّسنا وأصبنا بالإغماء.
* * *
اختلاف المفسرين حول يصّعَّد في السماء
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الفقرة: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} على وجوه ثلاثة:
(الأول): أن معناه كأنه قد كلّف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه، أو كأن قلبه يصعد في السماء نبوّاً عن الإسلام والحكمة، عن الزجاج.
(الثاني): أن معنى يصعّد كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود، وعلى هذا قيل: عقبة عنوت وكؤود، عن أبي علي الفارسي، قال: ولا يكون السماء في هذا القول المظلّة للأرض، ولكن قال سيبويه: القيدود الطويل في غير سماء، أي: في غير ارتفاع صُعُداً، وقريب منه ما روي عن سعيد بن جبير أن معناه كأنه لا يجد مسلكاً إلا صعداً.
(الثالث): أن معناه كأنه ينزع قلبه إلى السماء لشدّة المشقة عليه في مفارقة مذهبه[1].
وربما كان الوجه الذي أشرنا إليه مما اكتشفه العلم بالتجربة في الحالة التي يكون عليها الصاعد إلى الفضاء في ارتفاعه البعيد، أقرب إلى تصوير الحالة الضاغطة على الإنسان في حالته الحسية، للإيحاء بالمشقة التي يواجهها في حالته الذهنية والمعنوية عندما يريد الابتعاد عن انتمائه الفكري وخطّه العملي. وهذا ربما ينسجم مع القول بأن القرآن يفسره الزمان، فكل جيل يفهمه بطريقة أخرى من خلال ما يتوصل إليه العقل البشري من اكتشافات علمية توضح للإنسان الكثير من مصاديق المفاهيم التي تدل عليها الآيات القرآنية، لأن كل مفسّر يفهم المسألة بحسب التجربة التي عاشها في زمانه، أو بحسب المعلومات المتوفرة لديه، والله العالم.
* * *
المتفلسفون وتطبيق الآية على نسبة الهدى والضلال إلى الله تعالى
وقد حاول المتفلسفون أن يجعلوا من هذه الفقرة في الآية دليلاً على أن عملية الهدى والضلال من الله، لأنها نسبت حالة انشراح الصدر للإسلام إلى إرادة الله الهداية لهذا الشخص، فهو الذي يلقي في قلبه الحالة الروحية الفكرية التي يواجه فيها الهداية براحةٍ وطمأنينة، كما نسبت حالة الضيق والحرج للصدر إلى إرادته الإضلال، فهو الذي يخلق ـ في داخله ـ الأزمة الروحية التي تمنعه من قبول الدعوة الإسلامية.
وقد تتوضح الصورة في معنى هداية الله بطريقة أقرب إلى السنة الإلهية في الهدى والضلال بأن الله يهدي الذين ينفتحون على آفاق الهدى في استعداداتهم الفكرية والروحية بالسعي إليه وإثارة الفكرة نحوه ومتابعة دلائله وبراهينه، وذلك بأن يوفر لهم الظروف والأسباب والأجواء التي تسرع بهم إلى بلوغ الهدف، وهو الوصول إلى الهداية الفكرية والعملية كما توحي به الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، أمّا الذين يعيشون الغفلة واللامبالاة، فإن الله يتركهم لأنفسهم، ويهملهم، فلا يمنحهم الأسباب التي ترفع عنهم الغفلة التي اختاروها بسبب سلوكهم اللاهي العابث الذي لا يعيش مسؤولية الفكر والعقيدة والسير إلى الله. ويبقى عنصر الاختيار منفتحاً على مواقف الإنسان هنا وهناك في حركته في الطريق الذي يسير فيه ويتحرك في اتجاهاته المستقيمة أو المنحرفة.
ولكن الآية ليست في مجال الحديث عن هذا الموضوع، بل هي واردةٌ في مقام تصوير الحالة النفسية للإنسان المهتدي، وللإنسان الضالّ، بعيداً عما إذا كان ذلك فعل الله، أو فعل العبد، أو فعلهما معاً.. هذا مع ملاحظةٍ أخرى، وهي أن مثل هذه التعابير التي تنسب الإضلال والهداية إلى الله ليست واردةً على سبيل الحقيقة، بل هي واردةٌ على سبيل الإسناد المجازي، في ما يريد القرآن الكريم أن يوحيه، في نفس الإنسان من رجوع كل الأفعال إلى الله، سواءٌ في ذلك الأفعال المباشرة التكوينية كخلق السموات والأرض وغيرهما أم الأفعال غير المباشرة، كعملية الرزق والموت والحياة والضلال والهدى مما تتدخل في إرادة الإنسان واختياره في كثيرٍ من الحالات، ومن خلال ما وهبه إياه الله من مفردات القدرة وإمكانات الاختيار. فيمكن نسبة الفعل إلى الله، لأنه السبب الأول للأشياء، كما يمكن نسبته إلى الإنسان، لأنه السبب المباشر لها. وبذلك يكون التعبير بإرادة الله للهدى، أو إرادته للضلال، على أساس ما أودعه في الكون وفي شخصية الإنسان من السنن التي توحي بالضلال تارة، عندما يبتعد الإنسان باختياره عن وسائل الهدى، وتوحي بالهدى أخرى، عندما يقترب الإنسان من عناصر الإيمان.
* * *
جعل الرجس على الذين لا يؤمنون
{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} والرجس ـ في المفهوم المادي ـ هو القذر، وقد استعاره للقذارة المعنوية المتمثلة في الكفر والضلال، لما يستتبعه من الإبعاد عن رحمة الله والقرب من عذابه، تماماً كما هو القذر الذي يستدعي الابتعاد عن الشخص الذي يتلطخ به.
{وَهَـذَا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} وهو الطريق الذي يضج بالحياة، ويتفايض بالنور، وينطلق بالإيمان الذي تلتقي فيه نقطة النهاية بنقطة البداية، في خطٍّ واحدٍ، لا التواء فيه ولا انحراف، بل هي الاستقامة السائرة أبداً في الفكر والشعور والضمير والعلاقات، ولن يحتاج الإنسان الذي يسير فيه إلى أيّ شيءٍ آخر مما يفكر به الآخرون، أو يثيرونه أو يشرّعونه، لأن الله قد بيَّن للمؤمنين كل المفردات التفصيلية لكل ما يحتاجون إليه من شؤون الإنسان العامة والخاصة.
{قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فالمهمّ أن لا يعيش الإنسان الغفلة التي تنسيه عقيدته ومفاهيمه وشريعته، وتوحي له بالحاجة إلى عقيدة الضلال ومفاهيمه وأحكامه، لأن الحقيقة بحاجة إلى من يتذكرها ويعيها من أجل أن يعيش معها، وينتفع بها، وينمو ويتطور في حياته من خلالها. ولهذا كانت الدعوة الدائمة للأنبياء، وكان النداء لهم من الله أن يذكّروا الناس، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، الذين قد يغفلون فينحرفون، ولكنهم يتذكرون فيستقيمون، كما قال الله عن المتقين: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يمارسوه، من أجل إخراج المؤمنين من حالة الغفلة التي قد تعيش في حياتهم، فتبعدهم عن الشعور بالانتماء الحقيقيّ إلى الإسلام، فيستطيع الآخرون حينها أن يُدخلوا إلى أفكارهم أفكاراً بعيدة عن الإسلام، ولكن الذكرى المستمرة هي التي تعطّل هذا الاتجاه المنحرف وتبطل مفعوله..
* * *
للمؤمنين المتذكرين دار السلام
{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ} وهي الجنة التي وُعد بها المتقون الذين فتحوا قلوبهم لله، وعاشوا مع خط الإسلام، وانفتحوا على آيات الله، فاتخذوها منهج حياةٍ وسبل هدى. وقد سمّاها الله دار السلام لأن الإنسان يعيش فيها السلام الروحي المطلق الذي يشعر فيه بروحية الإسلام تطوف به في كل اتجاه، فهو في سلامٍ مع نفسه ومع ربه ومع الناس الذين يعيش معهم ويعيشون معه إخواناً على سُرُرٍ متقابلين، {وَهُوَ وَلِيُّهُم} في الآخرة كما كان وليّهم في الدنيا، وكما كانوا أولياءه في ما آمنوا به وفي ما أطاعوه، وبذلك تنطلق الولاية من العبد لربه لتمثل العبوديّة الحقة المتحركة في طاعة الله ونصرة دينه وأوليائه، وتنطلق من الله لعباده لتمثِّل النصرة والرحمة والرضوان والرعاية في الدنيا والآخرة، حيث يعيشون في ظله يوم لا ظل إلا ظله، {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فليس بين الله وبين أحد من عباده علاقة وولايةٌ إلاّ من خلال العمل، فهو الذي يجعل العبد قريباً من ربّه كما يحقق له ولاية الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج :4، ص:452.
تفسير القرآن