الآية 164
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــــة
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(164).
* * *
معاني المفردات
{رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}: جاء في المجمع: الربّ إذا أطلق أفاد المالك بتصريف الشيء بأتمّ التصريف، وإذا أضيف فقيل: ربّ الدار وربّ الضيعة فمعناه المالك لتصريفه بأتم تصريف العباد، وأصله التربية، وهي تنشئة الشيء حالاً بعد حال حتى يصير إلى الكمال، والفرق بين الرب والسيّد، أن السيّد المالك لتدبير السواد الأعظم، والربّ المالك لتدبير الشيء حتى يصير إلى الكمال مع إجرائه على تلك الحال[1].
{وَازِرَةٌ}: نفس آثمة مذنبة، والوزر: الذنب.
{وِزْرَ}: ثقل، أصله من الوزر الذي هو الملجأ، فحال الموزور كحال الملتجىء إلى غير ملجأ، ومنه الوزير، لأن الملك يلتجىء إليه في الأمور، وقيل: إن أصله الثقل ومنه قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2] وكلاهما محتمل.
* * *
لا أبغي غير الله رباً
ويريد الله لكل إنسانٍ ـ من خلال النبي(ص) ـ أن يعبّر عن عمق التوحيد في فكره وعقيدته، في صورة التساؤل الإنكاري الذي يثيره كردٍّ حاسمٍ على هؤلاء الذين يريدون منه أن يؤمن بربوبية غير الله. {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} ولا بدّ للربّ من أن يكون غنياً في ذاته عن الحاجة إلى غيره في أصل وجوده وفي استمراره، ولا شيء غير الله إلاّ وهو مربوبٌ له، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} فكيف يمكن أن يكون المربوب شريكاً للرب في ربوبيته؟ وعلى كل إنسانٍ أن يتحمل مسؤوليته الفردية في قضية العقيدة، فإن الله جعل كل إنسان مسؤولاً عن عمله، ولم يجعل أحداً مسؤولاً عن عمل إنسان غيره، فإذا أحسن فإن إحسانه له، وإذا أساء كانت إساءته عليه.
* * *
لا تزر وازرة وزر أخرى
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وتلك هي قاعدة العدالة في الإسلام التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في علاقاته مع الآخرين في الحياة الدنيا، كما يريد له أن يواجه حساب المسؤولية من خلالها أمامه في الآخرة.
{ثم إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من شؤون العقيدة والحياة، ويواجه كل واحدٍ منكم بمسؤوليته في ذلك كله، عندما يكون الموقف منطلقاً من موقع القناعة القائمة على البرهان، أو من موقع الفكرة القائمة على الشبهة من غير علم ولا سلطان.
وهناك سؤال قد يُطرح أمام فكرة المسؤولية الفردية التي تؤكد أن الإنسان لا يحمل وزر غيره أو أنه لا ينتفع إلا بعمله، فإننا نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] فإنها تدل على أن الإنسان يحمل أوزار الناس الذين يشارك في إضلالهم أو في خداعهم عن الحق.
ونقرأ في السنّة الأحاديث المؤكدة عن الرسول(ص) أن من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها، وقال في ضده: ومن سنّ سنّةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها . وهذا ما روي عن رسول الله(ص) قال: "من استنّ بسنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن استنّ بسنّة سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"[2].
فهذه الأحاديث توحي بأن الإنسان يحمل أوزار العاملين بالسنة السيّئة التي سنّها، ويستفيد من حسنات السائرين على خط السنة الحسنة التي صنعها، ما يختلف عن مفهوم الآية التي تؤكد على المسؤولية الفردية في العذاب والعقاب.
ولكنّ الجواب عن ذلك أن هذه المفاهيم لا تنافي المبدأ الذي قررته الآية، لأن الآيتين السابقتين تؤكدان على أنهم يحملون أوزار الذين يضلونهم ويخدعونهم، ما يوحي بأن هذه الأوزار كانت نتيجة الضلال الذي دفعوهم إليه والخداع الذي أوقعوهم به، فهو فعلهم ـ بشكل غير مباشر ـ ما يجعل تلك الأوزار أوزار ذلك الفعل على مستوى علاقة النتيجة بالسبب، فلا بد من أن يتحمّل مسؤوليته في النتائج السلبية.
وهكذا تتّضح المسألة في أحاديث «السنّة الحسنة» و«السنّة السيئة»، فإن أعمال الآخرين الإيجابية والسلبية كانت نتيجةً لما قام به العامل من العمل الذي يمثل القاعدة التي انطلق منها الآخرون في عملهم الإيجابيّ والسلبيّ، فهو عمله في خط الامتداد، كما كان عمله في خط الحدوث.
وهناك سؤال آخر يتحرك في هذا الاتجاه، وهو أن هناك أحاديث تدل على أن الإنسان قد يستفيد من أعمال الآخرين الطيبة، كما في أعمال الولد الصالح التي تكون سبباً للغفران لأبيه أو للحصول على نتائج طيّبة أو في ما يهدى إلى الأموات أو الأحياء من قبل بعض الناس من الأعمال الصالحة، فكيف نفسر ذلك على أساس الخط الفكري الذي تؤكده الآية {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}، لا سيما أن الثواب قد يكون منطلقاً من دلالات العمل الصالح على الروحيّة التي يعيشها الإنسان المؤمن العامل بالصالحات في علاقاته بالله بما يقربه إليه، فكيف يحصل على الثواب على عملٍ لا علاقة له بقربه من الله وبكلّ المعنى الروحي الذي يختزنه في نفسه؟
والجواب: أنّ الإنسان قد يكون مشاركاً في بعض ما يتمثّل في الناس الصالحين باعتبار انتسابهم إليه وتربيته لهم وعلاقته بهم كالولد الصالح، وقد يكون نوعاً من تفضل الله عليهم بلحاظ ما يتصفون به من صفات طيبة صالحة وصلوا إليها بأعمالهم وبجهودهم الذاتية، ما جعل المسألة بمثابة الثواب على ذلك الأمر الذي يرتبط بالعمل بشكلٍ غير مباشر.
وقد تكون المسألة بعنوان الهديّة التي يقدّمها إنسان إلى إنسان، فكما تتمثّل الهديّة بالأشياء المادية فيمكن أن تتمثّل بالأشياء الروحية، وقد دلّت الأخبار على أن الله يكرم عبده المؤمن على الروحية التي يحملها في إهداء عمل خيرٍ إلى من يحبه، فيتقبّل ذلك منه ويمنحه للمهدى إليه، فلا منافاة في ذلك للآية التي تتحدث عن أن الإنسان يجني نتيجة كسبه الذاتي ولا يجني نتيجة كسب الآخر من ناحيةٍ ذاتية لا بعنوان ما يقدمه الآخر إليه على نحو الهدية ممّا قرره الله وأمضاه. والله العالم.
ـــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:486.
(2) البحار، م:1، ج:2، باب:8، ص:350، رواية:75.
تفسير القرآن