من الآية 151 الى الآية 153
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـــات
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هَـذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(151ـ153).
* * *
معاني المفردات
{تَعَالَوْاْ}: جاء في المجمع: تعالوا مشتقّ من العلو على تقدير أن الداعي في المكان العالي وإن كان في مستوٍ من الأرض، كما يقال للإنسان ارتفع إلى صدر المجلس[1].
{أَتْلُ}: التلاوة مثل القراءة والمتلوّ مثل المقروء، والتلاوة غير المتلوّ، كما أن الحكاية غير المحكيّ، فالمتلوّ والمحكيّ هما الكلام الأول، والتلاوة والحكاية هما الثاني منه على طريق الإعادة.
{إمْلاقٍ}: فقر وإفلاس من المال والزاد، ومنه: الملق والتملق لأنه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطيّة.
{الْفَواحِشَ}: جمع فاحشة، وهو القبيح العظيم القبح من الأفعال والأقوال. والقبيح يقع على الصغير والكبير لأنه يقال: القرد قبيح الصورة ولا يقال: فاحش الصورة، وضد القبيح الحسن، وليس كذلك الفاحش.
{أَشُدَّهُ}: واحدها شدّ، مثل الأشرّ في جمع شرّ، والأضرّ في جمع ضرّ، والشدّ: القوة، وهو استحكام قوة الشباب والسنّ، كما أن شدّ النهار هو ارتفاعه... وقيل: هو جمع شدّة مثل نعمة وأنعم، وقال بعض البصريين: الأشد: واحد كذا في المجمع.[2]
{صِراطِي}: الصراط: الطريق المستقيم.
{السُّبُلَ}: جمع سبيل، وهو الطريق الذي فيه سهولة.
* * *
وصايا الله للإنسان
وما دام الحديث عن المحرّمات في المآكل، فقد جاءت هذه الآيات لتتحدث عمّا أوحى به الله إلى رسله من المحرّمات في ما يتصل بالعلاقات العامة التي يرتبط بها الناس، وبالقضايا المتصلة ببناء الشخصيّة الإسلامية في حياة الإنسان المؤمن، وهي المحرّمات التي التقت رسالات الأنبياء حولها، لأنها لا تخضع في نتائجها السلبيّة لزمنٍ معيّن أو مكان معيّن، وبذلك كان التزام المجتمع بها يمثل القاعدة التي تتحرك فيها وحدة الرسالات، حيث يشعر أتباع الأديان بالقضايا المشتركة التي تتدخل في خصوصيات علاقاتهم وأوضاعهم ومنطلقاتهم في الحياة.
وتشتمل هذه الآيات على وصايا الله للإنسان، بكل ما توحيه من المعاني الكبيرة والقيم الروحيّة المشرقة، التي تنمّي في الإنسان إنسانيته، كما تعمّق روحيته، ليعيش إنسانيته في آفاق الروح، فلا تتجمد في حاجات الأرض لتخلد إليها، وليعيش روحيته في آفاق الإنسانية، فلا تحلِّق في أجواء مثاليةٍ بعيدةٍ عن الواقع، فتتأكد ـ من خلال ذلك ـ واقعيته التي تسمو في جوٍّ من الانضباط والنظام والمسؤولية، فإذا عاشوا الشعور بذلك الجوِّ أمكنهم أن يتمثّلوا القربى الروحية التشريعية فيما بينهم، فيقودهم ذلك إلى التفكير باللقاء والحوار، والوصول إلى النتائج المشتركة في تصفية التركة المثقلة التي يملكها كل واحد منهم، وفي ما يختلط فيه الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، والكفر بالإيمان، وغير ذلك مما يتعصب فيه المتعصبون، ويحقد فيه الحاقدون.
وبهذا أراد القرآن للمسلمين أن ينفتحوا على الآخرين في ما يعلنونه من الإيمان بالله وبجميع كتبه ورسله وملائكته، لا يفرقون بين أحد من رسله، ليلتقوا معهم على أرضٍ واحدةٍ، فيكون هذا اللقاء هو السبيل لتوسيع هذا الملتقى، في أفكار جديدةٍ وآفاق جديدة، بعيداً عن المجاملات العاطفية، والكلمات السطحيّة، لأن القضية هي قضية اللقاء على كلمة الله الواحدة، لا على كلمة العباد المتلوّنة، وذلك هو سبيل الوحدة، أن يكون الفكر طريقاً لحركة الشعور، وأن يكون الشعور الحرّ الحميم هو السبيل لبداية الحوار في آفاق الله ورسالاته. فماذا في هذه الوصايا؟
* * *
عدم الشرك بالله
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} لتقفوا مع هذه المحرّمات حيث يريد الله منكم أن تقفوا، دون أن تتجاوزوا حدوده عن جهلٍ وسفاهة، وذلك من أجل خلق المجتمع المؤمن المسؤول المتكامل في أفكاره وعلاقاته.
{أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} فالإشراك هو في مقدمة المحرّمات، لأنه يمثل المنهج الذي يضع الإنسان في متاهات الأهواء والمطامع والشهوات، وفي ظلمات التيارات والاتجاهات والأصنام، وفي أجواء الأشخاص الذين تختلف أذواقهم ومسيرتهم وأفكارهم، فلا يعرف الإنسان ماذا يأخذ وماذا يدع، فكل واحدةٍ من هؤلاء تدعوه إلى أن يسير معها ويتجاوب مع حاجاتها ومنطلقاتها، فيفقد الإنسان ـ معها ـ كل طمأنينةٍ، وكل هدوءٍ وتركيز، ويحس أنه ينتقل من تيهٍ إلى آخر، ومن ظلمةٍ إلى ظلمة.
إنّ الشرك منهجٌ متكاملٌ، يحدّد للإنسان طريقته في التفكير، وفي السلوك، وفي أسلوب الحياة، وممارسته للمسؤوليّة، وتصوره للكون وللحياة، ولله وللناس، وهو منهج لا يدعو إلى الاستقرار بل يبعث على القلق. ولذلك أراد الله للناس أن يبتعدوا عنه، لأنه يمثل الخط الذي يبعدهم عن الحقيقة، ويساهم في تعقيد حياتهم، وتضييعها وتمييعها في أكثر من لونٍ وأكثر من صعيد.
أمّا التوحيد، فيمثل وحدة الله والحقيقة والهدف، وجميع الوسائل التي تربط الإنسان بالهدف، إنه منهج الاستقامة الذي يربط بين البداية والنهاية في اتجاهٍ واحدٍ، ليس هناك إلا وحيٌ واحدٌ، يستمدُّ الإنسان منه منهج التفكير، وليس هناك إلا إله واحدٌ يتجه إليه في العبادة وفي الطاعة، ويستعين به في كل شيء، وبذلك يعرف الإنسان نفسه وربّه، ويعرف من خلال ذلك كيف يواجه مسؤوليته في الحياة وكيف يحدد دوره في حركة الأمّة الواحدة في بناء الكون على هدى الله ووحيه. وبذلك كان الشرك ظلماً لله وللناس وللحياة، وكان جريمة لا يغفرها الله، لأنها فوق الجرائم كلها في الخطورة.
* * *
الإحسان للوالدين
{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فقد قرن الله طاعته وشكره بطاعة الوالدين وشكرهما، وحرّم الإساءة إليهما ولو بكلمة أفّ، لأنهما السبب المباشر لوجوده، وهما اللذان رعيا حياته بكل ما عندهما من جهدٍ وروح ومسؤوليّة وعطاء، وأمدّاه بالعاطفة والحنان، وأفنيا حياتهما لتستمر حياته، وتحمّلا كل ألوان الشقاء من أجل أن تشرق السعادة في عينيه، وعانيا من أجله في الأوقات الصعبة، ولهذا كان الإحسان إليهما، بكل الأساليب الممكنة، يمثل القيمة الكبرى التي تلتقي بالقيمة الروحيّة الإنسانية التي تقدّر للعطاء قدره، وتشكر للنعمة عطاءها.. والعطاء لا بد من أن يولّد العطاء، والحياة تتكامل بالإحسان والرحمة والعطاء، أمّا العقوق، فإنه يمثل الجمود والتحجر والقسوة واللامسؤوليّة والبخل والأنانية وغير ذلك، ما يشلُّ في الحياة فاعليتها وقدرتها على النموّ والاستمرار، ويعطّل في الإنسانيّة دورها في تنمية الحيويّة وإنتاج القيم التي تحرك عناصر الخير. ولذلك كان من الكبائر التي يستحق فاعلها دخول النار.
* * *
عدم قتل الأولاد من إملاق
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} إن الأولاد هبة الله للإنسان، لا يجب أن يتصرف بها كيفما شاء، بل لا بد من أن تفتح قلبه على العاطفة الطاهرة والشعور الحميم، أمّا حياتهم فهي ملك الله، فليس لأحدٍ أن يتصرف فيها بما يسيىء إليها من قريبٍ أو من بعيدٍ، وأمَّا رزقهم ومؤونتهم، فهي على الله الذي رزق الآباء عندما كانوا أولاداً، كما رزقهم بعد أن أصبحوا آباءً، وسيرزق أولادهم كما رزقهم، وهكذا حتى نهاية الكون.
ولهذا كان الاعتداء على حياتهم جريمةً كبرى تنتج عن ضعف الإيمان بالله، وعدم احترام حياة الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، والتهرّب من المسؤولية التي تفرض على الإنسان مواجهة مصاعب الحياة وشدائدها من أجل التغلّب عليها، وذلك لأنّ الله أراد له أن ينتظر اليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدّة، ولا يستسلم أمام أوّل مشكلةٍ، أو من أول ضيق، وفي ضوء ذلك، أراد الله للإنسان أن يرفض مثل هذا الاتجاه في السلوك، من أجل أن يعيش الإيمان والمسؤوليّة واحترام الحياة.
* * *
عدم الاقتراب من الفواحش
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} والفواحش: جمع فاحشة، ويراد بها في المفهوم العرفي العام العمل الشنيع المستقبح، الذي يعتبره الناس قبيحاً في طبيعته، وربما كان ظاهراً في الجانب المتعلق بالعِرض المتصل بالأجواء الجنسية، وقد تحدث القرآن عن الزنى واللواط وقذف المحصنات واعتبرها فاحشة، ونستطيع أن نضمّ إليها السحاق والكلام البذيء الذي يستقبح صدوره من المتكلم، لأنه يخدش الحياء، ويسيىء إلى التهذيب، وقد حرّم الله ذلك كله، لأنه أراد للناس أن يعيشوا في ما يقصدونه من إشباع شهوة الجنس، في أجواء الانضباط العملي، الذي يمثل التوازن في الممارسة، بالأسلوب الطبيعي المتمثل بنظام الزواج الذي ركّز عليه الإسلام وجعله أساساً لبناء الأسرة ونظامها، الذي فيه صلاح الحياة والإنسان، فحرّم الزنى لأنّ فيه انحرافاً عن خط العلاقة الشرعية، كما حرم الأساليب الأخرى كاللواط والسحاق والاستمناء، لأن فيها انحرافاً عن الأسلوب الطبيعي الذي أراده الله للإنسان في ممارسة لذّته، ما يسبب بعض المفاسد الاجتماعية التي قد تعطل ـ في نهاية المطاف ـ عملية النسل، وتفسح المجال لتهديم نظام الأسرة، وغير ذلك من الأمور التي ليس مجال بحثها هنا.
أمَّا الكلام الفاحش البذيء الذي قد يشتمل على قذف المحصنات والبريئات والأبرياء، أو يوحي ببعض المعاني الفاضحة التي قد تثير بعض المشاعر الفاحشة، مما لا يخدم قضيّة الأخلاق الفردية والاجتماعيّة، هذا اللون من الكلام، يريد الله للإنسان أن يمتنع عنه، لما فيه من الإساءة المباشرة إلى الناس الذين يوجّه إليهم القذف، لأنه نوعٌ من أنواع الاعتداء على شرف الإنسان، ولونٌ من ألوان تحطيم كرامته، سواء كانت القضية حقاً أو باطلاً، لأن مجرد كون القضية حقاً لا يبرر للإنسان أن يشهّر ـ من خلالها ـ بالفاعلين بهذه الطريقة، لأنَّ هناك أكثر من أسلوب شرعي، يمكن من خلاله إثبات الجريمة، إن كانت هناك جريمة، أمام القضاء، ولم يجعل الله لأي إنسان الحق في التدخل في الحياة الشخصية لأي إنسان آخر خارج نطاق الشهادة الشرعية، والدعوى الصادقة أمام القاضي العادل، أما الكلام الذي يوحي بالمعنى الفاضح، من دون قذفٍ لأحدٍ، فإنه يسيىء إلى حياء المجتمع وأخلاقه بطريقة غير مباشرة، لأنه يمثل جانباً من جوانب الإثارة الجنسية في غير مواضعها الطبيعيّة.
أما مسألة ما ظهر من الفواحش وما بطن، فمن الممكن أن يكون المراد من الظاهر ما يصدر من هذه الأمور علانيةً أمام الناس، كالزنى العلني، أما الباطن، فهو ما يصدر منها سرّاً كاتخاذ الأخدان في الخفاء، وهذا هو المروي عن الإمام الباقر(ع). وجاء في تفسير العياشي في ما نقله الميزان عنه، عن الإمام علي بن الحسين(ع) أن ما ظهر من نكاح امرأة الأب وما بطن منها الزنى[3]، وربما كان ذلك وارداً على سبيل المصداق مع اختلاف الجهة، وقيل: إن ما ظهر أفعال الجوارح وما بطن أفعال القلوب فالمراد: ترك المعاصي كلها وهذا أعم فائدة ـ كما يقول صاحب مجمع البيان[4] ـ وربما كان هذا قريباً للجو العام للوصايا لأن الله سبحانه يريد للإنسان أن لا يمارس القبح في عقله وقلبه وشعوره وما يرفضه الله من الأفكار والعواطف والدوافع، لأنها تترك تأثيرها الكبير على الواقع الخارجي للإنسان من حيث تأثر الخارج بالداخل، باعتبار أن حركة الإنسان في سلوكه العملي تنطلق من خلال القاعدة الفكرية والعاطفية والشعورية في الداخل؛ ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وهذا ما نلمحه في الحديث عن تزكية النفس التي هي الهدف الكبير للقيم الأخلاقية في الإسلام، حتى أن الله جعل تزكية النفس على ما يحبه ويرضاه، هدف الأنبياء في رسالتهم للناس.
وفي ضوء ذلك، قد يكون المراد من هذه الفقرة للحالات القبيحة في أفعال النفس انطلاقاً من دوافعها وتطلعاتها وأهدافها وأفكارها، وفي أفعال النفس في الممارسات العامة والخاصة، والله العالم.
* * *
تحريم قتل النفس
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} إن الله حرّم قتل النفس، لأنّه اعتبر الحياة أمانةً عند صاحبها وعند الناس الآخرين، فلا يجوز للإنسان قتل نفسه، لأن الله لم يمنحه الحرية في ذلك، كما لا يجوز له الاعتداء على حياة الآخرين، لأن الله لم يجعلها مباحةً لأحدٍ، لأنه ـ سبحانه ـ يريد للحياة أن تعيش آمنةً مطمئنةً، في نطاق نظامٍ قويٍّ متكامل، يعيش كل أفراده مسؤولية الحفاظ على الحياة، من خلال خوف الله ومحبته، فذلك ما يمكن أن يحفظ للحياة أمنها وطمأنينتها، لأنه يؤكدها على قاعدةٍ ثابتةٍ مستقرّةٍ لا مجال فيها للاهتزاز والتلوّن ما دام الإيمان حيّاً في قلب الإنسان، ولذلك كانت عقوبة القتل العمد الذي ينطلق من خيانة أمانة الحياة الخلود في نار جهنم، ولم يستثن إلا الحالات التي يفرض فيها النظام العام الذي يراد منه الحفاظ على الحياة كالقصاص، والحد الشرعي في الجرائم التي تخلُّ بأمن الناس وشرفهم وكرامتهم وحريتهم.
{ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون}. فهذه الوصايا الخمس هي من القضايا التي تحتاج إلى مزيدٍ من التأمل والتفكير في طبيعة النتائج الإيجابية التي تترتب على الالتزام بها، في انسجام الإنسان مع فطرته، لأنها من القضايا التي تنسجم مع الفطرة، في ما تصلح به الحياة ويصلح به أمر الناس، ولعله لذلك كان ختامها بقوله، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، لما في ذلك من الارتباط الوثيق بالتعقل والتفكر والتدبّر.
* * *
الحفاظ على مال اليتيم
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} واليتيم هو أمانة الله في أعناق الأمة، لأنه فقد القلب الذي يحوطه بالحنان، والعقل الذي يرعاه بالرحمة، والقوّة التي تقوي فيه عناصر ضعفه، وبذلك أصبح بمثابة الكيان الضائع الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه بنفسه، مما يمكن أن يعتدي عليه الآخرون، فيأكلون ماله، ويهددون حياته، فأراد الله أن يوصي به من أجل حماية ماله من الضياع، فلم يجوّز التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف إلا بالطريقة الأفضل والأحسن التي تنمي المال وتزيده، وتحفظ بها حياته وتقوّيها، تماماً كما لو كان الأب حيّاً أو أفضل، ويستمر ذلك ما استمر اليتم، وذلك في حالة ما قبل البلوغ، فإذا بلغ أشدّه، ووصل إلى مرحلة البلوغ والرشد، وهي المرحلة التي يملك فيها القدرة الفكرية العملية على إدارة شؤونه المالية بطريقة متوازنة، أعطي له ماله ليتصرف فيه كما يريد، وهذا هو نوع من أنواع الأمن الاجتماعي لمثل هذه الحالات الصعبة في حياة الأمة..
وقد تقدم في سورة النساء التشديد على أكل مال اليتيم، بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] فإن اليتيم من أضعف المخلوقات، وظلم الضعيف أفحش الظلم كما ورد في بعض الأحاديث.
* * *
إيفاء الكيل والميزان
{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} وهذه هي أمانة التعامل، فلكل من المتعاملين حق عند صاحبه في ما يفرضه قانون التبادل من انتقال كل عوضٍ إلى ملك الطرف الآخر في مقابل ما انتقل عنه، وبذلك كان من واجب كل منهما أن يؤدي الحق إلى صاحبه كاملاً غير منقوصٍ، لأن نقصانه عن مستواه يعتبر سرقة وخيانةٌ، وهذا ما لا يفترضه الإيمان بالمؤمنين الذين ركز شخصيتهم على أساس الأمانة والإخلاص، ولهذا حرّم التطفيف الذي يتضمن الأخذ بالزائد عن الحق، والإعطاء بالناقص عنه، واعتبره إفساداً في الأرض، وخيانة للأمة، وأمر بالوفاء بالكيل والوزن بالعدل.
{لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: قدرتها، فإن الله لا يكلّف عباده ما لا يطيقون، فكل ما أوجبه عليهم أو حرّمه فهو في مستوى الطاقة، أو أدنى منها، فإذا بلغ ما هو أعلى من ذلك ارتفع التكليف.
* * *
العدل في القول
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} والعدل هو هدف الرسالات في الأرض في حركتها الإيجابيّة، كما أن تدمير الظلم هو هدفها الكبير في حركتها السلبيّة، لأنه الخطوة الطبيعيّة لتحقيق الهدف الأوّل، والقول شهادةً كان أو حكماً، أو تقييماً، أو تأييداً، أو رفضاً، ونحو ذلك، هو مظهر العدل، عندما يبتعد عن العاطفة والانفعال، فيشهد الإنسان بالحق على أقرب الناس إليه، أو يحكم أو يرفض بعيداً عن أيّ تأثر بالقرابة أو بالصداقة، أما إذا انطلق من العاطفة فإنه يتحول إلى ظلم كبير، في ما يشلّ به قدرة الحياة على تأكيد الحقيقة في حركة الكلمة المسؤولة، فتضيع حقوق الناس في متاهات الانفعالات الذاتية، المتقلّبة والمتنوّعة الاتجاهات، تبعاً للحالة الذاتية لدى الإنسان سلباً أو إيجاباً، وقد أمر الله بالعدل في القول حتى ضد القريب، ونهى عن الظلم والانحراف عن الخط حتى بالنسبة إلى البعيد، لتتكامل للأمّة خطوات العدالة في الحياة.
* * *
الوفاء بعهد الله
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} والوفاء بالعهد يمثل أمانة المواثيق والمعاهدات والتحالفات التي تقوم بين الناس في القضايا الصغيرة والكبيرة في حال السلم والحرب، لأن العهد يقوم على الالتزام الذي يلتزمه الإنسان على نفسه، في ما يتفق عليه مع الإنسان الآخر، ليشعر كل منهما بالثقة بالحاضر والمستقبل في المشاريع المشتركة، فإذا كان الوفاء، كانت حالة الثقة في التعاهد، هي التي تحرك قضايا الناس في الأمة والمجتمع، وشعر الجميع بالأمن على سياسته واقتصاده ومصالحه وقضاياه من أيّة خيانة أو عدوانٍ، وانطلق مع مشاريعه الجديدة في ثقةٍ واطمئنانٍ، وإذا كانت الخيانة، وعدم الوفاء، دخلت الحياة في هاجس الخوف والقلق وانعدام الثقة، فلا قيمة للكلمة، لأن صاحبها لا يحمل مسؤوليتها بشرف، ولا قيمة للالتزام، لأنه لا يمثل حالة أمان للنفس والضمير، بل يصبح مجرد كلماتٍ جوفاء لا تعني شيئاً، ولا تُلزم بشيء، وبذلك تبتعد الحياة عن حالة الاستقرار إلى حالة الاهتزاز والارتباك، وتضيع الضمانات الحقيقيّة لقضاياه المصيريّة في حساب المواثيق والمعاهدات، ولهذا كان الأمر بالوفاء وتحريم الانحراف عنه، يمثل أدنى حدٍّ من حدود التوازن الاجتماعي في واقع الحياة والإنسان.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن مثل هذه الوصايا تحتاج إلى وعيٍ دائمٍ ويقظةٍ مستمرةٍ، فالغفلة عن أيّة واحدةٍ منها في حساب النتائج، يبعد الإنسان عن الانسجام مع الخط الصحيح في الحياة.
* * *
اتباع الصراط المستقيم
{وَأَنَّ هَـذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وهذه الوصيّة العاشرة، التي لا تحوي مضموناً معيناً لفعل خاص من أفعال الإنسان، بل هي تشمل كل حياته. إنها دعوةٌ لتحديد الطريق التي يسلكها على أساس الهدف الذي يستهدفه، فإذا كان الله هو هدف وجوده، في ما يريد أن يبلغه من رضوانه، ويصل إليه من جنته، فإن هناك طريقاً واحداً يصل به إلى هذا الهدف، لا يوجد غيره، ولا سبيل سواه، وهو الطريق المستقيم، الذي يبدأ من الإيمان بالله وينتهي بنيل رضاه.
أمّا إذا كان الهدف هو الشيطان، فهناك أكثر من طريقٍ للأهواء والشهوات والأطماع، وهناك آلاف السبل الصغيرة والكبيرة، للشياطين الصغار والكبار، ولكنها سبل ملتوية ومتعرّجة تغرق الإنسان في متاهات الضياع، فلا يخرج من مضيقٍ إلا ليدخل في مضيقٍ آخر، وكلّما شعر أنه وصل إلى نهاية الطريق، انفتح له طريق آخر، وهكذا، حتى يبتعد عن طريق الله، ويضلّ عن سبيل السلام.
فليست المشكلة عند المؤمن في ما يمارسه من أعمالٍ كثيرةٍ أو قليلةٍ، ولا ما يستعرضه في حياته من أشكال وألوان الحركة، وما يقوم به من طقوس وعاداتٍ وتقاليد، لأن ذلك كله يقف على هامش قضية الهدى والضلال، بل المشكلة تكمن في تحديد خط الاستقامة أو خط الانحراف، فذلك هو الهدى كله، أو الضلال كله، ويدخل في هذا الموضوع منهج الحياة الفكري والعملي، وطبيعة القيادة والولاية، فللمنهج دوره في مسألة الإطار الذي تتحرك فيه الحياة، وللقيادة دورها في تحديد الخطوات وتثبيتها وملاءمتها للمنهج في خطه العريض وتفاصيله الكثيرة.
ولذلك كان التأكيد في هذه الآية على اتباع الصراط المستقيم، والابتعاد عن الطرق المنحرفة التي تبعد الإنسان عن سبيل الله.. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأن ذلك هو سرّ التقوى المنضبط في خط السير على أساس وضوح الرؤية، ولن يكون ذلك إلا في نطاق الخط المستقيم المنفتح الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل هو الأفق المنفتح الذي يتفجر فيه النور من جميع جوانبه، ويطل الهدى منه في كل الاتجاهات.
وقد جاء في مجمع البيان قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب، وهي محرّمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار[5]. وقد جاء في التوراة في الفصل الثلاثين سفر الخروج أحكامٌ عشرة تعرف عند اليهود بالوصايا، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك الفصل.
ـــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:473.
(2) م.ن، ج:4، ص:476.
(3) تفسير الميزان، ج:7، ص:397.
(4) مجمع البيان، ج:4، ص:475.
(5) مجمع البيان، ج:4، ص:477.
تفسير القرآن