تفسير القرآن
المجادلة / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 4

 المقدمة +من الآية 1 الى الآية 4
 

سورة المجادلة
مدنية ـ وهي اثنتان وعشرون آية

في أجواء السورة

في هذه السورة المدنية جولةٌ تشريعيةٌ وحركيةٌ وتربويةٌ في مجتمع المسلمين الذي نزل القرآن من أجل أن يجعل منه النموذج المميز، القدوة للمجتمعات الإسلامية اللاحقة.. وفي السورة تبيان لجملة مسائل منها ما يتعلق بالقضايا الخاصة التي تتصل بالعلاقات الإنسانية في نطاق العلاقات الزوجية، كتلك المرأة التي ظاهرها زوجها ليعطل بذلك حركية العلاقة بينه وبينها ويحرّم بذلك ما أحل الله له، بطريقةٍ لا ترتكز على قاعدةٍ موضوعيةٍ معتبرة. وهكذا كانت المسألة إطلالةً على المسائل التي تلتقي معها في الشكل والمضمون، دون الحالات الجزئية في نطاقها الخاص.

وفي أجواء الأحاديث التي كانت تتخذ الشكل السرِّي، في ما كان يخوضه أعداء الجماعة الإسلامية من الكلمات التي تتضمّن الكيد للإسلام وللمسلمين، في إيحاءٍ داخليٍّ بالأمن من اطّلاع الآخرين عليهم وكشف أسرارهم، ولتضع السورة المسألة في دائرة رقابة الله على كل الأجواء السرية، ولتوجه الجميع إلى التناجي بالبر والتقوى، ثم تلتقي بالمسلمين، في مجلس الرسول، لتؤدبهم بالأدب الإسلامي في مخاطبته وطاعته.

ويتحرك الجوّ في الحديث عن المنافقين الذين ينفتحون على اليهود في ما يتآمرون به على المسلمين، ويحاولون إخفاء ذلك بالكذب والحلف للمؤمنين، بحيث يكون الحلف الكاذب هو الطابع الذي يطبع طريقتهم في التعاطي مع الآخرين، كما يكون هو الطابع في موقفهم من الآخرة، ظناً منهم أن ذلك يمثل الوسيلة في الخلاص، ولكن الله يتحدث معهم بصفة أنهم الأخسرون الذين لا يستفيدون من ذلك شيئاً، فذلك هو خط حزب الشيطان الذي يتلوّن بألوانٍ مختلفةٍ بين شعارٍ يحمل كلمة الله، وبين موقف يقف ضد المضمون الحي للكلمة.

ويقف حزب الله في نهاية السورة، ليؤكد الموقف الحاسم الذي يواجه العالم كله حتى في دائرة الأقرباء، ليرفض أية مودةٍ روحيةٍ وعملية، إذا كان هؤلاء من المتمردين على الله ورسوله، لأن ذلك هو وحده الموقف الحق الذي يتميز به المؤمنون عن غيرهم.

وفي ضوء ذلك، كانت السورة من السور الحركية التي تنتقل من جانب الواقع إلى خط العقيدة في التصور والحركة والموقف.

ــــــــــــــــــــ

الآيــات

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1ـ4).

* * *

معاني المفردات

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}: المراد بالسمع هنا استجابة الدعوة وقضاء الحاجة، من باب الكناية، وهو شائع.

{وَتَشْتَكِي}: الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه، والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه.

{تَحَاوُرَكُمآ}: التحاور، التراجع وهي المحاورة، يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا.

* * *

قضاء الله حاجة المجادلة في زوجها

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} وهذه هي القضية التي انطلق منها التشريع الإسلامي في مسألة الظهار، كما هي الطريقة القرآنية في حركة الوحي في القضايا العامة المتصلة بالخط التشريعي الإسلامي، في انطلاقه من المشكلة في ساحة الواقع، ليكون الحكم الشرعي الكلي متجسداً في وعي الناس بالواقع، فيتحسس الناس المشكلة في القضية الجزئية الصغيرة، ليواجهوا الحل في الخط الواسع الكبير، وهذا ما أثارته قصة تلك المرأة التي غضب عليها زوجها الصحابي فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكان الجاهليون يرون في ذلك لوناً من ألوان الطلاق، وأسقط في يد المرأة لهذا الأسلوب في إنهاء العلاقة الزوجية، وحاول الرجل أن يتراجع فأبت عليه العودة إلى العلاقة، وأرادت، أو أراد منها، أن تذهب إلى النبي(ص) لتحدثه عن ذلك شاكيةً له ما حدث. واستمع النبي إليها، ولم يكن لديه شيء من التشريع الذي يحل المشكلة بطريقة العودة إلى الزوجية فيما بينهما وبدأت تلح على الرسول(ص) لأن المسألة تمثل مركز الخطورة في حياتها، ولم يكن لديه شيء، ورفعت شكواها إلى الله ودعته إلى الاستجابة لشكواها. وأنزل الله هذه الآيات ليعالج المسألة الكلية في التشريع الحاسم الذي يجمع بين الحل في إعادة العلاقة الجنسية إلى طبيعتها الشرعية، لأن الكلمة لم تلغ الزواج، وبين العقوبة العملية التي لا بدّ من أن يتحملها الرجل قبل أن يعود إلى سابق عهده.

وهكذا سمع الله قول هذه المرأة المستضعفة التي كانت تتحدث مع النبي {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} فتطلب منه حلاً شرعياً، فلم تكن مقتنعة بأن هذه الكلمة الطائشة الصادرة من زوجها تستطيع إنهاء الزواج، فهي كلمة غير واقعية، فكيف يشبهها بأمه لتحرم عليه كما تحرم عليه أمه، فللأم عمق النسب الخاضع لحرمة العلاقة العضوية في اللحم والدم، فكيف يكون للزوجة ذلك؟! فإذا لم تكن الكلمة واقعيةً، فلن يكون مضمونها الشرعي ـ في ما يستهدفه الزوج منها ـ واقعياً؟ ربما كانت تفكر بهذه الطريقة.

{وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} وهو اللطيف بعباده، الرحيم بهم { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} حيث يسمع كل شكاواهم في داخل ذواتهم، ونجاواهم في دائرة حوارهم مع الآخرين، ويبصر كل مواقع الحزن والألم في حياتهم.

وتلك هي الرحمة الإلهية التي يحسّ الإنسان بروحيتها في عمق شعوره عندما يستمع الرب العظيم الرحيم إليه وهو يطلب منه حكماً شرعياً لحل مشكلته الزوجية، كما يطلب منه في موقف آخر رزقاً غذائياً لحل مشكلته الغذائية. وهذا هو الحل بكل تفاصيله الشرعية.

* * *

مفهوم الظهار وحكمه

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} كما كان يفعل الجاهليون، فينفصلون عن زوجاتهم بهذه الكلمة التي يقول فيها أحدهم لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، كناية عن حرمتها عليه جنسياً كحرمة أمه عليه، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فليست الكلمة قريبةً من الحقيقة، فإن الحقيقة غير هذا {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} في ما تمثله الولادة من علاقة المولود بالوالدة بطريقةٍ عضويةٍ، {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} فقد حرم الله على الناس قول هذه الكلمة، ورفض اعتبارها صيغة طلاق، واعتبرها كلاماً باطلاً لا قيمة له ولا معنى {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} للتائبين من الذنب، الراجعين إلى خط الطاعة. وهل تعني هذه الفقرة أن الظهار حرام معفو عنه، على أساس أنها مختصة به، أو أنها كلمة تتحدث عن العفو والمغفرة الإلهية كخط عام في صفات الله؟ ذهب بعض الفقهاء إلى الأول، وذهب الشهيد الثاني إلى الثاني.

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فلا بد لهم من التكفير عن ذلك بطريقةٍ عملية، فلا يكفي الندم وحده، فليعتق الزوج رقبة، وليحررها، ليكون ذلك رمزاً للحرية الروحية التي يريد أن يؤكدها في ذاته، لتتحرر إرادته بذلك من سيطرة الخطيئة، كما يحرر إنساناً آخر من سيطرة العبودية في عبودية الإنسان للإنسان، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} في ما يريده الله لكم من دفع ضريبة الخطيئة بطريقةٍ وبأخرى، حتى يكون ذلك تأكيداً للندم في خطه العملي، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فهو الذي يعرف عمق الفعل في خلفياتكم الروحية، ويعرف كيف يحرك التوبة في ضمائركم لترجعوا عن الخطأ من ناحيةٍ عملية.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فذلك هو السبيل لإحساس الجسد بالحرمان في الصيام ككفارةٍ للتعدي على حدود الله، فلا يعود إلى ذلك في المستقبل {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} ليكون الإطعام في ما يمثله من عبادة العطاء وجهاً من وجوه التعبير عن التضحية بالمال الذي يحل به المشكلة الغذائية للجائعين من المساكين، ليحل به مشكلته الروحية، {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الجانب العملي من الإيمان، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} في حرماته التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها، كدليلٍ على الإخلاص للإيمان الحق {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في ما تجاوزوه من حدود الإيمان في العقيدة والعمل مما قد يوحي بأن المراد به الكفر العملي لا العقيدي.