تفسير القرآن
الأنعام / من الآية 133 إلى الآية 135

 من الآية 133 الى الآية 135
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ* إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(133ـ135).

* * *

معاني المفردات

{أَنشَأَكُمْ}: الإنشاء: الابتداء، أنشأ الله الخلق إذا خلقهم وابتدأهم، ومنه قولهم: أنشأ فلان قصيدة، والنشء: الأحداث من الأولاد.

{تُوعَدُونَ}: من الإيعاد، ويحتمل أن يكون من الوعد، والوعد في الخير، والإيعاد في الشرّ.

{مَكَانَتِكُمْ}: قدر منزلتكم وإمكاناتكم، وأقصى استطاعتكم، من المكانة التي هي بمعنى القدر والمنزلة، والمكين: المتمكن ذو القدر والمنزلة.

* * *

ربك الغني ذو الرحمة

يعمل القرآن على إثارة إحساس الإنسان بالله روحياً كي يوصله إلى الإيمان، وإلى تحمّل المسؤولية، فيقدّم له صورة عن صفات الله التي توحي كل صفة منها بمعنى يحرّك الإنسان للعمل. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} في كل شيءٍ، وعن كل شيءٍ، لأن الأشياء ملكه، وكل موجود هو ملكه، فهو محتاج إليه، في وجوده وفي استمراره، وهو الغني عن طاعته، فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه.. فالطاعة تنفع صاحبها، والمعصية تضر مرتكبها.

{ذُو الرَّحْمَةِ} فقد كانت رحمته سبب وجود الكون والخلق، وكانت رحمته سبب كل نعمةٍ تكفل للوجود استمراره، وللعباد حياتهم، فلم تنطلق رحمته من حاجةٍ، ليكون غناه سبباً في بعده عنهم، بل انطلقت من ذاته التي تعطي الرحمة للعاصي كما تعطيها للمطيع.

{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ} لأنكم لا تمثلون حاجة لله في ملكه، بل إن كان وجودكم هو من موقع رحمته، فإذا شاءت إرادته أن يذهبكم ويزيلكم عن الوجود ويأتي بآخرين من بعدكم، فسيذهبكم من دون أن ينقص من ملكه شيء، {كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} فأذهبهم وجاء بكم من بعدهم، فكيف تتمردون عليه؟ وكيف تواجهون وعيده؟ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ تُوعَدُونَ لآتٍ} لأن الله إذا أخبر بشيء كان صدقاً كله، وكان حقاً كله، وهو القادر على ذلك كله، {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} وكيف يعجزه من كان وجوده بيده، ومماته بيده؟!

* * *

منطق العاملين في سبيل الله

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي على قدر منزلتكم وإمكاناتكم، فإذا أردتم أن تثبتوا على ما أنتم عليه، وتستمروا على النهج الذي تسيرون فيه، فافعلوا ما تشاءون، {إِنِّي عَامِلٌ} فلن أتوقف عن النهج الذي أراده الله لي في الحياة، في حمل الرسالة وأداء الأمانة وتوعية الناس، والإصرار على المواقف الحاسمة في إقامة الحق وإزهاق الباطل، ولن أخضع لأيِّ ضغطٍ داخليٍّ أو خارجيّ، منكم أو من غيركم، لأنني أعرف النتائج على مستوى الدنيا والآخرة، ومن عرف النتائج صبر على المتاعب وتحمل الشدائد والأهوال.

وذلك هو منطق العاملين في سبيل الله عندما يواجهون الكفر المتعنّت المتصلّب الذي لا يقبل حواراً، ولا يتحرك في موقف فكر، ولا يستجيب لترغيب الله، ولا يخاف من ترهيبه، فهم ـ أي الدعاة ـ لا يضعفون ولا ييأسون، ولا يشعرون بالإحباط والسقوط، بل يزيدهم ذلك إصراراً على العمل، وتصميماً على الاستمرار في خط الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى دينه، وتحدّياً صارخاً للكافرين {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} التي يعيش فيها النتائج الطيّبة في رضوان الله وفي نعيم الجنّة، وفي سعادة الروح، ولن ينتظر الآخرون كثيراً في معرفة هؤلاء الذين تكون لهم عاقبة الدار.. إنهم المطيعون لله، المؤمنون به المجاهدون في سبيله، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية والضلال.