تفسير القرآن
الحديد / من الآية 7 إلى الآية 11

 من الآية 7 الى الآية 11

الآيــات

{آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ* وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ* هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (7ـ11).

* * *

معاني المفردات

{مُّسْتَخْلَفِينَ}: استخلاف الإنسان جعله خليفة.

{يَسْتَوِي}: الاستواء بمعنى التساوي.

* * *

الإيمان بالله والإنفاق في سبيله

{آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}َ فإن الإيمان العميق المرتكز على أساس الفكر الهادىء والوجدان المنفتح، يفتح للإنسان الكثير من الآفاق الرحبة في وعي الحركة الجادة في حياته، ويبصّره الكثير من الأوضاع الغامضة التي يمكن للإيمان في مفرداته العقيدية أن يمنحها شيئاً من الوضوح، ويعرّفه طبيعة الدنيا ومواقع الأمان فيها في مواجهة مواقع الخوف، ويربطه بالآخرة في اعتبارها هدفاً متحركاً في كل ما يقوم به الإنسان من أعمال، وما يصدر عنه من أقوال، وما يتخذه من مواقف، وما يديره من علاقات، لأن الإيمان هو عمق الفكرة والإحساس والحركة والخط والهدف لدى الإنسان المؤمن في كل وجوده، ومن هنا كان هو العنوان لكل قضاياه وأوضاعه، لأنه ليس كلمةً تقال، بل هو الكيان كله في معناه الشامل للإنسان.

{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فليس المال الذي تملكونه فيما بين أيديكم من النوع الثابت والمتحرك، مما تملكون فيه حرية التحرك من ناحيةٍ ذاتية على أساس أنه شأنكم الذاتي الذي لا يحمل أيَّة مسؤوليةٍ في حسابات العطاء الإنساني، بل هو ملك الله الذي يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم، فهو من موقع خلقه للوجود كله، يملككم ويملك ما تملكون، وقد حدد لكم الوظيفة في تصرفكم فيه، فحلل بعض الأشياء وحرّم بعضها، وأراد لكم أن تنفقوا منه على كثير من موارد الإنفاق في سبيله، في ما يحتاجه المحرومون بجميع فئاتهم، ويحتاجه الجهاد بجميع مواقعه، وتحتاجه الحياة العامة بكل جوانبها. وذلك من صفة خلافتكم على المال، ووكالتكم بالتصرف فيه ضمن الحدود التي حددها لكم، ما يجعل من الملكية وظيفةً شرعيةً، لا حالةً ذاتيةً مطلقة في ما يملكه الإنسان من امتيازات. وإذا كانت المسألة في هذا النطاق الشرعي، فليس لكم حرية الامتناع عن الإنفاق في ما يريده الله لكم من موارده، لأن ذلك يعني خيانة الوكيل للموكل في ما حدده له من الحرية في التصرف بماله. فكيف إذا كان الله هو الموكل، وكان الإنسان الذي هو عبد الله، هو الوكيل؟

{فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} لأن الله قد جعل لهم الثواب العظيم على التحرر من سيطرة النزعة المادية على عقولهم ومشاعرهم وأوضاعهم، وعلى الانفتاح على الله في خط الإيمان من أجل أن يطيعوه في ما أمرهم به أو نهاهم عنه، بالرغم من تسويلات الشيطان وتهويلاته، في ما ينذرهم بالفقر ويخوفهم بالهلاك، ما يجعل من الإنفاق حركة إيمان، وليس حالةً في الذات، فيكون طاعةً لله وتمرداً على خطوات الشيطان الفكرية والعملية.

{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ} قد نلاحظ أن الخطاب للمؤمنين الذين آمنوا بالله والرسول، فكيف كان الرسول يدعوهم للإيمان بربهم؟ وربما يجاب عن ذلك أن المقصود بالإيمان بربهم هو الإيمان العملي الذي يتحول إلى حالةٍ وجدانيةٍ شعورية، تتمثل في الانسجام مع أوامره ونواهيه، وفي الرغبة في الحصول على رضاه، من خلال الإحساس الوجداني بحضوره المهيمن على الكيان كله وعلى الوجود كله، لأن الإيمان الذي لا يصدقه العمل، قد يكون مجرد صورةٍ في الفكر، وفيما هي المعادلة العقلية الباردة التي لا تحمل في داخلها أية حرارةٍ في حركة الوجدان والشعور، ما قد يجعل اليقين أشبه شيء بالشك، كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع) عن الموت: «ما خلق الله عز وجلّ يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت»[1]، والله العالم.

* * *

الإيمان عهد بين الله وبين عباده

{وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمان بالله عهدٌ بين الله وبين عباده، لأن الالتزام بالتوحيد في قاعدته الفكرية يفرض الالتزام بالحركة في خطّه والاستقامة على دربه، في قاعدته العملية في السير على هدى الشريعة في أحكامها ومنهج العقيدة في وسائلها وأهدافها. وعلى ضوء ذلك، قد يحتاج الإنسان المؤمن إلى وعي المسألة في معنى الميثاق الإيماني، ليمنعه ذلك من إعطاء أيِّ ميثاق لأي إنسان أو جهة، في أيِّ التزامٍ بعيدٍ عن التزام الإيمان الفكري، لأن ذلك يعني الخيانة للميثاق والنقض للعهد، لأن القضية ليست من القضايا الجزئية التي تتجمد في زاوية معينةٍ من زوايا الفكر أو مواقع العمل، بل هي من القضايا الكلية التي تستوعب الحياة كلها في معناها الحركي في وجود الإنسان.

* * *

الله يخرج عباده من الظلمات إلى النور

{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فليس القرآن مجرد كلماتٍ وآياتٍ تمنح الإنسان المفهوم الذي يختزنه العقل كنظرية ترقد إلى جانب النظريات الكثيرة التجريدية، بل هو نور يشرق في العقل ليدفعه بعيداً عن ظلمات الفكر، وشعاع ينفذ إلى الشعور ليبعده عن ظلمات العاطفة المنحرفة، وينطلق إلى الحياة ليتحول إلى شعلةٍ تضيء للسائرين في الظلمات دروبهم إلى الخط المستقيم.

وهكذا يريد الله للقرآن أن يكون شمساً فكريةً وروحيةً وشعوريةً في حياة الإنسان المعنوية والحركية، تماماً كما هي الشمس التي تضيء للكون كهوفه وزواياه ودروبه لتقتحم كل ظلام الليل. وبذلك، فلا بد للعاملين في الحقل التربوي من أن يحركوا القرآن بطريقةٍ تجعل منه حالةً إشراقيةً في عقل الإنسان ووجدانه، وروحه وشعوره، وذلك من خلال الأساليب المليئة بالحيوية التي تنفذ إلى الروح، كما تتحرك في العقل وتطرد الكثير من الشبهات والأضاليل التي تسيء إلى وضوح الرؤية للأشياء وتمنع الأجواء الضبابية التي تبعد الإنسان عن وعي الرسالة والرسول، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} فتتحرك رأفته لتشرق في حياتكم روحاً وحباً وحناناً، كما تنطلق رحمته لتضيء لكم دروب الحياة الطيبة الحرة الكريمة الواعية السائرة في خط الاستقامة في رحاب الله.

* * *

الحثّ على الإنفاق في سبيل الله

{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ} وما الذي يمنعكم من ذلك، فهل تتصوّرون أنكم إذا بخلتم وامتنعتم عن الإنفاق فسيبقى المال لكم، وهل تبقون أنتم في خلود الحياة؟ لو فكرتم في الموضوع بطريقة واقعيةٍ فستعرفون أنكم ستموتون، وأن المال سيترككم أو تتركونه، لأن الله وحده هو الباقي وأنتم الزائلون، {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو الذي يرث الأرض ومن عليها، كما يرث السماوات وما فيها ومن فيها، ولذلك فلا بد من تعميق الصلة بالله، بالعمل بما يحبه ويرضاه، وبالابتعاد عما يسخطه ويرفضه. وإذا كان الإنفاق في سبيل الله سبباً لرضاه، فلماذا يمتنع الناس عنه، وهو الذي يبقى لهم ذخراً عند الله عندما يتركون الحياة، أو تتركهم الحياة. وإذا أراد الإنسان أن يختار الإنفاق، انطلاقاً من إيمانه، واقتناعاً بنتائجه الأخروية، فعليه أن يدرس طبيعة الظروف التي يختار فيها العطاء، فهناك حالات يمثل فيها الواقع وضعاً صعباً في حاجة الإسلام والمسلمين إلى المال، بحيث ترتبط به مسألة النصر في مواجهة الأعداء، من خلال الحاجة إلى السلاح والأمور التي تتصل بحاجات المقاتلين في أنفسهم وأهليهم، وهناك حالات لا تمثل أية مشكلةٍ في ما هي الضرورة الملحة إلى المال، لأن المسلمين يعيشون في ظروفٍ عاديةٍ أو ممتازةٍ، بحيث لا يمثل الإنفاق حاجةً عامة. ولذلك فإن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يختارون الإنفاق في الحالات الصعبة، وبين الذين يختارونه في الظروف العادية.

* * *

الإنفاق في ساحات الجهاد

وكما هو الإنفاق المالي، نلتقي بالتضحية في ساحات الجهاد، فهناك الناس الذين يجاهدون ويقاتلون في ظروف التحديات الكبيرة التي يواجه فيها المسلمون الحصار، ويعيشون فيها بعض حالات الضعف ويعملون على تحويلها إلى حالات قوة، ما يجعلهم بحاجةٍ إلى العناصر البشرية المجاهدة المقاتلة. وهناك الناس الذين يتقدّمون للقتال في الظروف العادية التي استطاع فيها المسلمون الوصول إلى مراكز القوة من خلال الفتح الكبير الذي مهّد لهم سبيل السيطرة على الواقع كله، وهذا ما جاءت به الفقرة التالية من الآية {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} لأن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يجاهدون وينفقون في الظروف الصعبة القاسية التي كان الإسلام فيها يعاني من قلة العدد والعدة، في مواجهة القوة الكافرة التي كانت تتميز بكثرة العدد والعدة، وبين الذين يجاهدون بعد الفتح الذي كانت القوة فيه للمسلمين وذلك بعد فتح الحديبية أو فتح مكة، بحيث لم تكن هناك مشكلة كبيرة في العدد والعتاد، الأمر الذي يجعل الفئة الأولى في المواقع المتقدمة في درجات القرب من الله، لأن مسألة المعاناة في مواقفهم والأثر الكبير الإيجابي في نصرتهم للإسلام في مواقعهم تحمل ميزةً كبيرةً لا تقترب منها الفئة الأخيرة.

{وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} لأن لكلّ فريقٍ عمله الذي يجعله قريباً من الله، مع تفاوت الدرجة، ما يجعل الثواب المتنوع وعد الله للجميع، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لأنه يعلم عمق النية في القلب، وصدق الإحساس في الشعور، وقوة الفكرة في العقل، واستقامة الخط في الطريق، ويعرف خفايا ذلك كله في درجاته ومواقعه.

* * *

التجارة مع الله

{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} فيقدم للمواقع وللمواقف وللأشخاص، في الموارد التي يريد الله للناس أن يبذلوا فيها ما يملكون من مالٍ وجهدٍ وقوةٍ، تقرباً إليه، وابتغاء فضله، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فلا يكون حجم الثواب بقدر حجم العمل، بل يزيد عليه من دون أن يضع حداً معيناً للزيادة، فيترك للعامل أن يطوف بروحه في آفاق رحمة الله، لتكون سعة الأمل عنده بقدر سعة رحمة الله، وليستريح للنتائج الكريمة التي يوحي بها الله {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يرضاه لنفسه، ويرضاه الله له.

ونلاحظ أن في التعبير بالقرض الحسن في ما يبذله الإنسان من جهدٍ مالي أو غير مالي، إيحاءً بأن الله الذي رزق الإنسان جهده في ما أولاه من نعمه، يجعل ذلك عملاً إنسانياً ذاتياً ينطلق من إرادة الإنسان واختياره، تماماً كما لو كان الإنسان مستقلاً به، مالكاً له، فيعتبره الله قرضاً له، بحيث يستحق به الأجر المماثل له أو المضاعف، تماماً كأي قرضٍ ذاتيٍ في المعاملات الواقعة بين الناس، في ما يقرضه أحدهم للآخر، وذلك من خلال تكريم الله للإنسان وتفضله عليه، ليجعله مستحقاً لما لا يستحقه في ذاته، ليعيش إنسانيته في آفاق رحمة الله وفضله.

ـــــــــــــــــــــ

(1) من لا يحضره الفقيه، ج:1، ص:194، رواية:596.