من الآية 12 الى الأية 15
الآيــات
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* يوْمَ يَقولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ* يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (12ـ15).
* * *
معاني المفردات
{بُشْرَاكُمُ}: المراد بالبشرى ما يبشر به وهو الجنة.
{انظُرُونَا}: النظر إذا تعدّى بنفسه أفاد معنى الانتظار والإمهال، وإذا تعدّى بـ «إلى» نحو: نظر إليه، كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء، وإذا عُدِّي بـ «في» كان بمعنى التأمل.
{نَقْتَبِسْ}: الاقتباس: أخذ قبس من النور.
{بِسُورٍ}: سور: سور المدينة حائطها الحاجز بينها وبين الخارج منها.
* * *
المؤمنون والمنافقون في ساحة القيامة
الساحة هي ساحة القيامة، والمؤمنون والمؤمنات يتجمّعون في ما يشبه المسيرة الإيمانية التي تستعرض إشراقة الإيمان في روحيتهم، والمنافقون والمنافقات يلتقون في ظلمة الروح التي تبحث عن بعضٍ من النور هنا، أو بعضٍ من النور هناك. فكيف يصوِّر لنا القرآن هذا المشهد الفريد المميز في دلالاته وفي نتائجه على مستوى المصير هناك؟
* * *
حال المؤمنين يوم القيامة
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} فها هم ينطلقون في صورةٍ رائعة تحمل الفيض من النور الذي يتفايض من روحانيتهم المنطلقة من علاقتهم المخلصة بالله، ومن تفكيرهم العميق الذي يحمل كل وضوح الرؤية في إشراقة الحقيقة، ومن حركة العمل الخالص المخلص الممتد من الخط المستقيم في معنى الشريعة الإلهية، فيسعى بين أيديهم، كما كانت الحياة تتحرك أمامهم في ما يمنحونها من الخير والحق والعدل، بحيث تشرق السعادة في مواقعهم، كما العطاء في ساحة الحرمان، والقوة في مواقع التحدي، واللقاء أمام حالة الفراق، لتتحول إلى نورٍ يضيء ساحات القيامة، ويرتفع في آفاقها.
وينطلق النداء من الله، لهذه المجموعات النورانية التي عاشت في نور الإيمان، وتحركت في هداه، وعاشت نتائجه الروحية المشرقة في الآخرة.. ويأتي النداء في انسياب الروح الفياضة بالخير والحب والعطاء { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} فهذا هو الثواب الإلهي المنطلق من رحمة الله في لطفه بعباده الذين أعطوا الحياة إشراقاً في عملهم الإيماني، وأعطوا القيامة إشراقاً من خلال روحيتهم المنفتحة على محبة الله، فأعطاهم النعيم الخالد في جنته ليستريحوا من عناء الجهد الذي بذلوه في ما جاهدوا به أنفسهم في مواجهة الانحراف، وفي ما جاهدوا به الكفر والظلم والاستكبار في مواجهة التحدي الكافر والظالم والمستكبر، ولينعموا بالحياة الجديدة في رعايته وعنايته من دون جهدٍ أو تعب أو عذاب {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثّل النجاح الذي لا فشل بعده، والخير الذي لا شرّ معه، والفرح الذي لا حزن معه.
* * *
حال المنافقين يوم القيامة
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} الذين عاشوا في ظلمات النفاق الذي أدخل الروح في عتمات القلق والحيرة والضياع، عندما أبعد هؤلاء الناس عن خط الاستقامة التي تلتقي بالشروق القادم من خلال الإيمان بالله، وبذلك عاشوا الازدواجية بين ما هو الباطن الغارق في الكفر والبغي والانحراف، وبين ما هو الظاهر الذي قد ينطق بكلمات الإيمان والعدل والاستقامة، ما يجعله يختبىء في داخل نفسه تارةً حتى يستغرق في ضلاله، ويخشى من قلقه في ظاهر حركته أخرى، خوفاً من أن يظهر عليه ما ينم عن واقعه، الأمر الذي يقوده إلى ظلام الخوف في متاهات الضياع.
وهذا ما يجعل الظلمة القابعة في داخلهم تنتقل معهم إلى ساحة القيامة، فيتحركون في حالةٍ عجيبةٍ من التخبط والحيرة، ولا سيما عندما يرون المؤمنين والمؤمنات في بحار النور التي يسبحون فيها فيقولون {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} في عملية ذل واستجداء: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي أمهلونا حتى نأخذ شيئاً من هذا النور الذي يسعى بين أيديكم وبأيمانكم، ليضيء لنا الظلمة التي نتخبط فيها، فنلحق بكم ونكون معكم لنصل إلى الأجواء المشرقة التي تصلون إليها.
ولكن المؤمنين والمؤمنات يتابعون سيرهم، فلا يتوقفون أمام هذا الترجي والاستعطاف، لأن المسألة ليست مسألة حالةٍ ذاتيةٍ يتحركون فيها من خلال المشاعر الخاصة في ردّ الفعل تجاه حديث هؤلاء، بل هي مسألة التعليمات الإلهية في ما يفعلون ويتركون، أو في ما يستجيبون له أو لا يستجيبون، مع ملاحظة أن مسألة النور في الآخرة ليست قضية شيءٍ يملكه الإنسان ليملك حرية التصرف فيه ليمنحه لهذا أو ذاك، بل هي قضية عمق الروح في ذاته، ما يجعله مرتبطاً بالذات من خلال خصوصياته الذاتية التي لا تنتقل إلى الآخرين.
{قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} من هو القائل؟ هل هم الملائكة، أو هم المؤمنون والمؤمنات، أو هم أناس من أصحاب الأعراف؟ إن الآية لا تدل على شيءٍ من ذلك، بل هي انطلقت في أسلوب تجهيل الفاعل، لأن المقصود هو إثارة الفكرة التي تضعهم وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصارخة، فليس في الأمر نورٌ يواجهونه، بل لا بد لهم من أن يبحثوا وراءهم ليلتمسوا النور هناك، لو كان هناك شيء من النور. ولكن أين هي منطقة الوراء؟ هل هي الدنيا التي تركوها، والتي يستمدون منها النور من الإيمان والعمل الصالح، وإذا كانت الدنيا هي «الوراء»، فكيف يرجعون إليها ولا مجال هناك لرجوع، فيكون التعبير وارداً على سبيل الاستهزاء والتهكم، أو هي المنطقة التي يمكن أن يوزع فيها النور على الخلق، فلعلهم يجدون فيها بعضاً من النور الذي يبقى بعد التوزيع الشامل على المؤمنين والمؤمنات؟ ولكنهم لن يجدوا شيئاً من ذلك، لأن النور قد استنفد من الجو كله.
{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} يفصل بين هؤلاء وهؤلاء، {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} حيث يعيش المؤمنون في داخله {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الذي يطل على المنافقين من خلال النار.
* * *
أهل النفاق ينادون المؤمنين
{يُنَادُونَهُمْ} في حوار أهل النفاق مع أهل الإيمان {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا، في البيت الواحد، أو المنطقة الواحدة، فكيف اختلفت حالنا عن حالكم، ومصيرنا عن مصيركم؟ {قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} وعشتم الفتنة التي سقطتم فيها ودفعتكم إلى الانحراف، {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين أو بالرسالة الدوائر {وَارْتَبْتُمْ} فأخضعتم أفكاركم للريب وللشك الذي تعيشون فيه الاهتزاز الفكري والروحي من دون أن تعملوا على التحرك من أجل أن تخرجوا من ظلمة الشك إلى نور اليقين.
{وَغرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ} فعشتم الأحلام المرضية التي يخيل إليكم فيها أنكم تملكون فيها زمام الأمور، وتسيطرون فيها على قضية المصير، {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} وهو الموت الذي تشعرون فيه بالحقائق البيضاء الواضحة التي تعرفون فيها كيف تواجهون الموقف بجديةٍ ومسؤوليةٍ {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور} وهو الشيطان الذي يقود الإنسان إلى الخديعة بمكره وخداعه، فيخيّل إليه بأن الله سوف يغفر له ويعفو عنه ويدخله جنته، مهما بلغت خطاياه وسيئاته.
وهكذا يقف هؤلاء الموقف الصعب الذي لا يوحي إليهم بأيِّ أملٍ ضئيل، ويصل الأمر إلى النهاية، حيث يقفون أمام حالة اليأس القاتل الذي يغلق الباب على كل أملٍ.
{فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} بصفتكم النفاقية {وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الذين تلتقون معهم في الكفر الباطني، فلن تستطيعوا ولن يستطيع أولئك الحصول على الخلاص بأي ثمن، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فإذا طلبتم الناصر فاطلبوه منها، وربما كان المراد من المولى الذي يتولى أموركم في ما تهيئه لكم من ألوان العذاب، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأي مصير أكثر بؤساً وشقاءً من هذا المصير الذي تتحولون فيه إلى حطبٍ يحترق ويتحول إلى رمادٍ..
تفسير القرآن