تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 128 إلى الآية 132

 من الآية 128 الى الآية 132
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ* ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ* وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(128ـ132).

* * *

معاني المفردات

{اسْتَكْثَرْتُم}: حشدتم الكثير من الأتباع بإكثاركم من إغوائهم وإضلالهم، فجعلتم الكثير منهم يدورون في فلككم لتنفيذ أوامركم، والاستكثار: أخذ الكثير، ويستعمل كذلك في طلب الكثير.

{نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً}: نخلّيهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو نجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا ـ كما في تفسير الكشاف ـ[1].

{غَافِلُونَ}: الغفلة عن المعنى والسهو عنه والعزوب عنه نظائر، وضد الغفلة: اليقظة، وضد السّهو: الذّكر، وضد العزوب: الحضور.

* * *

من صور الحوار بين الله وعباده يوم القيامة

وهذه صورةٌ من صور الحوار في يوم القيامة بين الله وعباده، من أجل الإيحاء بأنّ الله قد أقام الحجة على الجنّ والإنس في ما أرسل إليهم من رسلٍ وفي ما أنزل عليهم من كتب، بيّن لهم فيها حدود المسؤولية ونتائجها الإيجابية والسلبيّة، وأنهم سيواجهون موقف الاعتراف بما قاموا به من انحرافٍ عن خط الله، فيشهدون على أنفسهم. إنها صورةٌ تهزّ ضمير الإنسان وشعوره، ليتراجع عمّا هو فيه، في ما أعطاه الله من فرص في الحياة الدنيا قبل أن يواجه حسابه يوم القيامة أمام الله.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الجن والإِنس، فيوجه خطابه إلى الجنّ الذين كان لهم التأثير الكبير في إغواء بعض الناس وإضلالهم، في ما كانوا يزيِّنون لهم من المعاصي والانحرافات، فيتبعونهم ويطيعونهم في ما يأمرونهم به وينهونهم عنه {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} وحشدتم لأنفسكم الكثير من الأتباع منهم، وهذا هو الظاهر من معنى الاستكثار الذي لوحظ على سبيل الكناية في كثرة التابعين للجنّ من الإنس في ميدان الضلال، وربما كان المراد من الجنّ ـ هنا ـ الشياطين التي توسوس للناس، وكأنَّ غرض السؤال ـ هنا ـ هو تسجيل الموقف الذي يدينهم أمام الله في ما قاموا به من عمليات الإغواء والإضلال بشكلٍ كبير.

{وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ} وهم الذين كانوا يوالونهم موالاة الطاعة، ويعتبرون أنفسهم من الأتباع لهم {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَـلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فكان للجن من الإنس منفعة السيطرة عليهم، والحصول على ما يحبون لأنفسهم من تنفيذ مخططاتهم الشيطانيّة، وكان للإنس من الجنّ منفعة الاستمتاع بالشهوات التي اكتشفوها من خلال عملية الإغواء.

وربّما كان هذا الأسلوب لوناً من ألوان الدفاع عن الجنّ، حيث إن المسألة كانت مسألة مشاركةٍ في الانتفاع من الطرفين، وعملية مبادلةٍ في النتائج الذاتية التي حصل عليها كلٌّ منهما، {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فقد أعطيتنا امتداد الحياة، فخضنا فيها واستمتعنا، ثم جاءنا الموت الذي كان النهاية لذلك كله.

وربما توحي هذه الفقرة بحالة الاستسلام التي يحسّ بها هؤلاء في موقفهم أمام الله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} لأنكم عصيتم وتمردتم على الله من دون أن يكون لكم حجةٌ في ذلك. وربما كانت كلمة الاستثناء {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ}، واردةً في موضوع الخلود في النار، فقد تكون لبعض الأشخاص حالة تخفيفٍ بسبب بعض ما يعلمه الله منه من ظروفه التي قد تعطيه نوعاً من المبررات والأعذار {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} والله أعلم.

* * *

ولاية الظالمين يوم القيامة

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وتلك هي نهاية ولاية الظالمين في يوم القيامة، فلا يملك أحدٌ منهم القدرة على الدفاع عن الآخر، لأنه لا يملك أمر الدفاع عن نفسه، بسبب اشتراكهم في المعصية، فليس لأحدٍ منهم علاقةٌ بالله تقربه إليه وتبرر له الحصول على الكرامة التي يمكنه من خلالها الشفاعة لأحدٍ..

وهذا هو الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولاية الظالمين لبعضهم البعض، فإنّ الله هو مالك يوم الدين، فله الأمر كله، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ويخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.. أما الظالمون، فيخرجون بعضهم البعض من النور إلى الظلمات، لأن أعمالهم هي التي تحقق مثل هذه النتائج في الدنيا والآخرة.

* * *

الكافرون يشهدون على أنفسهم

{يَـا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا} إن الموقف ليس مفاجأةً لكم، فقد سمعتم عن هذا الجوّ الذي تعيشون فيه الآن الكثير في ما بيّنته لكم من أساليب الترغيب والترهيب وأحاديث المسؤولية ونتائجها.. فقد بيّن لكم الرسل قصص يوم القيامة في ما أفاضوا به من الحديث عن آيات الله التي تفصّل لكم الأمر كله، فلكل عملٍ ثوابه أو عقابه، ولكل موقفٍ نتائجه السيّئة والحسنة، ولكنّكم لم تستجيبوا للإنذار، ولم تحملوا المسألة محمل الجدّ، بل انطلقتم مع شهواتكم وأطماعكم بعيداً عن كل مسؤولية، فهل هناك عذر لكم في كل ذلك: {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} بكل ذلك، وكيف ينكر الإنسان الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها عليه؟! {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ} فأبعدتهم عن مواقع الوعي، ومواقف المسؤولية، فاستسلموا لمغرياتها وزخارفها ولهوها وعربدتها {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} ووقفوا في حيرة الإنسان الذي يواجه مصيره من دون أن يملك أيّ شيء ينقذه منه، وتلك هي العبرة التي يريد القرآن للإنسان أن يأخذها من هذا الموقف في الدنيا، قبل أن يواجهه، في مواقع العذاب في الآخرة.

{ذَلِكَ} الذي أثاره الله مع هؤلاء، من إقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإنذارهم لقاء يوم القيامة {أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فلا يمكن لله أن يعذب الناس على عصيانهم وانحرافهم قبل أن يخرجهم من غفلتهم وجهلهم، لأن العقاب لا يكون إلا بعد البيان والمعرفة، حتى لا يكون للناس حجةٌ على الله في أيّ عمل مما يعملون.. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} لأنّ لكل عمل موقعاً في حياة الفرد والجماعة، وتتفاضل الأعمال حسب نتائجها ودوافعها ومواقعها، سواءً كانت الأعمال خيِّرةً أو كانت شرّيرةً. وقد أحصى الله كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من ذلك، فهو الذي يعلم خفاياها ودقائقها، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فكيف يغفلون عن مراقبته في السرّ والعلن وهو الذي يحيط بكل شيءٍ في داخلهم ومن حولهم وما حولهم، وهو بكل شيء عليم؟!

ـــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج :2، ص:50.