تفسير القرآن
الحديد / من الآية 20 إلى الآية 21

 من الآية 20 الى الأية 21

الآيتـان

{اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفي الآخرةِ عذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ* سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (20ـ21).

* * *

معاني المفردات

{لَعِبٌ}: اللعب عمل منظوم لغرض خيالي، كلعب الأطفال.

{وَلَهْوٌ}: اللهو ما يشغل الإنسان عن عمله.

{وَزِينَةٌ}: الزينة ما يتزين به، وهي ضمّ شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال.

{وَتَفَاخُرٌ}: التفاخر والمباهاة بالأنساب والأحساب.

{غَيْثٍ}: الغيث: المطر.

{يَهِيجُ}: من الهيجان وهو الحركة.

{حُطَاماً}: الحطام: الهشيم المتكسر من يابس النبات.

{مَتَاعُ}: المتاع: انتفاعٌ ممتدُّ الوقت.

* * *

الحياة الدنيا متاعُ الغرور

كيف تستسلمون لهذه الحياة الدنيا، فتعتبرونها غاية طموحكم الذي تعيشون له في حركتكم المتنوعة كقيمةٍ كبيرةٍ تمثل وجودكم كله؟

هل تعرفون ما هو المعنى الذي تختزنه في مضمونها الذاتي الذي ينفصل عن الآخرة، هل تحمل شيئاً غنياً يرتفع بالروح ويلتقي بالله؟

ليس هناك شيء في ما هي القيمة وفي ما هي النتائج الخالدة في وعي الإنسان لإنسانيته، والتزامه بقيمته في حياته، {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ} في ما يتنازع فيه الناس ويتفاضلون وينشغلون به {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} فإذا حدقت في كثير من أعمالهم وحركاتهم، رأيتها لا تحمل معنًى عميقاً مفيداً إلا ما يحمله اللعب الذي يمارسه الصغار في حركاتهم اللاعبة التي تشغل الوقت وترهق الجسد، ثم لا يبقى هناك إلا الزمن الضائع والمشاعر الطفولية التي ترتاح إليها الغرائز الساذجة، من دون أن يكون هناك شيء له معنى في العمق الثابت في الذات. وإذا توسعت في رصد أوضاعهم رأيت فيها الأجواء اللاهية التي تثير المشاعر حيث النوازع الذاتية المثيرة والاستغراق في بعض الكلمات والألوان والحركات والأحاسيس القريبة من السطح الساذج للوعي الذاتي، في ما هي الغريزة الباحثة عن غذاء لا غنى فيه يتعب شخصاً أكثر مما يتعب آخر، لأنه أكثر أموالاً وأولاداً {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالاَْوْلادِ}. ولكن السؤال هو أن الأولاد مهما كثروا فسيفارقهم ويفارقونه، وأن المال مهما ازداد في حجمه وقيمته وتعداده، فسيتركه وراء ظهره، إن عاجلاً أو آجلاً، الأمر الذي لا يمثل أية قيمةٍ باقيةٍ في حياته، لأنها ليست عنصراً ذاتياً في كيانه، بل هي شيءٌ طارىءٌ في ما يقترب منه أو يحيط به.

وهكذا يخرج الإنسان من الدنيا من دون أن يأخذ شيئاً من هذه الأجواء الزاهية اللاهية معه، {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} عندما يتساقط المطر بغزارة وينفذ إلى أعماق الأرض فيمنحها الري والحياة، وتنمو البذرة في داخلها لتزهو وتزدهر وتتحول إلى زرعٍ أخضر ممتد يبعث البهجة في النفوس في جمال وروعه، ويعجب الزراع ـ وهو معنى الكفار ـ نباته في شكله الحلو وفي نتاجه الجيد {ثُمَّ يَهِيجُ} في حركته الصاعدة التي تبلغ غايتها، فتبدأ الخضرة في حالة الشحوب والذبول، {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} في ألوانه التي توحي بالموت بعد أن بدأت الحياة تجف من أوراقه، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} عندما يتحول إلى ورقٍ يابسٍ متكسرٍ، ليكون هشيماً تذروه الرياح، فلا يبقى منه شيء للنظر أو للانتفاع الغذائي أو نحو ذلك.

وهكذا تنتهي الدنيا بكل ما فيها من زينةٍ ولهوٍ ولعبٍ وتفاخرٍ وتكاثر، لينتهي الإنسان معها إلى جسدٍ ميتٍ تتحلل أجزاؤه وتتناثر أعضاؤه حتى تتحول إلى عظام نخرة، ويعود تراباً كما كان. ولا يبقى من الإنسان إلا العمل الصالح الذي يؤدي به إلى مغفرة الله ورضوانه، أو العمل السيىء الذي ينتهي به إلى عذاب الله، ما يجعل من الدنيا فرصة العمل الذي يختاره الإنسان في إرادته، ليختار مصيره من خلال ذلك، فهو الذي يمثل عمق الحياة فيها وسر القوة في حركته معها، {وَفِي الآخرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} فتلك هي الحقيقة الخالدة في علاقة الإنسان بالله في رحلته إلى الآخرة.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} الذي يخضع فيه الإنسان للخداع الذي يوحي به البصر أو اللمس أو السمع أو نحو ذلك مما يجتذب الذات لتستغرق في لذته وشهوته وزينته ولهوه وعبثه فلا ينفتح على عمق المعنى الكامن في داخله، وعلى امتداد الفكر الذي تملكه النهايات في معناها. فلا بد للإنسان من أن ينتبه ويستيقظ، فلا ينظر إلى سطح الأمور، بل يحدق في عمقها، ولا يتطلع إلى بداياتها، بل يعمل على أن ينظر إلى نهاياتها، لأن قيمة كل شيء في مضمونه لا في شكله، وفي نهايته لا في بدايته.

* * *

التسابق إلى مغفرة الله

{سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} لتحصلوا على محبته ورضوانه في ما تتقربون به إليه من الأعمال الصالحة التي تذهب بالسيئات، وتغير طبيعة الشخصية في كيانكم من خلال تغيير المعنى الكامن في أفكاركم ومشاعركم في علاقتكم بالله، من مواقع الرغبة في طاعته بدلاً من الانسحاق تحت الضغوط الذاتية التي تثير الأجواء النفسية في اتجاه معصيته. وإذا كانت الحياة فرصةً طائرةً في الزمن، ما يجعل منها شيئاً خاضعاً للزوال بين لحظةٍ وأخرى، فإن على الإنسان أن يبادر في ساحات السباق مع الآخرين ومع الزمن ليحصل على المغفرة، اليوم قبل الغدٍ، لأنه لا يدري متى يأتي أجله، فتضيع منه فرصة الحصول على مغفرة الله {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأرْضِ} في تعبيرٍ كنائي عن السعة التي تحتوي الكون الذي يعرفه الإنسان، كمظهرٍ من مظاهر رحمته في ما يريد لعباده المؤمنين الصالحين من النعيم الخالد في الآخرة، { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} لأنهم الذين انفتحوا على الحقيقة في توحيد الله، وعلى الحياة السائرة في خط رضاه من خلال رسالات الله، وعلى الحركة القوية المستقيمة في النهج الإلهي في حركة القيادة في رسل الله، فكانوا القريبين إليه الحائزين على رضاه، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} من عباده الذين يختارهم من بين الناس ليتفضل عليهم بالنعمة الخالدة والسعادة الكبيرة من خلال روح الإيمان في كيانهم، وحركة الطاعة في حياتهم، وإخلاص المحبة لله في مشاعرهم، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فلا حد لفضله الذي يتسع للوجود كله من خلال سعة رحمته.