الآية 165
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـــة
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(165).
* * *
معاني المفردات
{خَلائِفَ}: قال الراغب في المفردات: الخلافة: النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته وإمّا لعجزه، وإما لتشريف المستخلف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض[1] والخلائف: جمع خليفة.
{دَرَجَاتٍ}: جمع درجة، والدرجة نحوُ المنزلة ـ كما يقول الراغب ـ لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط، كدرجة السطح والسلّم، ويعبّر بها عن المنزلة الرفيعة[2].
* * *
تكريم الإنسان بجعله خليفة الأرض
وهذه هي الحقيقة الإلهيّة التي تختتم بها السورة في ما أراد الله به أن يمتنَّ على عباده بما أتاحه لهم من فرصة الامتداد في الحياة، وتوفير الإمكانات التي تكفل لهم التحرك في إدارة شؤونها، في ما تعنيه كلمة الخلافة من مسؤولياتٍ عمليّةٍ، وما توحي به من تكريمٍ للإنسان في دوره الإنساني الفاعل.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ} وربّما استفاد البعض من هذه الكلمة معنى الجماعات اللاحقة التي تخلُف جماعاتٍ متقدّمةً، على أساس التتابع التاريخي في حركة الوجود الإنساني، ولكن ذلك قد لا ينسجم مع ظاهر الآية في توجيه الخطاب إلى الناس كافة، بقرينة قوله ـ في ما بعد ـ: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فإن ذلك من خصائص البشر في جميع مراحل حياتهم، في اختلاف درجاتهم في المواهب والكفاءات الذاتيّة، وفي القدرات الماليّة والجسديّة، وفي المواقع الجغرافيّة والاجتماعية والسياسيّة، وفي غير ذلك من الأمور، فإن هذا التنوّع في الأوضاع الإنسانية لا يختص بمرحلةٍ زمنيّةٍ عن مرحلة زمنيةٍ أخرى، {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ} والمراد من البلاء هنا ـ في ما يظهر ـ هو الاختبار في ما يتصرّف فيه الإنسان تجاه أخيه الإنسان، على أساس ما يختلف عنه في تلك الأمور، فقد يسقط البعض في الامتحان عندما يستخدم ذلك في كثير من الأجواء الاستعراضيّة التي يتمثل فيها الشعور بالزهو والتكبر والاستعلاء والخيلاء، من خلال النظرة الفوقيّة إزاء الناس الآخرين الذين لا يملكون ما يملكه.
وقد ينجح بعضٌ آخر فيه عندما يعي معنى هذا التنوّع في ما أراده الله من توزيع الأدوار في حركة الإنسان في الوجود، ليتحقّق التفاعل الإنساني بين الطاقات المختلفة والتكامل بين المواقع والمواقف، عندما يقدّم كل واحدٍ من الناس ما لديه لمن يحتاجه، في مقابل ما يقدّمه الآخر إليه، في شعورٍ متبادلٍ بينهما بأنّ هذا الاختلاف لا يوحي بأيّ نوعٍ من أنواع التفوّق الذي يوحي لصاحبه بالاستعلاء، بل كلُّ ما هناك، أن الله لم يجمع الطاقات لإنسانٍ واحدٍ، بل أعطى لبعض الناس شيئاً ممّا حرمه لبعض آخر، وحرم بعضاً منهم ما أعطاه لبعضٍ آخر، وتلك هي قصة المسيرة الإنسانية في خط الاستقامة والانحراف.
ويبقى النداء الإلهي يوحي للناس بعقاب الله السريع لو انحرفوا وتمرّدوا وعصوا، كما يوحي لهم بمغفرته ورحمته إن استقاموا وخضعوا وأطاعوا الله سبحانه، وليس للناس إلا أن يستجيبوا لنداء الله وينسجموا مع تعاليمه، ويتحركوا في حياتهم على أساس التوازن بين خط الخوف وخط الرجاء، فلا يتغلّب جانب على جانب، لأن ذلك يؤدي إلى فقدان التوازن وبالتالي إلى فقدان الانضباط، وهذا ما ينبغي لهم أن يتذكروه ويثيروه في أعماقهم ومشاعرهم وأفكارهم دائماً {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
* * *
العدالة في دائرة التفاوت بين الناس
ربما يتساءل البعض عن هذا الاختلاف بين الناس في قدراتهم وإمكاناتهم وعلاقتهم بالعدالة التي قد تفرض المساواة فيما بينهم، ونجيب عنه بأن هذا الاختلاف قد ينطلق من الفوارق الطبيعية التي تتحرك من خلال سنة الله في الكون في تخطيطه لنظام الوجود القائم على التنوع في القدرات والألوان والأشكال والمواقع، مما تتحرك فيه الحكمة الإلهية من أجل مصلحة الخلق الذي تنفتح خصائصه على التكامل والتوازن والتفاعل في الطاقات، ما يحقق مصلحةً للجميع بحسب تفاوت أوضاعهم، حتى أن الخاسر من جهةٍ قد يكون رابحاً من جهةٍ أخرى.
وقد ينطلق من خلال الواقع العدواني الذي يظلم فيه الناس بعضهم بعضاً، ويستغلّ أحدهم الآخر بشكل سيىء، ويتغلب فيه فريق على فريق، ما يؤدي إلى الكثير من الآلام والمشاكل وحالات الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في سلبياته العملية.
ومن الطبيعي أن هذه المسألة لا تتّصل بالخلق الإلهي المباشر لهذه النتائج، بل إن القضية مرتبطة بالخطّ العام لحركة الإنسان في الحياة، من حيث كونه عنصراً يتحرك بإرادته واختياره في خضوعه للمؤثّرات الداخلية والخارجية بحسب نقاط الضعف البشري الذي يسيطر على خلفيّات الإرادة وانطلاقات الاختيار.
وقد خَطَّ الله للإنسان خطةً شرعيةً حكيمة تفتح حياته على الخير وتوجّهه نحو العدل، وتسير به في خطّ الاستقامة على صعيد حياته وحياة الناس كلهم، وحذّره من العقاب إذا خالف، ووعده بالثواب إذا سار، وهكذا أراد الله للعدل أن يتجسد في سلوك الإنسان مع أخيه الإنسان، ولكن الناس يظلمون بعضهم بعضاً خلافاً لإرادة الله، فيتحمّلون مسؤولية ذلك كله، فيعاقبهم الله على ذلك.
إنّ العدالة تتحرك دائماً من موقع الاختيار على أساس وجود عناصر القوة في الواقع، مما يمكن أن يحصل عليه هذا أو ذاك، مع المصلحة في تركيز النظام الوجودي الإنساني على هذا الشكل، ما يجعل الإيجابيات الحاصلة من ذلك على المستوى العام أكثر من السلبيات على المستوى الخاص.
* * *
كيف تتحرك الخلافة للإنسان في الأرض؟
لقد جعل الله الإنسان خليفةً في الأرض، ليديرها ويعمرها ويتحرك فيها على أساس ما ينطلق به جيلٌ سابق لمصلحة جيلٍ لاحق، حيث يعدّ له كل ما يحتاجه للعيش وللاستمرار، لتأخذ الأرض زينتها وتوازنها وامتدادها في إغناء المخلوقات فيها بما يكفل لها العيش والبقاء.
ولكنّ الله لم يمنح الإنسان حرية الفساد والشرّ والعدوان والتخريب، بل وضع له شريعة وقانوناً ينظّم له حركته وحياته على أساس التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، والمادة والروح، وتلك هي خصوصية الخلافة التي يستمدّ منها الخليفة موقعه وشرعيته من المستخلف الذي يملك الأمر كله، فلا يجوز له التعدّي عما حُدّد له، تماماً كما هي حركة الوكيل بالنسبة إلى الموكل.
نسأل الله أن يجنّبنا عقابه وأن يشملنا بلطفه ومغفرته ورحمته إنه سميع الدعاء قريب مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:157.
(2) م.ن، ص:169.
تفسير القرآن