تفسير القرآن
الحديد / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 6

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 6
 

سورة الحديد
مدنية وآياتها تسع وعشرون

في أجواء السورة

هذه السورة هي من السور المدنية، كما هو المعروف بين المفسرين، وكما هو الظاهر من آياتها التي يتحرك فيها التأكيد على الإيمان الفكري الذي يختزن في داخل الشخصية الإسلامية الإحساس بعظمة الله في آفاق الإبداع الكوني المنطلق من قدرته وتدبيره، الخاضع له كل شيء، لينطلق ـ من خلال هذا الامتلاء الروحي بالله ـ إلى التحرك في خطّ الانقياد العملي إليه، في حركة الإرادة الإلهية في احتواء الإرادة البشرية الإيمانية، في عملية التصور النقي للعناوين الكبرى في أوامر الله ونواهيه، والممارسة الدقيقة المنضبطة، ليكون الإنسان المؤمن إنسان الله الخاضع له في ساحة العبودية في تحويل الحياة إلى ساحةٍ واسعةٍ في طاعته.

ومن هنا، كانت هذه السورة، في فاتحتها، حركةً إيحائيةً في مسألة الإيمان الذي يخترق القلب ليعيش في كلِّ إحساساته الإخلاص لله، ليسبِّحه في كل إمكانات التعبير لديه، ولينضم إلى كل ما في السماوات والأرض في حركة التسبيح الكوني الذي تختلف تعابيره، وتتنوع مظاهره، ولكنها تتوحد في الحقيقة الناطقة بوحدانية الله وعظمته، ليتعمق الإيمان، وليصفو، وليتجرد من كل الأثقال التي تمنعه من الانطلاق بعيداً في رحاب الله، ما يفرض عليه ملاحقة كل الأوضاع والمتغيرات التي تطرأ على الفكر لتغير بعض مفاهيمه، وعلى الروح لتعكّر بعض صفائها، وعلى القلب لتشوه بعض أحاسيسه، وعلى الحياة لتدفع بها إلى متاهات الضلال.

وهكذا بدأ الحديث عن البذل كعنوانٍ إيمانيٍّ يوحي بالتضحية المالية في سبيل الله، من أجل المشاركة في تحقيق عناصر القوة للمجتمع المسلم الذي كان يواجه التحديات التي تريد إبقاءه في مواقع ضعفه، وتريد أن تفرض عليه مواقع ضعف جديدة من خلال الحروب التي أثارها المجتمع الكافر في ساحته، لتشغله عن حركة الدعوة في العمق والامتداد، ولتسقطه في ساحة الصراع، الأمر الذي يفرض على المسلمين التعاون من أجل تأصيل القوة بكل مستلزماتها، وتوجيهها نحو الفتح على أكثر من صعيد.

وانطلق الحديث في أجوائها عن قيم الدنيا، التي تستغرق في مظاهرها السطحية الزائلة، وقيم الآخرة التي تحتضن الدنيا في دائرة الآخرة، لتتكامل السنَّة الإلهية التي أراد الله للإنسان أن يؤكدها في وجوده، لتتداخل الآخرة في الدنيا، كما تطلّ الدنيا من خلال الأهداف الكبيرة على الآخرة الدائمة التي توحي له بالخلود الكبير.

ويدور الحديث فيها عن المؤمنين في درجاتهم المتفاوتة، وعن الجوِّ الذي يتحركون فيه في الآخرة في أجواء رحمة الله، وعن المنافقين كيف عاشوا في الدنيا، وكيف واجهوا مواقع الذل في الآخرة، بحيث كانوا يستجدون المؤمنين ليمنحوهم شيئاً من النور ليطردوا بعضاً من الظلام الروحي الذي يسيطر على كل واقعهم هناك.

ثم تطوف السورة بعض الشيء في أجواء اليهود والنصارى في بعض اللمسات الإيجابية، في النقاط السلبية والإيجابية في سلوكهم العام وفي روحيتهم الذاتية، وتوجّه التفكير والإحساس بعد ذلك إلى القدر المحتوم الذي يتحرك بقدرة الله في تنظيم الواقع الكوني والإنساني من خلال القوانين المودعة في داخله، بحيث لا يمكن لأيِّ شيءٍ أن يحدث إلا بقدر مرتبط بالأسباب التي تحقق جانب الحتمية في حركة الحياة، ما يفرض على الإنسان أن لا يبطره الفرح في ما يحصل عليه، وأن لا يسقطه الحزن في ما لا يحصل عليه، وأن ينطلق إلى الحياة بروحٍ منفتحة على الله في نطاق ولايته الكونية، ليتوكل عليه في كل أموره، ليحصل على الثقة العميقة بأن الحياة لا تحمل إليه أيَّ سقوطٍ في الموقع ما دام يتطلع من خلالها إلى الله، وما دام ينطلق من حبه له، ليحب كل خلقه، وليؤكد مصداقيته في القيم التي يحبها .

* * *

سبب التسمية

وقد جاءت تسمية السورة بالحديد، انطلاقاً من الآية الكريمة التي تشير إلى الحديد، وذلك قوله: {وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ليوجِّه الناس إلى التفكير في هذا المعدن الذي يختزن في داخل إمكاناته الكثير مما يحقق للإنسانية القوة والمنافع الكبيرة التي يكتشفها الإنسان من خلال بحثه الدقيق فيها، ليرتفع مستواه من خلالها في جميع المجالات.

ـــــــــــــــــــــ

الآيــات

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأوَّلُ وَالآخر وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ* يُولِجُ الّلَيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الّلَيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1ـ6).

* * *

كل شيء يسبح لله

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} في ما يوحي به التسبيح من إعلان المخلوقات الكونية المتنوعة في طبائعها وخصوصياتها وأشكالها، عن تفاعلها بعظمة الله، وبما أودع في تكوينها من عناصر التعبير الذي قد ينطلق بالصوت، وبالإشارة، وبالإيمان، وبالإيحاء، وبغير ذلك مما لا يدركه الإنسان الذي يتحرك في المعرفة بشكل محدود في نطاق تجربته الخاصة التي لا تمتدّ إلى أبعد مما تدركه الحواس، ويستنتجه العقل، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ..} [الإسراء: 44].

ولعلّ هذا التأكيد الدائم على التسبيح الكوني لكل مخلوقات الله في السماء والأرض، يمثل الأسلوب التربوي للعقيدة الإسلامية بالله، في ما يريد للإنسان أن يتمثله في حياته الخاصة، وفي وعيه لحركة الوجود كله، وعظمة الله في ما حوله، وفيمن حوله، فيجد الله في كل شيءٍ.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فهو المنيع الذي لا يمكن أن يخترق ساحته أحدٌ في أيّ موقعٍ من مواقع الصراع والغلبة، وهو الذي يتحرك فعله في إتقان كل شيءٍ في خلقه وفي تدبيره، الأمر الذي يجعل الإنسان يحسّ بالطمأنينة والثقة بأنه ـ في حركة الكون من حوله ـ تحت رعاية إلهٍ قويٍّ قادرٍ لا يغلب، حكيم لا يخطىء في تقديره وفي تدبيره.

{لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو الحاكم من موقع أنه المالك المهيمن على الأمر كله، {يُحْييِ وَيُمِيتُ} فهو خالق الحياة في ما ركّب فيها من العناصر المتنوعة، وهو خالق الموت في ما يحركه في داخله من أسباب الموت، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا حد لقدرته في كل مواقع خلقه، ما يجعل حاجاتهم منفتحةً عليه في كل أمورهم، لأنه الذي يملك القدرة كلها في كلّ شيء، فيشعرون بالقوة من خلال ارتباطهم بقوته، وبالثقة من خلال إحساسهم بعظمة القدرة وشموليتها في قدرته.

{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخر} فإنّ كل الموجودات مخلوقةٌ له، فلا يسبقه شيء منها في الوجود، وكل الوجود خاضعٌ له، متحركٌ بتدبيره، فلا يتصور بقاؤه من بعده، في الفرضية المحالية للبعدية، فلا بد من أن يكون هو الآخر بعد كل شيءٍ، {وَالظَّاهِرُ} لأنه الذي يمنح الأشياء كل ما يمنحها الظهور، فكيف يمكن أن يكون هناك شيء أظهر منه {وَالْبَاطِنُ} الذي يسيطر على عمق الأشياء في كل عناصرها الداخلية الخفية، وليس هناك ما ينفذ إلى مواقع السر العظيم في ذاته وفي صفاته وأفعاله.

{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه شيء من خلقه مهما كان دقيقاً أو خفياً، لأنه هو الذي ركب في كل شيء سره، وأعطى كلّ موجود خلقه، وبثّ في كل مواقع الوجود خفايا عناصرها، فكيف يجهل ما فيها من خفايا وأسرار؟!

* * *

الله المطلق في كلّ شيء

وإذا كانت الكلمات القرآنية تتحدث عن صفات الله في أوليته وآخريته وظهوره وبطونه، فإن الحديث لا ينطلق من مواقع الزمان والمكان، ولا من حدود الأشياء التي تجعل للأول حداً وللآخر حداً، وللظهور والبطون مواقع في طبيعة الأشياء، فإن الله هو المطلق في كل شيء يتّصف به، بينما تعيش المخلوقات الأخرى، من حيّةٍ وناميةٍ وجامدةٍ، حدودها الخاضعة للفواصل في حدود الزمان والمكان.

* * *

الله مدبّر الخلق

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقد تقدم الحديث عنها في الآيات المماثلة لها، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في تعبيرٍ كنائي عن التدبير الإلهي الذي يمثّل السيطرة المطلقة التي تشرف على الوجود كله، في ما يمثله الاستواء على العرش الذي هو رمز السلطة، من هيمنةٍ وإشراف فعلي من موقع السلطة على إدارة الحكم في مواقعه.

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} لأنه هو الذي يخلق ويدبِّر الأشياء التي تدخل في أعماق الأرض من مصادر النعم، كالماء الذي ينزل من السماء، والبذور التي تكمن في الأرض، ومن الموجودات الحية وغيرها، كما يخلق الأشياء التي تخرج منها، كأنواع النبات والحيوان والماء، {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من الأمطار والأشعة والملائكة {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من مخلوقاته أو من القضايا التي لا تعلم طبيعتها.

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} لأنه محيطٌ بكل وجودكم، فلا تغيبون عنه مقدار لحظة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيءٌ من دقائق أعمالكم وأسرارها وخفاياها، الأمر الذي يفرض عليكم الاستغراق في إيحاءات ذلك، في ما يثيره في داخلكم من المشاعر التي تفتح العقل والحس والوجدان على الرقابة الداخلية التي ترصد كل شيء في القول والفعل، ليكون ذلك كله في مواقع رضا الله في ساحات أوامره ونواهيه {لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرضِ} فليس لأيَّة قوةٍ أخرى علاقة بالخلق في دائرة المبدأ، فلا يكون لها أي دخل في دائرة المعاد {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}، فهو الذي يفصل بين عباده، وهو الذي يحدد لهم مصيرهم، فليس لأحدٍ أن يتوجه إلى غيره أو يراقبه، أو يتطلب رضاه بعيداً عن رضا الله، لأن الله هو وحده الذي يرجع الأمر كله إليه.

{يُولِجُ الَّليْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} في ما يعبر عنه اختلاف الليل والنهار من تداخل المسافات الزمنية، عندما يطول الليل فيمتد إلى الساعات التي كانت نهاراً في هذا الفصل، أو يطول النهار فيمتدّ إلى الساعات التي كانت ليلاً في ذلك الفصل، من خلال التدبير الكوني المتقن المبدع، {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في ما يخفيه الناس من أفكارهم وأسرارهم التي تختفي في صدورهم التي تحتوي قلوبهم، في تعبيرٍ كنائيٍّ عن المنطقة السرِّية الخفيِّة في داخل الذات وعن إحاطة الله بعمق الإنسان في داخل كيانه، كما هي إحاطته في خارجه.