تفسير القرآن
الحديد / من الآية 22 إلى الآية 24

 من الآية 22 الى الأية 24
 

الآيــات

{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ} (22ـ24).

* * *

معاني المفردات

{مُّصِيبَةٍ}: الواقعة التي تصيب الشيء، مأخوذة من إصابة السهم الغرض، فالمصيبة هي النائبة.

{مُخْتَالٍ}: المختال من أخذته الخيلاء وهي التكبّر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه ـ على ما ذكره الراغب[1].

{فَخُورٍ}: الفخور: الكثير الفخر والمباهاة.

* * *

ما أصاب من مصيبة إلاّ في كتاب

للحياة نظامها المتوازن الخاص في حركة النظام الكوني وفي واقع الإنسان، على مستوى الفرد والجماعة، فلكلّ ظاهرة سببها، ولكل موجودٍ قانونه الخاص، ما يجعل من حركة الأحداث في حياة الأفراد والجماعات حالةً محسوبةً في كل أوضاعها من حيث ظروفها المحيطة بها، ومن حيث الإرادة التي تديرها. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن يحمل الإنسان في وعيه الفكرة التي توحي بخضوع كل أوضاعه وأفعاله للتقدير الإلهي الذي يقدر لكل شيء حركة وجوده في علاقة المسببات بأسبابها، فليست هناك حالة طارئة، وليست هناك صدفة في أوضاع الحياة، وهذا ما تؤكده هذه الآية.

{مآب أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} من أحداث الحياة التي تثير الآلام وتحرّك الأحزان وتربك المشاعر، مما يصيب الإنسان في نفسه وأهله وماله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} في ما يكتبه الله في اللوح المحفوظ أو نحوه مما يسجل فيه أحداث الوجود، أو في ما يقدره الله في علمه الغيبي المنفتح على الأشياء قبل وجودها، لأنه هو الذي يمنحها الوجود، فيحيط بها في كل أسرارها وأوضاعها، فتكون كلمة الكتاب كناية عن العلم الإلهي، {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أي نخلقها في تقديره لكل حدود وجودها.

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} في ما ينظّم به الحياة في تقديره الذي لا تتخلف فيه إرادته عن المراد، من خلال قدرته المطلقة التي لا يعجزها أي شيءٍ، {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ} فلا تعيشوا السقوط تحت وطأة الحزن المدمر، أو البطر تحت تأثير الفرح الطاغي، عندما تحدث الخسارة أو عندما يأتي الربح انطلاقاً من صدمة المفاجأة التي تثير ذلك هنا وهناك، بل لا بد من مواجهة الأمر على أساس أن الحديث السلبي أو الإيجابي حالة طبيعية في نظام الوجود، لأن الخسارة تخضع لأسبابها الاختيارية أو الاضطرارية، كما أن الربح يخضع لذلك، فلا مجال لأيّ شيءٍ طارئ في ذلك، ولا مفاجآت في عمق الأمور، فإذا تمت للحدث أسبابه، فلا بد من أن يحدث، من خلال الحتمية الكونية للأشياء، في ما قدر الله لها، تماماً كما هي الأشياء الكونية في نظام الطبيعة الخاضع للتقدير الإلهي في التكوين.

وقد جاء في نهج البلاغة: قال أمير المؤمنين(ع): "الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ} ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»[2].

وعلى ضوء ذلك، فلا بد للإنسان من أن يتواضع في حركته، ويتوازن في شعوره، ويثق بالتقدير الإلهي في موارد رزقه، فلا ينتفخ في حالات الفرح ليتحول ذلك عنده إلى حالةٍ استعراضيةٍ من الخيلاء، أو حالةٍ استكبارية من الاستعلاء والفخر، أو حالةٍ أنانيةٍ خائفةٍ تقوده إلى البخل، {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} يتيه على الناس بزهوه، ويفخر عليهم بأعماله، فليس في الأمر فضلٌ ذاتيّ خاص، بل المسألة مسألة إرادة الله في التقدير، ليعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، في خضوعه لحركة الوجود السائرة بتقدير الله.

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بأموالهم التي رزقهم الله إياها، لينتفعوا بها وليعطوا أهل الحاجة منها، لأنّ الله جعل رزق بعض الناس في حوزة البعض الآخر، الأمر الذي يجعل من البخل حالةً تشبه السرقة والخيانة، ويجعل من العطاء حالة انسجامٍ مع طبيعة الوظيفة التي جعلها الله للإنسان في تصرفه في ماله ليعطي ويشجع الناس على العطاء في روحيته الإيمانية الواثقة بالله. ولكن هؤلاء الذين يبخلون {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} لا يحبهم الله، ولا يمنحهم رضاه، لأنهم يبتعدون عن الخط المستقيم الذي رسمه لهم في أفعالهم، ولأنهم يتحركون في ذلك من موقع عدم الثقة بالله، في ما يخافونه من الفقر الذي قد يحدث لهم من خلال العطاء.

{وَمَن يَتَوَلَّ} ويعرض عن البرنامج الذي وضعه الله للناس في القيام بالمسؤولية في دائرة العطاء، فلن يضروا الله شيئاً، ولن يضروا الحياة في نظامها شيئاً، لأن الله سوف يستبدل بهم قوماً غيرهم، فهو الذي يسخِّر من يشاء لمن يشاء، وليس بحاجةٍ إلى أحدٍ من خلقه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ } الذي لا حدّ لغناه، ولا حدَّ لحمده في كل شيء.

ـــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:164.

(2) ابن أبي طالب، علي،نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط:1، 1410هـ ـ 190م، قصار الحكم/439، ص:416.