من الآية 7 الى الآية 10
الآيــات
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (7ـ10).
* * *
معاني المفردات
{نَّجْوَى}: النجوى هي الحديث السرّي الدائر بين اثنين أو أكثر.
* * *
النجوى في مواقعها وإيحاءاتها
يتحدث الله عن النجوى التي تحدث في الموارد التي لا يريد المتحدثون فيها أن يطلع عليها الآخرون ممن لا علاقة لهم بها، أو ممن كانت موجّهةً ضدهم. وقد تحدث في بعض الحالات كنتيجة لإيجاد حالةٍ نفسيةٍ صعبةٍ عند بعض الناس، انطلاقاً من الإيحاء بالخوف الذي قد يثيره الشعور بحركة الأجهزة الخفية السرية في إدارة الأحاديث الخاصة للتخطيط للإضرار بهم.
وهذا هو الموضوع الذي أرادت هذه الآيات أن تعالجه في دائرة الإيمان بالله الذي يوحي بالرقابة الشاملة التي لا تغفل عن أيِّ شيءٍ، مهما كان دقيقاً أو خفياً، وفي دائرة الواقع الذي يدور فيما بين الناس حول النجوى، وفي ضرورة التأكيد على الجانب الإيجابي في مضمونه، والابتعاد عن الجانب السلبي، وفي تأثيراته النفسية.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} فذلك هو الخط العقيدي الذي يصل إلى مستوى الوضوح، كما لو كان أمراً محسوساً مرئياً بالعين المجردة، لأن خالق الكون كله، والمهيمن على الأمر كله في تدبيره وتنظيمه، لا بد من أن يكون محيطاً بكل شيء، فلا تخفى عليه خافيةٌ من خفايا خلقه، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} لأنه الحاضر الذي لا يغيب عن أحدٍ، ولا يغيب عنه أحد، لأن الكون لديه بمنزلةٍ سواءٍ، في حضوره عنده، وفي حضوره فيه.
{ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في ما يوحي به ذلك من معنى المسؤولية الجزائية في عقاب الله، ليتحوّل الإحساس بالرقابة الإلهية الخفية الشاملة إلى إحساسٍ بالمسؤولية الدقيقة التي تلاحق الإنسان في سره، كما تلاحقه في علانيته، فليس لدى الله في ما يعلمه من شؤون خلقه سر وعلانية، بل الأمر في الوضوح لديه على حد سواء، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى} فقد يبدو من الآية أن هناك قوماً كانوا يجتمعون في اجتماعاتٍ سريةٍ ويتحدثون فيما بينهم بطريقةٍ توحي بالإثارة التي تترك مجالاً واسعاً للخوف والقلق في طبيعة المواضيع العدوانية ضد المسلمين، وأن النبي كان قد نهاهم عن ذلك، فيعدونه بالامتناع {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} تمرداً وعناداً واستهتاراً.
{وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} فقد كان هؤلاء من المنافقين، أو من اليهود الذين كانوا يعملون على تركيز قاعدة النفاق في محاولاتهم المتنوعة في إرباك الواقع الإسلامي في حياة الرسول(ص) والمسلمين.. ولهذا فقد كانت نجاواهم تتضمن التخطيط للإثم في ارتكاب ما حرمه الله، والعدوان على الأمن الإسلامي العام، ومعصية الرسول(ص)، في ما يأمر به أو ينهى عنه، في ما يتعلق بالتشريع أو بإدارة الحكم الإسلامي في مفرداته التنظيمية.
* * *
التحية بين الجاهلية والإسلام
{وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} كدلالةٍ على الخبث والعداوة والاستهانة بك، وقد جاء في أسباب النزول بما معناه أن أناساً من اليهود دخلوا على رسول الله(ص) وقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. والسام هو الموت. فقال الرسول: وعليكم، فنزلت هذه الآية[1]. وقد دلّت هذه الرواية على اللباقة الرائعة التي كان يتمتع بها الرسول(ص)، حيث كان يردّ على العدوان، بكل هدوءٍ وإخلاصٍ، من دون إثارة أية مشكلةٍ أو ضجة، ليفهم المعتدي طبيعة الرد، فيتصاغر لدى نفسه، ويعرف بأن الرسول لم يكن ساذجاً في موقفه ليترك للسخرية أن تأخذ مجالها في طريقتهم، ليذهبوا ويقولوا لجماعتهم بأن الرسول لم ينتبه للفرق بين كلمة السام وكلمة السلام، إذا أجابهم بقوله: وعليكم السلام.
وربما نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب في ما قد نواجهه من أمثال هذا الأسلوب من أعداء الإسلام، لنتعلم اللباقة الهادئة في الرد، في مواجهة هذا المنطق.
وقد جاء في تفسير القمي: أنهم كانوا يحيونه بقولهم: أنعم صباحاً وأنعم مساءً، وهو تحية أهل الجاهلية[2]، بينما كان الله يحييه بتحية الإسلام وهي السلام عليكم، لأنهم لا يريدون للتشريع الإسلامي في التحية أن يأخذ دوره الطبيعي في الحياة العامة للناس.
وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يثيروه في حياتهم الاجتماعية، فيؤكدوا تحية الإسلام في تقاليدهم، لأن ذلك هو مظهر أصالة الشخصية الإسلامية التي تلتزم الإسلام في الكلمة المميزة والفكرة الغنية والأسلوب الفريد الذي يتميز به الإسلام عن غيره، ما قد يجعلنا نفكر بأن وحدة المعنى لا تكفي في طريقة التعبير، بل لا بد من التأكيد على الكلمة الواحدة في تقاليد الشريعة.
{وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي لو كان محمد نبياً لنزل علينا العذاب بما نقوله من الكلمات التي تتحداه وتسخر به وتسيء إليه، تماماً كما لو كانوا يستعجلون العذاب كدليلٍ على عدم صدقه. ولكن الله يجيبهم على ذلك بأن النتيجة التي سيصلون إليها إن عاجلاً أو آجلاً ستعرفهم حقيقة الموضوع.
{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فقد أعدها الله للكافرين وللمعاندين.
* * *
التناجـي بالبـرّ
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}.
وهذا نداء للمؤمنين من أجل استثارة إيمانهم ليتحرك في عمق شخصيتهم، من أجل أن تبقى الشخصية تجسيداً للإيمان الحي، فتلتزم بثوابته، وتستقيم على خطه، ولا تهتز في مواقع الهزاهز، ولا تنحرف في خطوط الانحراف، من خلال طبيعة المجتمع الذي قد يضغط على أفراده، فيسقطون تحت تأثير ضغطه، كما يحدث للكثيرين الذين يتأثرون في حياتهم العامة بالأوضاع المنحرفة في مواقفهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع إخلاصهم العملي في المسألة العبادية، لغفلتهم عن امتداد الإيمان في حياتهم العملية.
ولهذا أراد الله في هذا النداء أن يدفعهم إلى الصدمة التي تهز أعماقهم في الصميم، ليبتعدوا عن الخضوع للتيارات الضاغطة في المجتمع، في ما توحي به من الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ليتمردوا على ذلك لمصلحة التيار الإيماني الرسالي، ليكون جوُّ النجوى موحياً بالتفكير العقلاني الهادىء الذي ينفتح على الخير والتقوى من أوسع أبوابهما.
{وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} لأن هذين الخطين هما اللذان يبنيان الحياة في مواقع السمو الروحي والعملي، في ما توحي به كلمة البر من المعنى الشامل الذي يشمل كل القيم الروحية والاجتماعية في الحياة، وفي ما توحي به كلمة التقوى من المراقبة الدائمة لله في كل النبضات الروحية والانطلاقات الفكرية والخطوات العملية والمواقف السلبية والإيجابية، ليكون الإنسان إنسان الله الذي يوحي لنفسه بالحب له والخوف منه والرغبة العميقة في الحصول على رضاه.
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} مما يجعل التقوى الخط العريض للحياة، الذي لا يقتصر على حالة النجوى، كما يوحي بالمسؤولية في الموقف العظيم الذي يقف فيه الجميع في يوم المحشر، ليواجهوا لحظات الحساب الكبير.
* * *
نجوى الشيطان والقوى المستكبرة
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} في إيحاءاته التهويلية، وأساليبه التخويفية في إثارة الهزيمة النفسية بوسائله المتعددة المثيرة، {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} في ما قد يتحسسونه في مشاعرهم من الشعور بالإحباط في العزيمة، عندما يخيّل إليهم بأنهم محاصرون من كل الجهات، ومراقبون من كل الناس، وملاحقون من جميع القوى التي تجتمع فيما بينها في الدوائر السرية، لتخطط لإضرارهم والإيقاع بهم والكيد لهم في جميع أمورهم، مما يحشد حياتهم بالحزن العميق الممتد في كيانهم كله. وهذا ما تحاوله القوى الكافرة المستكبرة المتمثلة في تحريك الأجهزة السرية التجسسية المخابراتية، لتطويق القوى المؤمنة المستضعفة، والتي تتحرك في مواقع الإيمان والحرية والعدالة ضد المستكبرين والظالمين والكافرين، وتحويل الإعلام إلى وسيلةٍ من وسائل الإثارة النفسية في تهويل الأوضاع بالمستوى الذي تسقط معه الإرادة الإيمانية الواعية المتحدية أمام الحديث عن ضخامة هذه الأجهزة وسيطرتها المطلقة، وخططها الخفية الدقيقة التي تلاحق أهدافها، فلا تخطىء في أيّ موقعٍ من مواقعها، لتستسلم الشعوب لها في سقوطها الكبير تحت تأثير الهزيمة النفسية.
وتلك هي الإيحاءات الشيطانية التي تريد من خلالها أن يحزن الذين آمنوا، ليقودهم الحزن إلى اليأس والسقوط من دون فرقٍ بين شياطين الإنس والجن، في الوسائل البدائية أو المتحضرة.
ولكن الله يريد للمؤمنين أن يستمدوا قوتهم من قوته، وإرادتهم من إرادته، ليستثيروا عمق هذا الإيمان في إيحاءاته الروحية التي تفتح للعقل النافذة الواسعة على الفكرة الإيمانية في خضوع الكون لله في كل شيء، فلا يملك أي مخلوق النفع أو الضرر إلا بإذن الله، في إرادته المتعلقة بالأشياء بشكل مباشر أو غير مباشر، فللإنسان أن يواجه الموقف بكل قوة، متوكلاً على الله، بعد استجماع كل الأسباب التي أدار الله الكون من خلالها، بكل تفاصيله، ليعلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله على كل شيءٍ قدير، الأمر الذي يجعل التحدي هو علامة القوة في شخصية المؤمن، أمام الآخرين الذين يريدون إسقاط شخصيته من خلال إسقاط إرادته، وهذا ما أراد الله أن يؤكده في هذه الفقرة التالية، في حديثه عن المؤمنين.
{وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} في قوانينه الجزئية أو الكلية في حركة الكون والحياة والإنسان، فلا يخافوا من شيء ولا يحزنوا على شيء، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في ما يوحي به التوكل من الثقة بالله، والإسلام لأوامره ونواهيه، ورفض الخوف من القوى الخفية الكامنة في الحياة والإنسان.
ــــــــــــــــــ
(1) يراجع: الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد (النيسابوري)، أسباب النزول، دار الفكر، 1414هـ ـ 1994م، ص:229.
(2) تفسير الميزان، ج:19، ص:198.
تفسير القرآن