من الآية 25 الى الأية 27
الآيــات
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ* ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (25ـ27).
* * *
معاني المفردات
{بِالْبَيِّنَاتِ}: البينات: الآيات البينات.
{وَالْمِيزَانَ}: فسروا الميزان بذي الكفتين الذي يوزن به الأثقال.
{بَأْسٌ}: البأس هو الشدة في التأثير.
* * *
هدف الرسالات قيام الناس بالقسط
ما هي مهمة النبوات في حركة الرسل؟ هل هي مهمة روحية يستغرق فيها الإنسان في داخل الأجواء الروحية الغارقة في عالم الغيب الذي ينفتح على الله في حركةٍ عباديةٍ خالصةٍ تحتوي القلب والوجدان والشعور، لتكون النبوات حركةً في دائرة العبادة في ما تتمثل فيه من الصلاة والصوم ونحوهما.
أو هي مهمةٌ حياتيةٌ شاملةٌ تمتد إلى كل جوانب حياة الإنسان ليرتبط الجانب الروحي بالجانب المادي، في إيجاد حالةٍ من التوازن في الكلمات والأفعال والمواقف والعلاقات، بحيث لا يطغى أحد على أحدٍ في الحقوق والواجبات، في ما توحي به كلمة «العدل» من المعنى التشريعي الذي يحدد لكل ذي حق حقه، ويربي الناس على السير في هذا الاتجاه، ليكون «الإنسان العادل» هو الذي يطبق الشريعة العادلة، ويبني الحياة على أساس العدل؟
إن الآية التالية تؤكد المعنى الثاني الذي يجعل من الرسالة حركةً في الواقع، بدلاً من أن تكون مجرد حركة في الروح.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} التي يقتنع فيها العقل بحقائق العقيدة وجدية الشريعة، بالأدلة الواضحة التي تسقط أمامها كل الشبهات لأن الله لا يريد للناس أن يؤمنوا الإيمان الأعمى الذي يسلم بالفكرة من دون قناعةٍ فكريةٍ مرتكزةٍ على الحجة والبرهان، لأن مثل هذا الإيمان لا يوحي للإنسان باحترام نفسه وعقله، ولا يوحي له باحترام العقيدة التي يؤمن بها، ما يجعل مسألة الإيمان، في الوعي القرآني، مسألة تتصل بالعقل والشعور، ليتحرك العقل في المعادلات الفكرية، ولينطلق الشعور في الإيحاءات الشعورية، في ما يمثل حركة العقل والشعور في الإيمان بالحقيقة الفكرية الشعورية. وقد لا يكون من المفروض أن تكون مفردات الإيمان عقلية في ذاتها، بل يكفي أن تكون عقليةً في مرتكزاتها ومواقعها الفكرية.
{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الذي يتضمن مفردات الوحي الإلهي، في المفاهيم العامة للدين، وفي الشرائع التفصيلية لحركة الحياة في نظامها العملي، {وَالْمِيزَانَ} الذي يمثل الخط الفكري والعملي الذي يزن القضايا والأوضاع والمواقف والكلمات، ليمنعها من الاختلال والانحراف عن الخط المستقيم، فيعرف كلّ إنسان من خلال ذلك دوره العملي في ما له وما عليه من الحقوق والواجبات تجاه ربه ونفسه وحياة الناس من حوله، ويتصور على هذا الأساس أن الحياة ليست هي الساحة التي يتحرك فيها الفرد في أنانيته الذاتية في ما قد يتخيله من أنه هو وحده صاحب الحق في كل مواقعها، بل هي الساحة التي يملك فيها كل إنسان موقعاً خاصاً في ما يريد أن يأخذ من أوضاعها العامة والخاصة، فيدرك أنها تتسع له وللآخرين من موقع الحق الثابت للجميع في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالحياة من حولهم، ليتحول ذلك إلى واقعٍ عملي يحقق للحياة نظامها المتوازن الذي يحفظ لها سلامة وجودها في دائرة التكامل العملي.
{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وهو العدل الذي ترتكز عليه سلامة الحياة الفردية والاجتماعية، في ما يؤكده من خضوع الناس للخط الواحد المتوازن الذي تلتقي فيه حقوقهم جميعاً، على أساس التشريعات التفصيلية التي تنظم لهم ذلك كله على مستوى العلاقات والمعاملات والأعمال والأقوال.
وقد نستطيع أن نفهم من هذا الهدف الرسالي، وهو إقامة العدل في إنزال الرسالات، أن مسألة الحكم والتشريع هي المسألة الأساس في كل دينٍ، باعتبارها القاعدة التي يتحرك فيها المنهج الذي يقوم عليه العدل في حياة الناس، فإنه لا معنى لحركة العدل في الواقع، من دون شريعةٍ تنظم له خطوطه، أو حكمٍ يشرف على إدارته وتنفيذه، أو سياسةٍ تدير أوضاعه في ساحة الصراع، وفي حركة الحكم أمام التحديات، وفي سلامة الخط في أجواء الانحراف. وبذلك تكون هذه الآية دليلاً على اندماج السياسة في حركة الدين وانطلاق الدين في آفاق الحكم، رداً على الذين يعتبرون الدين حالةً روحيةً ذاتيةً في علاقة الإنسان بربه، بعيداً عن كل أوضاع الحياة المادية في تعقيداتها التفصيلية، وفي مشاكلها المتنوعة المعقدة.
* * *
بأس الحديد ومنافعه
{وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} في ما يمثله من القوة التي تدير قضايا الحرب والسلم، في ما يصنعه الإنسان منه من السلاح الذي يحمي به نفسه من كل الأخطار التي تواجهه، ليربح الحرب من خلال قوته فيه، ويثبت السلم في مواقعه المرتكزة على توازن القوة أو شموليتها، ويجعل للعدل في حركة الناس قوةً تمنع الظالمين من فرض سيطرتهم على الواقع، وتؤكد الجانب التنفيذي في مواجهة الذين يريدون التمرد عليه والانحراف عنه.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} في ما يشتمل عليه من الخصائص المتنوعة التي تتدخل في كل حاجات الحياة العامة والخاصة، ما يجعل منه العنصر الأساس في صنع الحضارة في خطها العملي بكل مفرداتها ومعطياتها المختلفة {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} عندما يستخدمون الحديد في مواقع القوة التي يتحرك فيها المؤمنون لنصرة الله في دينه، ونصرة الرسل في حركتهم الرسالية، ليتميزوا عن غيرهم من الكافرين الذين يستخدمون القوة للتمرد على الله ورسله. وذلك هو امتحان السلاح في مواقع القوة للذين يملكونه، فيطغى به بعض على الله، ويلتزم بعضٌ آخر بمنهج الله في إدارة مسألة القوة في الحياة، في الخطوط التي يرضاها الله، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فلم تكن الدعوة لنصرته ناشئة من موقف ضعف يوحي بالذل، فهو القوي الذي لا قوة لأحدٍ أمامه، وهو العزيز الذي لا عزة لأحدٍ معه، بل كانت منطلقةً من دائرة الامتحان الذي يتميز به المؤمن عن غيره، عندما يحرك القوة التي هي نعمةٌ من الله، في طاعته سبحانه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} في حلقاتٍ متصلةٍ من السلسلة المباركة في حركة النبوات والرسالات من أجل أن تعيش البشرية في كل تاريخها مع القيادة التي تملك شرعيتها من اصطفاء الله، وتملك وعيها الفكري والروحي والعملي من خلال رسالاته. وكان نوح الرسول الذي يمثل الأبوة الثانية للبشرية إلى جانب حركته الرسالية الفريدة في طبيعتها وصبرها الممتد مع القرون.
وكان إبراهيم الرسول المميز في تنوّع آفاقه وتجربته، وفي صفاء روحيته، وبساطة أسلوبه، ما جعله عنواناً للمضمون الروحي العملي لكل الرسالات من بعده.
وهكذا كانت النبوات في شخصيات رموزها من الأنبياء تنتهي بالنسب إلى هذين الرسولين العظيمين اللذين يوحي الحديث عنهما بهذه الطريقة بالجانب العميق المميّز من شخصيتهما، لا بالجانب النسبي الذاتي منهما.
ولكن ذريّتهما التي احتوت النبوات وحملت الكتاب لم تستقم على هذا الخط بجميع أفرادها، بل اختلفت في ذلك {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ} وهم الذين تحركوا في خط النبوة، كأنبياء وكمؤمنين {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهم الذين انحرفوا عن الخط واتبعوا شهواتهم ومطامعهم وابتعدوا عن الله {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِرُسُلِنَا} الذين توزعوا بين أمم مختلفةٍ وبلادٍ شتى، فبلغوا رسالات الله من خلال ما أنزله الله إليهم من كتب، ومن خلال ما أكدوه من الكتب المنزلة على غيرهم من الأنبياء أولي العزم، وربما كان التعبير بقوله {عَلَى آثارِهِم} موحياً بوحدة الخط الرسالي الذي يتحرك فيه الأنبياء في رسالات الله. {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الذي كان آيةً في خلقه، كما كان نموذجاً مميزاً في حياته ورسالته {وَآتيناهُ الإِنجِيلَ} الذي أراده الله قاعدةً للوعي الروحي المنفتح عليه، {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} من خلال القيم الروحية المنطلقة من قاعدة المحبة الإنسانية الداعية إلى العفو والتسامح والخير الشامل الذي يلتقي بالرأفة والرحمة في امتداداتهما الشعورية في حياة الإنسان والحيوان.
* * *
رهبانية ابتدعوها
{وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فقد عاشوا معاني التأمل والتفكير في الله، واندمجوا بالعبادة الخاشعة الخاضعة المستسلمة لعبوديتهم له، واستغرقوا في ذلك كله حتى تحولت لديهم إلى حالةٍ من العزلة والانقطاع عن الناس، ليتفرغوا إلى الغاية العظيمة وهي الحصول على رضا الله والوصول إلى أعلى مراتب القرب لديه، فكانت الرهبانية نتيجةً لذلك، في ما تصوروه من نتائجها. وهكذا ابتدعوها كقاعدةٍ للسلوك العملي العبادي، وكمنطلق للسمو الروحي، فلم تكن فرضاً من الله عليهم، ولم تنزل كشريعةٍ عباديةٍ في التشريع العبادي الذي يحدد للعبادة فروضها وطقوسها، ولكنها كانت استيحاءً فكرياً وروحياً من القيم الكبيرة التي أكدتها مفاهيم الإنجيل، في ما لم يرد فيه منعٌ خاص، فانطلقوا فيه من خلال رغبتهم في رضا الله.
ولكن المشكلة في مثل هذه الأمور أن تبقى لها روحيتها، وأن تتحرك معاني الصفاء في داخلها، وأن تستقر النهاية كغاية لانطلاقة البداية، لتبقى في امتداداتها الروحية مدداً للإنسان في اتصاله بالله، فما الذي حدث بعد ذلك؟
لقد تحولت إلى طقوسٍ وعادات وشعائر خاليةٍ من الروح، وابتعدت عن التوازن في الجانب الواقعي العملي في حاجات الإنسان الخاصة، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} لأن الإنسان الذي يريد رضا الله لا بد له من أن يعرف الطريق إليه، فلا يبتدعه من نفسه إلا من خلال ما يقتنع به من حدود الله في ذلك، لأنه سوف يبتعد عن الطريق الحق نحو رضوان الله. {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} على معاناتهم الفكرية والعملية في خط الإيمان، لأنهم كانوا الجادين في مواجهة الحقيقة العقيدية في رحاب الله، كما كانوا المخلصين في الالتزام بالنتائج العملية التي يفرضها الإيمان على المؤمنين {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} لأنهم كانوا بعيدين عن الله في روحية المضمون الفكري والعملي، لأن الله لا ينظر إلى جانب السطح في الشكل، بل إلى جانب العمق في المضمون، في ما هي العقيدة وفي ما هو الشعور.
تفسير القرآن